الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(باب التعزية)
أي تسلية المصاب وحمله على الصبر كأن يقول له أعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر حتى يكون ممن قال الله فيهم وبشر الصابرين الآية
(ص) حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ الْهَمْدَانِيُّ نَا الْمُفَضَّلُ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ سَيْفٍ الْمَعَافِرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَبَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-يَعْنِي مَيِّتًا- فَلَمَّا فَرَغْنَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وَانْصَرَفْنَا مَعَهُ فَلَمَّا حَاذَى بَابَهُ وَقَفَ فَإِذَا نَحْنُ بِامْرَأَةٍ مُقْبِلَةٍ -قَالَ أَظُنُّهُ عَرَفَهَا- فَلَمَّا ذَهَبَتْ إِذَا هِيَ فَاطِمَةُ عليها السلام فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- "مَا أَخْرَجَكِ يَا فَاطِمَةُ مِنْ بَيْتِكِ". فَقَالَتْ أَتَيْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ فَرَحَّمْتُ إِلَيْهِمْ مَيِّتَهُمْ أَوْ عَزَّيْتُهُمْ بِهِ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- "فَلَعَلَّكِ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى". قَالَتْ مَعَاذَ اللَّهِ وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ فِيهَا مَا تَذْكُرُ. قَالَ "لَوْ بَلَغْتِ مَعَهُمُ الْكُدَى". فَذَكَرَ تَشْدِيدًا فِي ذَلِكَ فَسَأَلْتُ رَبِيعَةَ عَنِ الْكُدَى فَقَالَ الْقُبُورُ فِيمَا أَحْسِبُ.
(ش)(رجال الحديث)(المفضل) بن فضالة و (ربيعة بن سيف) بن ماتع بكسر التاء الاسكندراني روى عن فضالة بن عبيد وعياض بن عقبة وآخرين. وعنه سعيد بن أبي هلال وسعيد ابن أبي أيوب والليث وجماعة. وثقه العجلي وقال البخاري روى أحاديث لا يتابع عليها وعنده مناكير وذكره ابن حبان في الثقات وقال يخطئ كثيرًا وضعفه النسائي. توفي في عهد هشام بن عبد الملك روى له أبو داود والنسائي والترمذي. و (المعافري) نسبه إلى معافر قبيلة باليمن تنسب إليها الثياب المعافرية
(معنى الحديث)
(قوله قبرنا مع رسول الله الخ) أي دفنا معه ميتًا والعناية من أبي عبد الرحمن الحلبي يشير إلى ان عبد الله بن عمرو وشيخه لم يذكر مفعول قبرنا وأن المعنى عليه
(قوله أظنه عرفها) أي قال عبد الله بن عمرو أظن أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عرف المرأة المقبلة
(قوله فلما ذهبت إذا هي فاطمة الخ) يعني لما وصلت إليه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وكادت أن تذهب عرف أنها فاطمة. وفي رواية النسائي بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه
وعلى آله وسلم إذ بصر بامرأة لا تظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهيت إليه فإذا هي فاطمة بنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم
(قوله فرحمت إليهم ميتهم الخ) أي دعوت له بالرحمة وسيلت أهله بالصبر، فأوفى قوله أو عزيتهم بمعنى الواو كما في رواية النسائي
(قوله فلعلك بلغت معهم الكدى) يعني القبور كما ذكر بعد والكدى بضم الكاف جمع كدية، وهي في الأصل القطعه الصلبة من الأرض سميت قبورهم بها لأنها كانت تحفر في المواضع الصلبة خشيه السقوط
(قوله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر) تعنى الوعيد الذي ذكره في زيارة النساء القبور كما سيأتي عن ابن عباس مرفوعًا (لعن رسول الله زائرات القبور)
(قوله فذكر تشديدًا في ذلك) يعني في زيارة النساء القبور وقد صرح به عند النسائي ففيه فقال لو بلغتيها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك. والمعنى أنها لو ذهبت معهم إلى المقابر ما رأت الجنة أبدًا على حد قوله تعالى "ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط" وذهاب النساء إلى القبور ليس كفرًا بالاتفاق فالمراد التغليط والتشديد في ذلك، أو يقال أنها لو ذهبت إلى المقابر لأفضى بها ذلك إلى معصية أخرى وهكذا إلى أن يصل بها الأمر إلى الكفر فلا ترى الجنة أصلًا أعاذها الله من ذلك.
وهذا بناء على القول بأن أهل الفترة غير ناجين، أما على القول بنجاتهم فيكون المعنى أن عبد المطلب لا يدخل الجنة مع السابقين بل يتقدم ذلك عذاب أو شدّة، فلو بلغت معهم المقابر لتأخرت عن رؤية الجنة ودخولها إلى أن يدخلها جد أبيها عبد المطلب
(فقه الحديث) دل الحديث على استحباب الذهاب مع الميت إلى القبر والوقوف عنده إلى دفنه. وعلى جواز خروج المرأة إلى تعزية جيرانها وصواحباتها. وعلى عدم جواز ذهاب المرأة إلى القبر. وعلى مشروعية التعزية.
وقد جاء في فضل التعزية والترغيب فيها أحاديث. منها ما أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن محمَّد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة"
ومنها ما أخرجه هو والترمذي والحاكم عن الأسود عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال "من عزى مصابًا فله مثل أجره" قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن عاصم. ويذكر المعزي للمصاب ما يحمله على الصبر والرضا بالقضاء ولم يحد النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في ذلك حدًا وقد ورد عنه في ذلك ألفاظ.
منها ما أخرجه البخاري ومسلم ويأتي للمصنف في "باب البكاء على الميت" من حديث أسامة بن زيد أن ابنة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أرسلت إليه وأنا معه وسعد وأحسب أبيًا أن ابني أو ابنتي قد حضر فاشهدنا الحديث.
ومنها ما رواه الحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل ان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كتب إليه يعزيه في ابن له
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمَّد رسول الله إلى معاذ بن جبل سلام عليكم فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو "أما بعد" فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر ورزقنا وإياك الشكر فإن أنفسنا وأمولنا وأهلينا وأولادنا من مواهب الله عز وجل الهنيئة وعواريه المستودعة متع بها إلى أجل معدود ويقبضها لوقت معلوم ثم افترض علينا الشكر إذا أعطى والصبر إذا ابتلى فكان ابنك من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعه متعك به في غبطة وسرور وقبضه منك بأجر كثير الصلاة والرحمة والهدى إن احتسبت فاصبر ولا يحبط جزعك أجرك فتندم، واعلم أن الجزع لا يرد شيئًا ولا يدفع حزنًا وما هو نازل فكان والسلام.
ومنها ما رواه الإمام أحمد أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عزى رجلًا فقال له رحمك الله وآجرك:
ومنها ما ورد في تعزية الملائكة للصحابة في النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم. فقد روى الحاكم وحسنه من حديث جابر بن عبد الله قال: لما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم جاءتهم الملائكة يسمعون الحس ولا يرون الشخص قالت: السلام عليكم ورحمه الله إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفًا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا إنما المحروم من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمه الله. وروى الشافعي في مسنده نحوه.
وروى الحاكم أيضًا من حديث أنس قال لما قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أحدق به أصحابه فبكوا حوله واجتمعوا فدخل رجل أصهب اللحية "فيها حمرة" جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة وعوضًا من كل فائت وخلفًا من كل هالك فإلى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا ونظرة اليكم في البلاء فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر وانصرف فقال بعضهم لبعض تعرفون الرجل؟ قال أبو بكر وعلي نعم هذا أخو رسول الله الخضر
وقد ذكر الفقهاء في ذلك عبارات. منها آجركم الله في مصيبتكم وأعقبكم الله خيرًا منها إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومنها أعظم الله أجرك وجبر مصيبتك وأحسن عزاءك عنها وأعقبك عقبًا نافعًا لدنياك وآخرتك. ومنها أعظم الله أجرك وأحسن عقابك وغفر لمتوفاك.
ومنها أعظم الله أجرك على مصيبتك وأحسن عزاءك عنها وعقباك منها غفر الله لميتك ورحمة وجعل ما خرج إليه خيرًا مما خرج منه.
واختلفوا في وقت التعزية. فذهبت المالكية والحنفية وأحمد وجمهور الشافعية إلى استحبابها قبل الدفن وبعده بثلاث أيام وتكره بعدها لأن المقصود تسكين قلب المصاب والغالب سكونه بعد الثلاثة فلا يجدد له الحزن وقد جعل النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم الثلاثة نهاية الحزن حيث قال "لا يحل لامرأه تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثه أيام إلا على زوج أربعه أشهر وعشرًا" رواه البخاري. واستثنوا من ذلك ما إذا كان المعزي أو المعزى غائبًا فتبقى التعزية له إلى قدومه. قال الطبري والظاهر امتدادها بعد قدومه
ثلاثة أيام، ويلحق بالغيبة المرض وعدم العلم بالوفاة. وذهب بعض الشافعية إلى أنه لا حد لوقتها قال النووي في شرح المهذب: حكى إمام الحرمين وجهًا أنه لا أمد للتعزية بل تبقى بعد ثلاثة أيام وإن طال الزمان، لأن الغرض الدعاء والحمل على الصبر والنهي عن الجزع وذلك يحصل مع طول الزمان وبهذا الوجه قطع أبو العباس بن القاص. اهـ
واختلفوا أيضًا في الجلوس لها بأن يجتمع أهل الميت في نحو بيت ويقصدهم من أراد التعزية. فقالت الشافعية والحنابلة بكراهته للرجال والنساء بل ينصرف أهل الميت إلى حوائجهم فمن صادفهم عزاهم لأن الجلوس لها محدث وبدعة
"أما ما ثبت" عن عائشة من أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم جلس في المسجد لما جاءه قتل زيد بن حارثه وجعفر وابن رواحة "فلا نسلم" أن جلوسه كان لأجل أن يأتيه الناس للتعزية. قال الشافعي في الأم: أكره المآتم وهي الجماعة وإن لم يكن لهم بكاء فإن ذلك يجدد الحزن ويكلف المؤنة وقال العلامة عبد الله بن قدامة الحنبلي في كتابه المغني قال أبو الخطاب: يكره الجلوس للتعزية، وقال ابن عقيل يكره الاجتماع بعد خروج الروح لأن فيه تهييجًا للحزن وقالت الحنفية يجوز الجلوس للتعزية ثلاثة أيام للرجال دون النساء في غير مسجد، وقال الزيلعي في شرح الكنز لا بأس بالجلوس للتعزية ثلاثة أيام من غير ارتكاب محذور من فرش البسط والأطعمة لأنها تتخذ عند السرور وذهب جماعة منهم إلى كراهته مطلقًا: قال العلامة ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار: وفي الإمداد قال كثير من متأخري أئمتنا يكره الاجتماع عند صاحب البيت ويكره له الجلوس في بيته حتى يأتي إليه من يعزي بل إذا فرغ ورجع الناس من الدفن فليتفرقوا ويشتغل الناس بأمورهم وصاحب البيت بأمره. ونقل الحطاب من المالكية عن سند أنه يجوز الجلوس لها ولم نعثر فيه على مدة معينة.
ومحل هذا الخلاف إذا خلا المجلس من المنكرات وإلا امتنع اتفاقًا كما يقع من غالب أهل زماننا، فإن جلوسهم للتعزية يشتمل على مخالفات (منها) أن أهل الميت يجلسون في مكان بقصد أن تعزيهم الناس ويحضرون أشخاصًا يقرءون القرآن بقصد إسماع الحاضرين في نظير أجر يأخذونه على قراءتهم، وغالب هذه المجالس في الأمصار تكون في الشوارع والطرقات المعدة للمرور ويكثر إذ ذاك شرب الدخان واللغط ويحيي بعضهم بعضًا بتحيات غير إسلامية نحو نهارك سعيد أو ليلتك سعيدة فيشوشون على القارئ برفع أصواتهم وينضم إلى ذلك اشتغالهم بشرب نحو القهوة والشاي مع رفع الأصوات ومن المعلوم أن هذه الأمور كلها منكرات مخالفة لما كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم وأصحابه والسلف الصالح مضادة للشريعة المطهرة ولا سيما قراءة القرآن في الطرق القذرة وحال شرب الدخان الذي تنفر منه الملائكة وكل من له طبع سليم من الآدميين. كيف يرتكب عاقل شيئًا مما ذكر، وقد ورد في الفرقان والتوراة أنه يلزم المستمع كلام الله تعالى أن يكون في غاية
الأدب والخشوع متدبرًا ما يتلى عليه ليعلمه الله بالرحمة والإحسان قال الله تعالى "وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون" وقال تعالى "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" وقال في التوراة "يا عبدي أما تستحي مني إذا يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل على الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبره حرفًا حرفًا حتى لا يفوتك منه شيء وهذا كتابي أنزلته إليك انظره كم فصلت لك فيه من القول وكم كررت فيه عليك لتتأمل طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه أو كنت أهون عليك من بعض إخوانك؟ يا عبدي يقصد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل في حديثه أومأت إليه أن كف وها أنا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك؟ "اهـ
وأيضًا فإن شرب الدخان في ذاته حرم فضلًا عن حرمة تعاطيه في مجلس القرآن. ووجه حرمته أنه مضر بالصحة بأخبار الأطباء، ولا خلاف بين العلماء في تحريم تعاطي المضر. وأيضًا هو مؤذ لمن يتعاطاه خصوصًا في مجامع الصلاة ونحوها ومؤذ للملائكة. وقد روى الشيخان في صحيحهما عن جابر مرفوعًا "من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته" ومعلوم أن رائحة الدخان ليست أقل من رائحة الثوم والبصل وفي الصحيحين عن جابر أيضًا "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس" وفي الطبراني في الأوسط عن أنس بإسناد حسن مرفوعًا "من آذى مسلمًا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله تعالى" وفي شرب الدخان إسراف وتبذير إذ ليس فيه نفع مباح خال عن الضرر بل فيه الضرر بأخبار أهل المعرفه كما علمت وحرمة ما فيه الإسراف أو الضرر ثابتة عقلًا وشرعًا
ولهذا أفتى كثيرًا من أكابر علماء المذاهب بتحريمه. فقد سئل عنه الشيخ مصطفى البولاقي المالكي بما نصه: ما قولكم دام فضلكم في فقيه دخل بيتنا فوجد فيه جماعة يقرءون القرآن ويشربون الدخان في مجلس القرآن فنهاهم عن شربه في هذه الحالة فامتثلوا وتابوا وحلفوا أن لا يعودوا لهذا الأمر فجاء رجل آخر يزعم أنه من علماء المالكية وسب الناهى واغتابه وكذبه وردهم جميعًا إلى شربه فهل الحق مع الأول؟ أفيدوا الجواب
(فأجاب) بقوله الحمد لله الدخان المشروب لا نص فيه للمتقدمين لعدم وجوده في زمانهم وإنما حدث بعد الألف، وكان حدوثه في مصر في زمن اللقاني والأجهوري فأفتى اللقاني بتحريمه ونسب ذلك للشيخ سالم السنهوري وألف في تحريمه وتبعه الخرشي وجماعات وعلل بتعاليل منها إضاعة المال بحرقه من غير فائدة وأفتى الأجهوري بعدم التحريم وألف في ذلك ورد على من قال بالتحريم وتبعه جماعات (من المغرمين بشربه) وأدلة التحريم أقوى (ولا وجه للقول بالحل) وكل هذا في غير المساجد والمحافل، وأما فيها فلا شك في التحريم لأن له رائحة كريهة وإنكارها عناد وقد ذكر في المجموع في باب الجمعة أنه يحرم تعاطى ما له رائحة
كريهة في المسجد والمحافل. ومعلوم أنه عند قراءة القرآن يشتد التحريم لما في ذلك من عدم التعظيم فمن أنكر مثل هذا لا يخاطب لجموده أو عناده وبالجمله فالمفتي الأول الذي نهى عن شرب الدخان في مجلس القرآن قد أصاب في نهيه أثابه الله الجنة والذي كذبه في ذلك هو الكاذب فهو ضال مضل إن لم يكن معذورًا لنحو سهو أو نسيان ونعوذ بالله من التساهل والله أعلم. ذكره العلامة الشيخ محمَّد عليش في كتابه فتح العلي المالك صفحه 131 جزء أول.
وقال العلامة الفاضل العبجي الحلبي الحنفي في كتاب الأشربة من شرحه على الدر المختار شرح تنوير الأبصار بعد نقل الشارح تحريم الدخان عن شيخه النجم الغزي وقد أوضحنا تحريمه في رسالة لم تسبق بنظير أدخلنا تحريمه فيها تحت الأصول الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس ورددنا كل ما نلقاه من كلام الغير ردًا جامعًا مانعًا مؤيدًا بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة
(إلى أن قال) وهاك المقصود لنا من الرسالة السابقة الذكر (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الحمد لله الموفق للصواب والصلاة والسلام على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب وعلى آله وأصحابه السادة الأنجاب. "أما بعد" فإن مما عمت به البلوى في سائر البلاد حتى شملت جميع أصناف الناس إلا من عصمه الله من العباد استعمال الدخان المعروف في هذه الأزمان فإنه بدعة منكرة في سائر الأديان بل نقل الإمام الحنفي عن بعض أشياخه العارفين أن شربه في مجلس القرآن يخشى منه سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها وكرمه إنه جواد كريم. وهو بنوعيه المعلومين أعني التوتون والتنباك من جملة المفترات على التحقيق ومن جملة المضرات بالصحه على القول الحقيق وكل ما كان كذلك لا شك في تحريمه وتأثيم متعاطيه لدى ذوي العرفان.
ثم قال قال العلامة الشيخ محمَّد علاء الدين الحصكفي في كتاب الأشربة من كتاب الدر المختار شرح تنوير الأبصار نقلًا عن شيخه العلامة الفاضل الشهير بالنجم الغزي الشافعي في شرحه على منظومة والده الشهير بالبدر الغزي التي وضعها في بيان الكبائر والصغائر ما نصه مع الإيضاح والبيان.
والتوتون الذي حدث وكان حدوثه بدمشق سنه خمس عشرة بعد الألف يدعي شاربه أنه لا يسكر وإن سلم له مدعاه بأنه لا يسكر فإنه مفتر وهو حرام (لحديث) أحمد المروي في مسنده الصحيح بسنده عن أم سلمة قالت (نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم عن كل مسكر ومفتر)
قال أي الإمام النجم الغزي وليس من الكبائر تناوله المرة أو المرتين أي بل الإصرار عليه يكون كبيرة كسائر الصغائر. ويثبت الإصرار بتناوله ثلاث مرات. قال ومع نهى ولي الأمر عنه حرام قطعًا أي لوجوب الدخول تحت طاعته أمرًا ونهيًا.
قال العلامة الطحاوي وفي حاشيته على الدر المختار وقواعدنا لا تأباه يعني أن قواعد أئمتنا الحنفية كالشافعية لا تأبى تحريم تناوله لنهي ولي الأمر عنه كما هو منصوص في كثير من المعتبرات الفقهية. وقد ألف في بيان أضراره كثير من الأطباء
وفي بيان تحريمه كثير من العلماء. وعلى فرض أنه مكروه فلا يرتكبه إلا جاهل أو متساهل بدينه إذ اللائق بالعاقل أن يحتاط في أموره لا سيما الأحكام فيتباعد عن ارتكاب المكروه إذ ربما جره ارتكابه إلى ارتكاب الحرام. فقد قال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) رواه الشيخان من حديث النعمان بن بشير. وقال صلى الله تعالى عليه وعلى اله وسلم (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
قال في المدخل فما وقع النهى عنه فلا يقرب لنص هذا الحديث. والنهى إذا ورد تناول المحرم والمكروه كما أن الأمر إذا ورد يتناول الواجب والمندوب قال وقالوا ارتكاب الكبائر أهون من استصغار الصغائر لأن مرتكب الكبيرة يرجع له أن يرجع إلى الله تعالى ومن تهاون بالصغائر قلّ أن يرجع عنها لأنها عنده ليست بشيء وقد قالوا لا كبيره مع الاستغفار ولا صغيره مع الإصرار. وكيف لا والمناسب لمن أراد سلوك سبيل الفلاح أن يستغفر من فعل الشهوات والمكروهات.
قال الإمام الشعراني في متنه (اعلم) أن من جملة الاحتياط اجتناب المكروه كأنه حرام والاعتناء بالسنن كأنها واجبة تعظيمًا لأمر الله تعالى وسمعت سيدي عليًا الخواص رحمه الله تعالى يقول كلما ازداد العبد معرفه بالله تعالى كلما اعتنى بالتعظيم لأمره ونهيه وكلما بعد عن الله تعالى كلما تهاون بفعل ما أمر الله به واجتناب ما نهى الله عنه.
وقال في متن التنوير وشرحه للحنفية كل مكروه حرام عند محمَّد ومثله البدعة. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إلى الحرام أقرب ومثله البدعة. ومن أراد زياده البيان فيما يتعلق بشرب الدخان فعليه بكتابنا "الرساله البديعة الرفيعة" ففيها ما أفتى به العلماء الأعلام على اختلاف مذاهبهم والله الموفق للصواب
(ومن المخالفات) التي يرتكبونها من أجل الجلوس للتعزية ما يقع من كثير من الناس من صرفهم الأموال الكثيره من تركه الميت التي ربما آل أمرها إلى أيتام فيذبحون ذبائح ويجمعون الناس على الطعام ويغتنم من لا خلاق له الأكل من ذلك ويوقدون مصابيح كثيره ويؤجرون دككًا للجلوس عليها وخيمًا ونحو ذلك مما يصرف أجره من مال اليتيم أو الفقير الذي يحتاج إليه فيما لا بد منه ولم يحملهم على ذلك إلا حب المحمدة والرياء وربما أداهم ذلك إلى التداين بالربا الذي هو محرم بالكتاب والسنة والإجماع. فلو كان المكث ثلاثه أيام لمن مات واجبًا لسقط بعدم القدرة عليه فما بالك إذا كان مخالفًا للشريعة المحمدية. إذا علمت هذا تعلم فساد قول بعض الجهلة إن لم أفعل هذا عيرني الناس بقولهم فلان لم يقدر على القيام بالإنفاق على مأتم قريبه ثلاثه أيام كعادة الناس.
ولذا صاروا يتفاخرون بذلك ليقال فلان فعل في مأتم أبيه مثلًا فعلا لا يقدر عليه غيره. ويقولون لا نقدر على ترك هذا العمل الذي جرت به العاده مع أنهم يتركون
ما أوجبه الله تعالى عليهم من صوم وصلاة وزكاة وحج ونحو ذلك فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأذكر لك طرفًا مما قاله علماء المذاهب في هذا الشأن لتزداد يقينًا من فظاعة ما يرتكبه كثير من أهل زماننا.
قال الشيخ الدردير المالكي في شرحه على متن خليل بعد كلام. وأما الاجتماع على طعام بيت الميت فبدعة مكروهة إن لم يكن في الورثة صغير وإلا فهو حرام. ومن الضلال الفظيع والمنكر والشماتة البينة والحماقة غير الهينة تعليق الثريات (النجف) وإدامة القهوات في بيوت الأموات والاجتماع فيها للحكايات وتضيع الأوقات في المنهيات مع المباهاة والمفاخرات ولا يفكرون فيمن دفنوه في التراب تحت الأقدام ووضوعه في بيت الظلام والهوام ولا في وحشته وضمته وهول السؤال ولا فيما انتهى إليه الحال من الروح والريحان والنعيم أو الضرب بمقاعد الحديد والاشتعال بنار الجحيم ولو نزل عليهم كتاب بانتهاء الموت وأنهم مخلدون بعده لقلنا إنما يفعلونه فرحًا بذلك ولكن الهوى أعماهم وأصمهم. وإن سئلوا عن ذلك أجابوا باتباع العادة والمباهاة وعمدة الناس والزيادة فهل في ذلك خير؟ كلا بل هو شر وخسران وضير.
وقد سئل شيخ المشياخ ومفتي الأنام الشيخ محمَّد عليش الكبير المالكي بما نصه. ما قولكم فيما يقع عندنا من أكل شركاء اليتامى في الزرع وغير شركائهم من مالهم ضيافة ومن التصدق منها ومن استعمال دوابهم ومن أكل الضيوف والزائر منها إذا كانت عادة آبائهم وكان كل ذلك مع عدم وصي شرعي وهل إذا وقع ذلك يكون كبيرة أم كيف الحال؟ فأجاب بما نصه. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمَّد رسول الله لا يجوز لشركاء الأيتام ولا غيرهم الأكل من أموالهم ضيافة ولا التصدق بشيء منها ولا استعمال دوابهم ولا يجوز للضيوف ولا للزائر الأكل منها ولو كان عادة آبائهم وإذا وقع شيء من ذلك يكون كبيرة فتجب التوبة منها وغرم مثل المأكول أو المتصدق به أو قيمته إلا ما أكل في توسعة نفقة عيد وختن وعرس بالمعروف فهو جائز إذا كان لليتيم وصي دعاه إليه قال تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا)
وقالت السادة الشافعية. يكره لأهل الميت صنع طعام يجمعون الناس عليه قبل الدفن أو بعده فلا تصح الوصي هبه. ومن البدع المنكره ما يفعله الناس مما يسمى بالكفارة والوحشة والجمع والأربعين ونحو ذلك بل كل ذلك حرام إن كان من مال محجور ولو من التركة أو من مال ميت عليه دين أو ترتب عليه ضرر أو نحو ذلك
(وقالت) السادة الحنفية من الأمور المبتدعة الباطلة التي أكب الناس عليها على ظن أنها قرب مقصودة الوصية من الميت باتخاذ الطعام والضيافة يوم موته أو بعده وبإعطاء دراهم لمن يتلو القرآن لروحه أو يسبح أو يهلل له وكلها بدع ومنكرات باطلة والمأخوذ منها حرام للآخذ وهو عاص بالتلاوة والذكر لأجل الدنيا ولا معنى أيضًا لصلة القارئ لأن ذلك يشبه استئجاره على