المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مطلب أرجى آية في القرآن والقول بالتناسخ والتقمص وفي معجزات القرآن وبيان الفواحش والكبائر: - بيان المعاني - جـ ٤

[ملا حويش]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الرابع]

- ‌تفسير سورة فصلت عدد 11- 61- 41

- ‌مطلب خلق السموات والأرض وما فيها ولماذا كان في ستة ايام وفي خلق آدم:

- ‌مطلب قول رسول قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم وما رد عليه به حضرة الرسول والأيام النحسات:

- ‌مطلب معنى الهداية وما قيل فيها وشهادة الأعضاء وكلام ذويها:

- ‌مطلب ما للمؤمنين المستقيمين عند الله ومراتب الدعوة إلى الله ودفع الشر بالحسنة:

- ‌مطلب في النزغ وسجود التلاوة وعهد الله في حفظ القرآن:

- ‌مطلب القرآن هدى لأناس ضلال الآخرين بآن واحد، وعدم جواز نسبة الظلم إلى الله تعالى:

- ‌تفسير سورة الشورى عدد 12- 62 و 42

- ‌مطلب تسمية مكة أم القرى وقوله ليس كمثله شيء وإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ومقاليد السموات:

- ‌مطلب في الاستقامة والمراد بالميزان وآل البيت وعدم أخذ الأجرة على تعليم الدين:

- ‌مطلب بسط الرزق وضيقه والتوبة وشروطها والحديث الجامع ونسبة الخير والشر:

- ‌مطلب أرجى آية في القرآن والقول بالتناسخ والتقمص وفي معجزات القرآن وبيان الفواحش والكبائر:

- ‌مطلب أنواع التوالد وأقسام الوحي ومن كلم الله من رسله ورآه:

- ‌تفسير سورة الزخرف عدد 13- 63 و 43

- ‌مطلب نعمة المطر ونعمة الدواب والأنعام وما يقال عند السفر والرجوع منه:

- ‌مطلب هو ان الدنيا عند الله وأهل الله وتناكر القرينين يوم القيامة والإشارة بأن الخلافة القريش وما نزل في بيت المقدس:

- ‌مطلب الآية المدنية وإهلاك فرعون ونزول عيسى عليه السلام وما نزل في عبد الله بن الزبعرى:

- ‌مطلب في عيسى عليه السلام أيضا وفي الصحبة وماهيتها ووصف الجنة وهل فيها توالد أم لا:

- ‌تفسير سورة الدخان عدد 24- 64- 24

- ‌مطلب في ليلة القدر وليلة النصف من شعبان وفضل الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعمال:

- ‌مطلب آية الدخان والمراد ببكاء السماء والأرض ونبذة من قصة موسى مع قومه وألقاب الملوك وقصة تبّع:

- ‌مطلب دعاء أبي جهل في الدنيا ومأواه في الآخرة ونعيم الجنة ومعنى الموتة الأولى:

- ‌تفسير سورة الجاثية عدد 15- 65- 45

- ‌مطلب تفنيد مذهب القدرية وذم اتباع الهوى وأقوال حكيمة، والدهر:

- ‌تفسير سورة الأحقاف عدد 16- 66- 46

- ‌مطلب عدم سماع دعاء الكفرة من قبل أوثانهم وتفتيده وتبرؤ الرسول صلى الله عليه وسلم من علم الغيب وإسلام عبد الله بن سلام:

- ‌مطلب فيما اختص به أبو بكر ورد عائشة على مروان ومعرفة الراهب:

- ‌مطلب فى قوله (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ) الدنيا وكيفية إهلاك قوم عاد:

- ‌مطلب تكليف الجن ودخولهم في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأولي العزم من الرسل:

- ‌تفسير سورة الذاريات عدد 17- 67- 51

- ‌مطلب قيام الليل وتقسيم الأعمال والصدقات والتهجد وآيات الله في سمائه وأرضه:

- ‌مطلب في الرزق وأنواعه وحكاية الأصمعي، وفي ضيف إبراهيم عليه السلام:

- ‌تفسير سورة الغاشية عدد 18- 68- 88

- ‌مطلب في الإبل وما ينبغي أن يعتبر به، والتحاشي عن نقل ما يكذبه العامة:

- ‌تفسير سورة الكهف عدد 19- 69- 18

- ‌مطلب قصة أهل الكهف ومن التوكل حمل الزاد والنفقة، وخطيب أهل الكهف:

- ‌مطلب أسماء أهل الكهف وقول في الاستثناء وقول أبو يوسف فيه والملك الصالح في قصة أهل الكهف:

- ‌مطلب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة الفقراء المؤمنين والإعراض عن الكفرة مهما كانوا، وقصة أصحاب الجنة:

- ‌مطلب مثل الدنيا وتمثيل الأعمال بمكانها وزمانها ونطقها يوم القيامة كما في السينما:

- ‌مطلب إبليس من الجن لا من الملائكة وانواع ذريته وما جاء فيهم من الأخبار:

- ‌مطلب قصة موسى عليه السلام مع الخضر رضي الله عنه:

- ‌مطلب عدم جواز القراءة بما يخالف ما عليه المصاحف والقول في نبوة الخضر وولايته وحياته ومماته:

- ‌مطلب من هو ذو القرنين وسيرته وأعماله والآيات المدنيات:

- ‌مطلب أن ذا القرنين ليس اسمه إسكندر وليس بالمقدوني ولا اليوناني ولا الروماني وإنما هو ذو القرنين:

- ‌تفسير سورة النحل عدد 20- 70- 16

- ‌مطلب جواز أكل لحوم الخيل وتعداد نعم الله على خلقه:

- ‌مطلب لا جرم ولفظها وإعرابها وقدم لسان العرب وتبلبل الألسن وذم الكبر:

- ‌مطلب التوفيق بين الآيات والحديث بسبب الأعمال وفي آيات الصفات:

- ‌مطلب التعويض الثاني بالهجرة وعدم الأخذ بالحديث إذا عارض القرآن:

- ‌مطلب من أنواع السجود لله وتطاول العرب لاتخاذ الملائكة آلهة:

- ‌مطلب جواز تذكير اسم الجمع وشبهه وكيفية هضم الطعام وصيرورة اللبن في الضرع والدم في الكبد والطحال وغيرها:

- ‌مطلب في السكر ما هو وما يخرج من النحل من العسل وأقسام الوحي:

- ‌مطلب أجمع آية في القرآن وما قاله ابن عباس لمن سب عليا وما قاله العباس رضي الله عنهم وفي العهود:

- ‌مطلب في الكفر تضية، والكذب والأخذ بالرخصة تارة وبالعزيمة أخرى، والتعويض للهجرة ثالثا

- ‌مطلب في ضرب المثل وبيان القوية وعظيم فضل الله على عباده:

- ‌مطلب يوم الجمعة والآيات المدنيات وكيفية الإرشاد والنصح والمجادلة وما يتعلق فيهما:

- ‌تفسير سورة نوح عدد 21- 71- 77

- ‌مطلب أطوار الإنسان رباني عبدة الأوثان وعذاب القبر:

- ‌تفسير سورة ابراهيم عدد 22- 72- 14

- ‌مطلب النهي عن الانتساب لما بعد عدنان ومحاورة الكفرة وسؤال الملكين في القبر:

- ‌مطلب في الخلة ونفعها وضرها وعدم إحصاء نعم الله على عباده، وظلم الإنسان نفسه:

- ‌مطلب في الغفلة والقلب والشكوى وفتح لام كي وكسرها والقراءة الواردة فيها وعدم صحة الحكايتين في هذه الآية:

- ‌تفسير سورة الأنبياء عدد 23 و 73- 21

- ‌مطلب وصف الكفرة كلام الله والنزل عليه ومعنى اللهو وكلمة لا يفترون:

- ‌مطلب برهان التمانع ومعنى فساد السموات والأرض وما يتعلق بهما:

- ‌مطلب في الأفلاك وما يتعلق بها، وبحث في الشماتة، وما قيل في وزن الأعمال والإخبار بالغيب:

- ‌مطلب إلقاء إبراهيم في النار وماذا قال لربه وملائكته وفي مدح الشام:

- ‌مطلب أن الجمع ما فوق الاثنين، وأحكام داود وسليمان، والبساط وسيره وما يتعلق بذلك:

- ‌مطلب قصة أيوب عليه السلام ومن تسمى باسمين من الأنبياء عليهم السلام:

- ‌مطلب إخساء عبد الله بن الزبعرى وجماعته، ومن كان كافرا في أصل الخلقة:

- ‌تفسير سورة المؤمنين عدد 24- 74 و 23

- ‌مطلب مراتب الخلق، وتعداد نعم الله على خلقه:

- ‌مطلب هجرة مريم بعيسى عليهما السلام إلى مصر، وأن الذي أمر الله به الأنبياء أمر به المؤمنين، وأن أصول الدين متساوية:

- ‌مطلب توبيخ الكفرة على الطعن بحضرة الرسول مع علمهم بكماله وشرفه وخطبة أبي طالب:

- ‌مطلب إصابة قريش بالقحط ثلاث مرات، واعترافهم بقدرة الله وإصرارهم على عبادة غيره، ومتعلقات برهان التمانع:

- ‌مطلب في التقاطع وعدم الالتفات إلى الأقارب والأحباب والمحبة النافعة وغيرها:

- ‌تفسير سورة السجدة عدد 25 و 75- 32

- ‌مطلب في أهل الفترة من هم، ونسبة أيام الآخرة لأيام الدنيا

- ‌مطلب الآيات المدنيات، وقيام الليل، والحديث الجامع، وأحاديث لها صلة بهذا البحث:

- ‌تفسير سورة الطور عدد 26- 76- 52

- ‌مطلب من معجزات القرآن الإخبار عن طبقات الأرض، وعن النسبة المسماة ميكروب:

- ‌مطلب الحجج العشر وعذاب القبر وبحث في قيام الليل والإخبار بالغيب وما يقال عند القيام من المجلس:

- ‌تفسير سورة الملك عدد 27- 77- 65

- ‌مطلب في إمكان القدرة وفوائد الكواكب:

- ‌مطلب تبرؤ الرسول عن علم الغيب وأمر الرسول بسؤال الكفرة:

- ‌تفسير سورة الحاقة عدد 28 و 78- 69

- ‌مطلب في اهوال القيامة، وإعطاء الكتب، وحال أهلها:

- ‌تفسير سورة المعارج عدد 29 و 79 و 70

- ‌مطلب اليوم مقداره خمسين ألف سنة ما هو وما هي:

- ‌تفسير سورة النبأ عدد 30- 80- 78

- ‌تفسير سورة النازعات عدد 31- 71- 79

- ‌مطلب المياه كلها من الأرض وذم الهوى وانقسام الخلق إلى قسمين والسؤال عن الساعة:

- ‌تفسير سورة الانفطار عدد 32- 82

- ‌مطلب في الحفظة الكرام وعددهم، وبحث في الشفاعة وسلمان بن عبد الله:

- ‌تفسير سورة الانشقاق عدد 33- 83 و 84

- ‌تفسير سورة الروم عدد 34- 84- 30

- ‌مطلب قد يكون العاقل أبله في بعض الأمور، وغلب الروم الفرس:

- ‌مطلب مآخذ الصلوات الخمس وفضل التسبيح ودلائل القدرة على البعث:

- ‌مطلب جواز الشوكة إلا لله ومعنى الفطرة للخلق وكل إنسان يولد عليها:

- ‌مطلب ما قاله البلخي للبخاري وحق القريب على قريبه والولي وما شابهه:

- ‌مطلب ظهور الفساد في البر والبحر، والبشارة لحضرة الرسول بالظفر والنصر وعسى أن تكون لامته من بعده:

- ‌مطلب في سماع الموتى وتلقين الميت في قبره وإعادة روحه إليه والأحاديث الواردة بذلك:

- ‌مطلب في أدوار الخلقة والجناس وحقيقة أفعال وفعائل وأنواع الكفر والجهل:

- ‌تفسير سورة العنكبوت عدد 35 و 85 و 29

- ‌مطلب لا بدّ من اقتران الإيمان بالعمل الصالح:

- ‌مطلب برّ الوالدين وما وقع لسعد بن أبي وقاص مع أمه، وأبي بكر مع ولده، وعياش وأخويه أولاد أسماء بنت محرمة:

- ‌مطلب تعويض الهجرة لسيدنا محمد وهجرة ابراهيم وإسماعيل ولوط عليهم الصلاة والسلام وسببها

- ‌مطلب تحريم اللواطة وجزاء فاهلها ومخازي قوم لوط والهجرة الشريفة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌مطلب في العنكبوت وأنواع العبادة والصلاة وفوائدها والذكر

- ‌مطلب هل تعلم النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة والقراءة أم لا، والنهي عن قراءة الكتب القديمة:

- ‌مطلب في الهجرة واستحبابها لسلامة الدين وما جاء فيها من الآيات والأخبار وهي تسعة أنواع:

- ‌مطلب حقارة الدنيا والتعريض للجهاد:

- ‌تفسير سورة المطففين عدد 36- 86- 83

- ‌مطلب التطفيف في الكيل والوزن والذراع، والحكم الشرعي فيها:

- ‌مطلب القراءات السبع، ورؤية الله في الآخرة، والقيام للزائر:

- ‌مطلب مقام الأبرار والفجار، وشراب كل منهما، والجنة والنار:

- ‌مطلب معني ثوب وفضل الفقر والفقراء وما يتعلق بهم:

- ‌مطلب بقية قصة الهجرة وفضل أبي بكر الصديق وجوار ابن الدغنة له:

- ‌مطلب قصة سراقة بن مالك الجشعمي حين الحق رسول الله صلى الله عليه وسلم:

الفصل: ‌مطلب أرجى آية في القرآن والقول بالتناسخ والتقمص وفي معجزات القرآن وبيان الفواحش والكبائر:

بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَما أَصابَكُمْ) الآية هذه وسأفسرها لكم يا علي، ما أصابكم من مصيبة أو مرض وعقوبة أو بلاء في الدنيا فيما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم عقوبته في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه. وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للمؤمنين المصابين، اللهم إنا نسألك العفو والعافية وأن ترزقنا الصبر إذا ابتلينا، وتعظم لنا الأجر عليه. وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب المؤمن شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة. وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو لله عنه أكثر. قال ابن عطاء من لم يعلم أن ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه وأن ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه.

‌مطلب أرجى آية في القرآن والقول بالتناسخ والتقمص وفي معجزات القرآن وبيان الفواحش والكبائر:

وقال علي كرم الله وجهه: هذه أرجى آية في القرآن لأن الكريم إذا عاقب مرة لا يعاقب ثانيا وإذا عفا لا يعود. راجع الآية 84 من سورة الإسراء والآية 5 من سورة الضحى في ج 1 والآية 160 من سورة الأنعام والآية 53 من سورة الزمر المارتين. هذا، وقد تعلق في هذه الآية من يقول بالتناسخ بحجة أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألموا، مع أن السياق والسياق من هذه الآية يدلان على أنها مخصوصة بالمكلفين أصحاب الذنوب فإن من لا ذنب له كالأنبياء قد تصيبهم مصائب، لما جاء في الخبر: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، كما مر آنفا، ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، فالأطفال والمجانين غير داخلين في الخطاب لأنهم غير مكلفين، وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فيما يصيبهم من المصائب، فهي لحكم خفية، قيل مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر، لا لأن لهم حالة سابقة كما زعموا، ثم إن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب

ص: 46

وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة بدليل الأحاديث المذكورة آنفا، فلا وجه إذا لما تعلق به القائل بالتناسخ ولا دلالة في الآية. والقائلون بالتناسخ هم فرقة من الفلاسفة يعتقدون أن الروح إذا ماتت ولم تستكمل فضائلها تنسخ أي تنقل إلى نطفة أخرى لاستكمال الفضائل المزعومة، ويقرب من هذه عقيدة الدروز الذين يقولون بالتقمص أي إذا مات الميت تتقمص روحه أي تنقل إلى إنسان أو حيوان ولد ساعة موته، وهذه عقائد عقلية ساذجة لا أصل لها ولعلها سرت عليهم من الخوارج الخارجين عن شرائع الإسلام (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ، والدين عند الله هو الإسلام دين أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام

«وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» الله ولا فائتينه عن أن يصيبكم بذنوبكم بل هو قادر عليكم لا تستطيعون الهرب من قضائه والتفلّت من قبضته «وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» إذا أراد معاجلتتكم بالعقوبة «مِنْ وَلِيٍّ» يدافع عنكم «وَلا نَصِيرٍ» 31 ينصركم ويحميكم منه «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ» السفن الجاريات على الماء «فِي الْبَحْرِ» والأنهار التي هي في عظمها «كَالْأَعْلامِ» 32 الجبال العالية وأصل العلم بفتح العين الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق والجيش، ولذلك سمي الجبل علما سواء كان عليه نار كما قالت الخنساء:

وإن صخرا لنأتم الهداة به

كأنه علم في رأسه نار

أو لم يكن قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع قولها هذا قال قاتلها الله ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا. وهذه الآية من الإخبار بالغيب أيضا، لأنه عند نزولها لم تكن هذه المراكب الضخمة، والبواخر العظيمة التي هي حقيقة في كبرها كالجبال، فسبحان من أودع كتابه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وما بعده، لأن فيه ما يكون من حالتي أهل الجنة والنار بعد يوم القيامة أيضا، قال تعالى «إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ» تلك السفن «رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» أي البحر أو النهر، لأن السفن إذ ذاك والآن أيضا تجريها الرياح بالشراع «فإذا سكنت وقفت بخلاف سفينة سيدنا نوح الجسيمة التي كان سيرها ووقوفها بكلمة اسم الله راجع الآية 46 من سورة هود المارة، وهذا معجزة له

ص: 47

عليه السلام، أما المراكب العظيمة ذوات المحركات وإن كانت تسير بقوة البخار فإن الرياح تؤثر فيها تأثيرا قد يلحىء ربانها إلى الوقوف إذا رأى مريا خوفا من الغرق لأنه لا يقدر أن يسيرها بانتظام لما تلعب فيها الرياح يمينا وشمالا حتى تكون كالكرة بيد الشاب، فيمشيها بتؤده لأنها مهما عظمت فهي عند اشتداد الريح وهيجان البحر كتبنة صغيرة، وقد رأيناها عيانا هكذا بسفرنا إلى الحجاز، وممن عظيم ما رأينا لم تسمح أنفسنا بالعودة بحرا ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لزيارة بيته الحرام وضريح نبيه عليه الصلاة والسلام «إِنَّ فِي ذلِكَ» المذكور من آيات الله «لَآياتٍ» عظيمات دالات على قدرة القادر وعبرة مؤثرة «لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» 33 لنعم الله من كاملي الإيمان، لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر، وهذه صفه المؤمن يصبر في الشدة وبشكر في الرخاء فيظفر بمطلوبه كما قيل:

وقلّ من جد في أمر يطالبه

واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

قال تعالى «أَوْ يُوبِقْهُنَّ» يغرقهن ويهلكهن «بِما كَسَبُوا» ركابها من الذنوب الموجبة لذلك، لأن السفن لا جرم لها، ولهذا عاد الضمير على راكبيها وعود الضمير على ما ليس بمذكور جائز إذا تقدم ما يدل عليه أو كان معلوما كما هنا، راجع الآية 4 من سورة القدر في ج 1، «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» 34 بأن ينجيهم بفضله ورحمته ومنّه وعطفه ولطفه «وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» 35 محيد يحيدون عنه ويلجأون إليه إذا وقفوا في مثل هذه الشدائد وعرفوا بطل جدالهم. واعلم أن (وَيَعْلَمَ) في صدر هذه الآية جار على الاستئناف على قراءة نافع وابن عامر، وقرأ الباقون بالنصب عطفا على تعليل محذوف، أي لينتقم منهم وليعلم الذين يجادلون إلخ، «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ» أيها الناس من الحطام «فَمَتاعُ الْحَياةِ» في هذه «الدُّنْيا» تتمتعون فيها به لانقضاء آجالكم، ثم تتركونه، وهذا مما يستوي فيه المؤمن والكافر «وَما عِنْدَ اللَّهِ» من الثواب الذي خبأه لكم بمقابل أعمالكم الصالحة «خَيْرٌ» من زخارف الدنيا وجاهها «وَأَبْقى» منها وأدوم وأحسن «لِلَّذِينَ آمَنُوا» بنعيم الآخرة «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 36 في أمورهم كلها،

ص: 48

وما قيل إن هذه الآيات نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين تصدق بكل ماله لا يتجه، لأن هذه الآية مكية وهو رضي الله عنه تصدق بالمدينة لا بمكة، لهذا فإنها عامة في كل من اتصف بما جاء فيها، ويدخل فيها الصديق دخولا أوليا، لأنها غير مقيدة بزمان فتشمل كل من هذا شأنه إلى يوم القيامة. ثم قسم الله تعالى عباده من جهة التحمل إلى ستة أقسام فقال أولا «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ» كالشرك بالله ونسبة الولد والزوجة إليه تعالى عن ذلك «وَ» يجتنبون «الْفَواحِشَ» كل ذنب عظيم قبحه يسمى فاحشا كالزنى واللواطة والقذف والسرقة من محل محرم والقتل عمدا، راجع تفصيلها في الآية 32 من سورة الأعراف في ج 1 «وَإِذا ما غَضِبُوا» على من أساء إليهم «هُمْ يَغْفِرُونَ» 37 إساءته لا يعاقبونه عليها ويكظمون غيظهم حلما وعفوا، فهؤلاء داخلون في قوله تعالى:

(وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الآية 134 من آل عمران في ج 3، ثانيا «وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ» لما دعاهم إلى الإيمان به «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» إذا أرادوا عمل شيء يهمّ المجتمع تذاكروا فيه فيما بينهم لا يستبدون برأيهم، فقد ورد: ما تشاور قوم إلا هدوا لما فيه رشدهم، «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» 38 في سبيل الخير ووجوه البر. واعلم أن المشورة هي استخراج الرأي بمراجعة الناس بعضهم إلى بعض، فتحصل من تصادم الآراء واحتكاك الأقوال النتيجة المرضية التي يجمع عليها للتشاورون أو أكثرهم، كما تحصل النار من قدح الحجر بعضه ببعض أو بالزناد. وتشير الآية إلى مدح المشاورة والمتشاورين، وقد جاء في الخبر: ما خاب من استشار ولا ندم من استخار. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأمور. وأخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر عن الحسن قال: ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم، ثم تلا هذه الآية. وقد كانت الشورى بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذا بين الأصحاب رضي الله عنهم بعده، وكانت بينهم في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك مما لم يرد فيه نص شرعي، لأن

ص: 49

الشورى تكون إذا لم يكن نص، ولهذا أتت القاعدة الشرعية (لا اجتهاد في مورد النص) هذا في الأحكام والحدود، أما في الأمور الإدارية والسياسية والتي مصدرها العرف والعادة فيؤخذ بما يقر عليه رأي الجماعة، لأن الأمة لا تجمع على ضلالة. وفيما يتعلق بالحروب لا بأس من اتخاذ ما لم يتخذه العدو، لأن الحرب خدعة، ولذا جاز فيه الكذب على العدو. أخرج الخطيب عن علي كرم الله وجهه قال: قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء؟ قال اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى، ولا تقصوا برأي واحد.

فعلى هذا ينبغي أن يكون المستشار عاقلا عابدا وأن يؤخذ بقول الأكثر كما يستفاد من قوله ولا تقضوا برأي واحد. وأخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا:

استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا. والشورى على هذا الوجه من جملة أسباب صلاح الأرض، ففي الحديث: إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم أشراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها. وقيل:

إذا استشارك عدوك فاخلص له النصيحة لأنه بها خرج من عداوتك ودخل في مودتك.

وهذه الآية عامة محكمة نافذة إلى الأبد، حكي عن ابن الفرس أن هذه الآية نزلت بالمدينة وقد انفرد وحده بهذا إذ لم يقل به غيره، وان الغرس ما احتج به على ذلك من أن وقوع المشورة في القتال وغيره لم يكن إلا في المدينة لا يؤيد كون هذه الآية مدنية، لأن كثيرا من الآيات المكيات تنطبق على حوادث وقعت في المدينة، وكثيرا من الآيات المدنيات تنطبق على وقائع حدثت في مكة، فلا يعني أن هذا مكي وذلك مدني، لأن إثبات ذلك متوقف على السماع الصحيح والقول غير المطعون فيه من الرجال الثقات، وقدمنا في الآية 32 من سورة النمل في ج 1 ما يتعلق في هذا البحث وله صلة في الآية 159 من آل عمران الآتية في ج 3 فراجعهما، وثالثا «وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ» بأن تعدي عليهم ظلما وعدوانا «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» 39 لأنفسهم ممن بغى عليهم من غير تعد عليه مراقبا قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) الآية 195 من سورة

ص: 50

البقرة ج 3، وذلك أن المؤمن خلق عزيزا يأبى الذل وسكوته في مثل هذه الحالة هوان فيه ومهانة عليه، وقال تعالى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) الآية 9 من سورة المنافقين ج 3، وعلى هذا يؤول قول الإمام الشافعي: زن من وزنك، بما اتزنك. وما وزنك به فزنه. من جاء إليك، فرح إليه. ومن جفاك، فصدّ عنه. ومع هذا إذا عفا وهو قادر على الانتصار لنفسه فهو أحسن وقد أخذ بالعزيمة وهي أحسن من الرخصة إذا لم يكن فيها إغراء للسفيه إذ يكون حط من الكرامة وقد يأباها خلق المؤمن، قال:

ولا يقيم على ضيم يراد به

إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يرثي له أحد

وقال الآخر:

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وقال الآخر:

فوضع الندى في موضع السيف بالعدى

مضر كوضع السيف في موضع الندى

أما إذا كان يملك نفسه كالقائل:

إذا فاه السفيه يسب عرضي

كرهت أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

وقول الآخر:

فأعرض عن شتم الكريم ادخاره

وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

فلا بأس، فقد أخذ بالعفو والصفح المحمودين، وكان من ذوي النفوس الطاهرة النقية يأبى أن يطرأ عليها معنى الذل وخاصة إذا كان يقصد تحمل الأذى قربة إلى الله تعالى فلا يحب الانتصاف لنفسه، فهو من الكاملين ولا يظن به ما يظن بغيره من الهوان والضعف. وإذا كان الإعراض عن المقابلة تمدها كقوله في السكوت عن إجابة اللئيم في سبابه:

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني

فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

ص: 51

فلا بأس أيضا لأنه مهما كان يعد من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. ورابعا المقابلة المعنية بقوله تعالى «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ» عملها المساء إليه بالسيء هي أيضا «سَيِّئَةٌ مِثْلُها» لأنه إذا جازى الرجل من أساء إليه بمثل إساءته له فقد أساء أيضا، إلا أنه لا يجازى على ذلك، لأنها بالمقابلة بلا زيادة، لهذا سمى جزاء السيئة سيئة أيضا، لمشابهتها لها صورة وإلا فليست بسيئة حقيقة، وبما أن الله تعالى لا يرغب الانتصار للنفس ويحب العفو فقد سمى الانتصار سيئة، ولهذا أعقبها بقوله «فَمَنْ عَفا» عمن أساء إليه «وَأَصْلَحَ» بغض النظر عن العقوبة ولم يجابه خصمه بمثل سيئته «فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ومن كان أجره على الله سعد وفاز، لأن الله تعالى يكافىء عن القليل كثيرا، ومن انتقم حرم من هذا الأجر العظيم، لأن الانتقام قد يقع فيه تعدي لأنه من الصعب أن يقابل التعدّي بمثله تماما، ولهذا حذر الله تعالى عن التعدي المستلزم للظلم، فختم هذه الآية بقوله عز قوله «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» 40 الذين يتجاوزون حد الانتصار والبادئين غيرهم بالظلم لا بالمقابلة، وعلى كل البادي أظلم.

خامسا قال تعالى «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ» لنفسه بأن قابل الاعتداء بمثله لأن نفسه لم تسمح بالعفو وليس من أولي التحمل ولا التمدح «فَأُولئِكَ» الآخذين تارهم ذيّا عن كرامتهم وحفظا لعزّهم «ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» 41 يؤاخذون به لأنهم أخذوا بالعزيمة وفعلوا ما خول لهم فلا عقاب عليهم ولا عتاب ولا عيب عليهم «إِنَّمَا السَّبِيلُ» الطريق الموجب للعقوبة يكون «عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ» مبدئيا بلا سبب «وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ» يفسدون فيها ويتكبرون على أهلها ويعملون المعاصي ويطفون على الناس «بِغَيْرِ الْحَقِّ» تجبرا وأنفة وأنانية بقصد التعاظم عليهم «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 42 في الآخرة غير الذي يبتليهم الله به في الدنيا مما لم يعف عنه، إذ قد يسلط عليهم من هو أظلم منهم فينتقم لذلك المظلوم. وقد جاء في الخبر: الظالم سيفى انتقم به وأنتقم منه. قال تعالى في وصف الصنف السادس وهو أحسنهم «وَلَمَنْ صَبَرَ» على ما نابه من الغير «وَغَفَرَ» له تعديه عليه فضلا عن أنه لم يقابله به ولم يؤنبه عليه ولم يعاتبه به أيضا مع قدرته على الانتقام «إِنَّ ذلِكَ» الصبر على الأذى

ص: 52

مع المغفرة عمل مبرور. ولهذا أشار إليه بالصبر إعلاما بحسنه وتعاظمه على النفس إذ قل أن تجد من يتخلق بهذه الأخلاق الحميدة غير الأولياء وقليل ما هم، ولهذا أشار تعالى بجليل ثوابه وكبير أجره وجميل عمله عنده بقوله عزّ قوله «لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ 43 التي أمر الله تعالى بها خلّص عباده لأن الصبر على المكاره من خصال الأنبياء والغفران مع القدرة من أفعال العظماء وهاتان الخصلتان من شأن أولي العزم.

هذا، وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات ألست من قوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) إلى هنا اثنتي عشرة خصلة متداخلة، ولذا قلنا ستة أقسام، لأن في كل قسم خصلتين، وكلها من كرائم أخلاق المؤمن وأحاسن صفاته، إرشادا لعباده للأخذ بها، وحثا لهم على التحلي بمكارم الآداب. قال:

وإنما الأمم الأخلاق ما صلحت

فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا

وقائله حميد بن ثور الهلالي، وإن أمير الشعراء السيد شوقي قال:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فانظر بين المتقدم والمتأخر تجد البون شاسعا. هذا، والتمسك بآداب الأنبياء تعليما للأمراء والحكام أن يتقبدوا بهم، فيفعلوا ما أرشدوا إليه من تلك الخصال العالية، فيكونوا أكبر شأنا من غيرهم، وعلى الناس أن تتأسى بهم، لأن العبد إذا عفا عن أخيه فالله تعالى أولى بأن يعفو عنه، إذ لا يخلو أحد من قصور تجاه مولاه، ومن هنا أخذت قاعدة إسقاط الحق العام تبعا للحق الشخصي. وأعلم أن الله تعالى جعل عباده شطرين، شطر أخذ بالعزيمة التي هي من العزم وهو عقد القلب على إمضاء الأمر بالصبر والمغفرة والصفح مما هو موافق لشريعة سيدنا عيسى عليه السلام، راجع الآية 34 من سورة السجدة المارة، وهؤلاء الذين مدحهم الله تعالى فيها وقليل ما هم، وشطر أخذ بالرخصة وهي الانتصاف والمقابلة بالمثل وهذه من خصائص هذه الأمة التي جعلها الله سبحانه أمة وسطا وخير أمة أخرجت للناس وخير الأمور أوساطها، ومما خصت به من السنّة مما بوافق هذا قوله صلى الله عليه وسلم:

أنصر أخاك ظالما أو مظلوما. ونصر الظالم ردعه عن الظلم، وخيرها في هذه الآية بين الأمرين الرخصة والعزيمة وندبها إلى ما هو الا حسن بقوله (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ

ص: 53

ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)

الآية 55 من سورة الزمر المارة، ومدح هؤلاء بقوله عز قوله (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) الآية 19 منها فراجع هاتين الآيتين ففيهما كفاية. قيل دخل رجل دميم على امرأته وقد تزينت له فقال لها:

لقد أصبحت رائعة في الجمال، فقالت له أبشر فإن مصيرنا الجنة، قال وكيف؟

قالت لأنك أعطيت مثلي فشكرت ولأني ابتليت بمثلك فصبرت، والشاكر والصابر في الجنة. وهذا إذا حسنت النية في الصبر والشكر وكان القصد من الانتصاف والمقابلة ما ذكرناه آنفا في تفسير الآيتين المذكورتين فيكونون ممدوحين أيضا كما يشير إليه سياق التنزيل وسياقه، إذ جاء بمعرض المدح وإلا فلا ثواب ولا عقاب، وقد أثبتنا لك أيها القارئ فيما يلي جملة أحاديث في هذا الموضوع لتلين عريكتك وتخفض جناحك وتجنح إلى العفو رغبة بما يعده الله تعالى للعافين أمثالك في يوم أنت أكثر احتياجا إليه، عنك تمتنع من الانتقام الذي فيه حظ النفس الخبيثة الأمارة بالسوء فتحرم من الأجر المقدر على العفو والصفح، فمنها ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال موسى ابن عمران عليه السلام يا ربّ من أعزّ عبادك عندك؟ قال من إذا قدر غفر.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من كان أجره على الله فليدخل الجنة، ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى، قالوا ومن ذا الذي أجره على الله تعالى؟ قال العافون عن الناس، فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب. وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسّم فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت؟ قال إنه كان معك ملك يردّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال عليه الصلاة والسلام ثلاث من الحق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى إلا أعزّ الله عز وجل بها نصره، وما فتح رجل باب عطية

ص: 54

يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة. وفي هذا الحديث تنبيه لأبي بكر رضي الله عنه على ترك الأولى والأخذ بالعزيمة، ولا وجه لقول من قال إن فيه عتبا من حضرة الرسول وهو فعل بعض ما وقع عليه، والله تعالى يقول في مثله (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) الآية 41 المارة، لأن التنبيه شيء والعتب شيء آخر، وكذلك لا يعد لوما لأنه لم يقترن بقول الرسول له لم فعلت أو لم قابلته. هذا وقد أمر صلى الله عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم فقد أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليّ زينب رضي الله عنها وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت عليّ تسبني، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فلم تنته، فقال لي سبّيها، وفي رواية دونك فانتصري، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلهل سرورا. وهذا من قبيل التعزير لزينب بلسان عائشة، لما أن لها حقا في الرد، وقد رأى صلى الله عليه وسلم المصلحة في ذلك ففوض إليها إقامة هذا الحق عنه. الحكم الشرعي: هو أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف، وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم، وقد يغلب في التعزير حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين، وقد يكون حقا محضا لله فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل فله ذلك، وإذا لم تطاوع نفسه على العفو فعليه السكوت حالئذ لئلا يفرط منه ما لا يتلافى فهو سبيل السلامة قال أحمد بن عبيد:

لعمرك ما شهود الناس إلا

بلاء والسلامة في الغياب

فغب ما استطعت إلا عن كريم

يرى لقياك من خير الطلاب

يهدّي إن دللت على صواب

ويهدي إن زللت إلى الصواب

ويهدي بصدر هذا البيت بمعنى يهتدي. وسيأتي لهذا البحث صلة عند قوله تعالى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) الآية 178 من سورة البقرة في ج 3 إن شاء الله «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ» يتولى أمره ويهديه إلى رشده «مِنْ بَعْدِهِ» كما أن من يهديه فما له من مضل «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» يوم القيامة «يَقُولُونَ» يسألون ربهم ثم بين صورة سؤالهم بقوله عزّ قوله

ص: 55

«هَلْ إِلى مَرَدٍّ» إلى الدنيا لنعمل صالحا وهل «مِنْ سَبِيلٍ» 44 إلى ذلك لنؤمن بالله ورسله وكتبه فلا يجابون إلى طلبهم «وَتَراهُمْ» يا سيد الرسل «يُعْرَضُونَ عَلَيْها» أي النار المستفادة من لفظ العذاب آنفا «خاشِعِينَ» متقاصرين متضائلين خاشعين «مِنَ الذُّلِّ» الذي رأوه والهوان الذي حلّ بهم «يَنْظُرُونَ» إلى النار القادمين إليها «مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» أي بمسارقة لشدة الخوف كنظر المقتول إلى الجلاد والتيس إلى الجزار والمحكوم بالإعدام إلى المشنقة. «وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا» عند رؤيتهم أولئك «إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ» الذين اتبعوهم في الدنيا وعملوا بأعمالهم «يَوْمَ الْقِيامَةِ» إذ عرضوهم للعذاب باتباعهم أعمالهم، وكذلك خسروا الذين لم يتبعوهم من أهليهم لأنهم صاروا إلى الجنة وانفردوا عنهم في النار، فصارت خسارتهم مزدوجة فانتبهوا أيها الناس لهذه الخسارة الفظيعة «أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» 45 لا يتحول عنهم ولا يتحولون عنه «وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ» من عذاب ذلك اليوم «مِنْ دُونِ اللَّهِ» لأن الأمر كله له «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ» 46 طريق إلى النجاة فلا يصل إلى الحق في الدنيا ولا إلى الجنة في الآخرة، فيا أيها الناس «اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ» وآمنوا به وانقادوا لرسله «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» حين لا يستطيع من بالكون كله على دفعه أو تأخيره، واعلموا أنه «ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ» يقيكم من عذابه ولا ملتجى تلجأون إليه منه «يَوْمَئِذٍ» يوم يأتيكم وهذا التنوين عوض عن جملة وقد يكون عن كلمة ويكون عن حرف كما سنبين كلا بمحله وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» 47 مما اقترفتموه من الذنوب لأنكم إذا جحدتموها أقرت بها جوارحكم «فَإِنْ أَعْرَضُوا» عن إجابتك يا حبيبي ولم يلتفتوا إلى نصحك «فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» حتى تهتم بشأنهم ويضيق صدرك من عدم إيمانهم «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» لما أرسلت به إليهم ما عليك غيره، وليس لك أن تقسرهم على الأخذ بإرشادك، وقد علمنا أنك قمت بما أمرناك به، فاتركهم الآن حتى يحين اليوم الذي قدر فيه إيمان من يؤمن منهم وتعذيب من بصر على

ص: 56