الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إذ لعله: أن يقف على ضد ما فهمته. ولا أصمه بالشطر الأخير من قوله:
وما علي إذا ما قلت معتقدي
…
إلى جهول يظن الجهل عدوانا
وأظنه إذا أنصف حبّذ ما قلته لأنه منطبق على المعنى الواقع، وبعد أن فوضت العلم فيه إلى الله لم يبق محل للانتقاد وغيره. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ» كلا لم يستطيعوا ولن يستطيعوا لأنهم وأوثانهم مخلوقون له «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» 40 أنظر رعاك الله إلى ما تضمنته هذه الآية الكريمة من بلاغة عظمى في قوله من الأولى والثانية والثالثة إذ استقلت كل منها بتأكيد تعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم.
مطلب ظهور الفساد في البر والبحر، والبشارة لحضرة الرسول بالظفر والنصر وعسى أن تكون لامته من بعده:
قال تعالى «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» من المعاصي فإن الناس صاروا يقدمون على المنكرات والفواحش وهم سائرون في البحر ولم يخشوا أن يرسل الله عليهم ريحّا فتغرقهم، كما أنهم يفعلون تلك الخبائث في البر ولم يخافوا أن يخسف الله بهم كما فعل بغيرهم، وقد كثر الحرق والقتل والنهب والسلب والزنى واللواطة والشرب والقمار فيهما معا، وقل الحياء، فلا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أجرنا من غضبك ومن القحط فقد قلت بركات البر حتى ان الزرع لا يأتي بضعفه وبركات البحر حتى ان اللآلئ لا تكاد تدرك. وما قيل إن فساد البر في مدن الصحراء، وفساد البحر في مدن السواحل، أو قلة مياه العيون، أو عدم إثبات الأرض، وخلو الأصداف، أو بقتل ابن آدم أخاه، وفي البحر بغصب الجلندي السفينة المار ذكرها في الآية 71 من سورة الكهف، وغير ذلك مما يضاهي هذا، فهو بعيد عن المعنى المراد بمناسبة هذه الآية، وإن تقييدها بمثل هذه المسائل مناف لظاهرها العام المطلق في كل فساد يقع في البحر. وهؤلاء الذين يعيثون في الأرض فسادا في البر والبحر لا يهملهم الله، وقد أمهلهم «لِيُذِيقَهُمْ» جزاء «بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» مقدما معجلا «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 43 عن
هذه الأعمال القبيحة، حتى إذا أصروا عليها عاقبهم عليها كلها في الآخرة غير عقاب الدنيا. واعلم أنه لا يوجد في القرآن العظيم آية مبدوءة بالظاء غير هذه «قُلْ» يا سيد الرسل لقومك وغيرهم «سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ» وتفكروا في أطلال منازلهم وتدبروا كيفية إهلاكهم واسألوا عن أسبابها وإبقاء مساكنهم خاوية تعلموا أنه «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» 42 بالله جاحدين حقوقه مثلكم، واعلموا أنكم إذا لم ترجعوا عما أنتم عليه يكون مصيركم مثلهم. وأنت يا سيد الرسل لا يهمنّك تماديهم «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ» المعهود في الآية 30 المارة ولا تكرار، لأن في الأول لفظ حنيفا وإشارة إلى الدين الحنيف بأنه هو الدين القيم، وفي هذه القيم فقط الذي لا عوج فيه، والمعرفة إذا أعيدت يراد منها الأولى نفسها كما أوضحناه في سورة الانشراح ج 1، وقد أمر الله عباده على لسان رسوله بإقامة الدين والإسراع للتمسك فيه «قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» إذ لا يقبل فيه الرجوع إليه ولا التوبة ولا الفداء ولا الشفاعة المطلقة «يَوْمَئِذٍ» يوم يحل ذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، حينئذ «يَصَّدَّعُونَ» 43 يتفرقون بعضهم عن بعض، والتصدّع تفرق أجزاء الأواني، واستعير لمطلق التفرق، قال تعالى (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الآية 4 من القارعة في ج 1، أي أن أشخاص الناس تتفرق لشدة هول ذلك اليوم. واعلموا أيها الناس أن «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» هو يحمل وباله وحده «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» 44 يوطئون لها ويبنون وهو عبارة عن معنى يستفاد من أفعال الخير التي سيراها صاحبها حسا، أولا في القبر، وثانيا في الجنة، كما يمهد الإنسان فراشه في الدنيا ليستريح عليه في مضجعه من كل ما ينغص نؤمه. قال تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ» بأكثر مما عملوا لأنهم أحبابه، أما الذين عملوا السيئات فإنه يعاقبهم في ياره «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» 45 لأنهم كرهوا الخير لأنفسهم فأبغضهم الله، لأن من لا يحبه يبغضه. ثم عطف على الآيات من 20 إلى 25 المارة التي عدد فيها آثار نعمه على عبده تذكيرا لهم بأفضاله
وحثا لهم على الإخلاص لحضرته، لأنه هو وحده المتفضل بها عليهم، فقال جل قوله «وَمِنْ آياتِهِ» الدالة على عظيم قدرته وبالغ حكمته «أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ» عباده بالغيث «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» ثمر الخصب المتسبب عنه «وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ» بسبب تلك الرياح، فتصلوا إلى مقاصدكم من البلاد والقرى والبوادي وغيرها «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» الأرباح في زروعكم وأثماركم وتجاراتكم برا وبحرا «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» 46 نعمه المتوالية عليكم. قال تعالىَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ»
كما أرسلناك إلى هؤلاء، أي الموجودين على ظهر الأرضَ جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ»
على صدقهم كما جئتهم به أنت وكذبوهم كما كذبوكَ انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا»
منهم وأنجينا المؤمنينَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
47 بنا.
واعلم أن في الآية 103 من سورة يونس المارة والآيتين 171 و 172 من سورة الصافات المارة أيضا والآية 21 من المجادلة الآتية في ج 3، وفي هذه الآية بشارة عظيمة لحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بالظفر والنصر على أعدائه، وفيها كفالة وعهد من الله تعالى على نفسه المقدسة بنصر المؤمنين وهو الموفي بعهده ووعده، القائم بكفالته، الصادق بما يخبر، وقد وفّى لرسوله ما تعهد به له ولأصحابه، وهذا الوعد عام لكل مؤمن ومؤمنة مستمر إلى يوم القيامة، وفيه أيضا وفي الحساب والقضاء، ولكن الناس لم يكونوا مؤمنين موقنين بالمعنى الذي يريده الله منهم كما كان عليه محمد وأصحابه، ولو كانوا كذلك ما سلب منهم نعمة الملك، ولم يسلط عليهم عدوهم ولجاءهم النصر من حيث لا يشعرون، وسخر لهم كل شيء، ولكن أين الإيمان وأين الإسلام كل منهما رسم بلا جسم، ومسمى بلا اسم، ودعوى بلا برهان، وقول بلا بيان، نعم انهم مسجلون رسميا مسلمين، وأعمالهم أعمال الكافرين، لا تراحم ولا توادد بينهم، ولا صلاة ولا صوم ولا حج ولا زكاة ولا صدقة بالمعنى الذي يريده الله منهم، ولكنهم زناة شربة خمر قذفة للمحصنات كذبة همّازون لمأزون محتالون شهداء زور وبهتة مغترون، فأنى ينظر الله إليهم، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: لازلتم منصورين، ما دمتم متبعين سنتي فمتى اختلفتم سلط عليكم عدوكم،
فإذا كان هذا جزاء ترك السنن فما بالك بالفرائض، وما بالك بارتكاب المحرمات، وما بالك بالتجاهر بالشرب واللعب واللواطة بلا خوف من الله ولا حياء من الناس، وإني أخشى أن يكونوا قد صاروا حثالة بالمعنى الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم يذهب الصالحون أسلافا الأول فالأول، حتى لا يبقى من الناس إلا حثالة كحثالة الثمر والشجر لا يبالي الله بهم. رحماك ربي عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله يا أهل التقوى وأهل المغفرة. ومما يدل على أن هذا الوارد في الآيتين المذكورتين نصر مستمر في الدنيا والآخرة ما رواه أبو الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حتما على الله أن يرد عنه نار جهنم، ثم تلا هذه الآية، وأخرجه الترمذي بلفظ آخر بمعناه. قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ» مسيرة يوم وأيام وأقل وأكثر خفيفا أو كثيفا «وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً» قطعا متفرقة أو يضم بعضه لبعض «فَتَرَى الْوَدْقَ» المطر «يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» من فرجه ووسطه «فَإِذا أَصابَ بِهِ» بذلك الغيب «مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» 48 به لما يدره عليهم وعلى أنعامهم ودوابهم من الخيرات «وَإِنْ كانُوا» أولئك العباد «مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ» ذلك الغيث «مِنْ قَبْلِهِ» كرره تأكيدا للدلالة على بعد عهدهم به والأحسن عود هذا الضمير إلى الرياح، فيكون المعنى من قبل أن ينزل عليهم من قبل إرسال الرياح «لَمُبْلِسِينَ» 49 قانطين آيسين، لأنه بعد إرسال الرياح يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فيها، فإذا هبت الرياح قبل المطر لا يكون مبلسا بل يكون راجيا برؤية هيئة السحاب وهبوب الرياح «فَانْظُرْ» يا من يتأتي منك النظر «إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ» وحسن تأثيرها في الأرض وفي قلوب الناس «كَيْفَ يُحْيِ» الإله القادر الرؤوف بخلقه «الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» بالنبات والأزهار والثمار «إِنَّ ذلِكَ» الإحياء للأرض بعد يبسها الذي هو بمثابة الموت لها وإحياء نباتها بعد جفافه بالمطر من قبل الله القادر على ذلك فإنه ولا ريب «لَمُحْيِ الْمَوْتى» كما أحيا الأرض الميتة «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» 50 لا يعجزه شيء،