الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لوساوسه بعدم التصديق بما جاءكم في كنابي وعلى لسان رسولي وعدم الإيمان بي «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» 62 عداوته من زمن آدم فاحذروه وتباعدوا عنه لا يوقعنكم بأشراكه فتندموا.
مطلب في عيسى عليه السلام أيضا وفي الصحبة وماهيتها ووصف الجنة وهل فيها توالد أم لا:
قال تعالى حاكيا عن سيدنا عيسى عليه السلام زمن إرساله الأول بمناسبة ذكر نزوله «وَلَمَّا جاءَ عِيسى» قومه «بِالْبَيِّناتِ» التي أظهرها الله على يديه من إبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى وإحياء الموتى وغيرها «قالَ» إلى قومه المرسل إليهم «قَدْ جِئْتُكُمْ» يا بني إسرائيل «بِالْحِكْمَةِ» العدل والحلم والعلم والإنجيل والنبوة «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ» في الكتاب المنزل علي من ربي عز وجل «بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» من التوراة في أمر الدين والدنيا، وقال في الآية 50 من آل عمران في ج 3 (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وكان عليه السلام غابة همه في الدعوة ما يتعلق بأمر الدين لأنه عن الدنيا بمعزل لذلك لم يبالغ في أمر الدنيا ولم يلتفت إليها ولم يلفت نظرهم إليها «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» 63 فيما آمركم وأنهاكم وإني أقول لكم «إِنَّ اللَّهَ» فاطر السموات والأرض «هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ» لأني بشر مثلكم قد فضلني بالنبوة والرسالة «فَاعْبُدُوهُ» كما أنا أعبده وحده «هذا» الذي أنا عليه من التوحيد الذي أدعوكم إليه هو «صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» 64 يوصلكم إلى الجنة إن تمسكتم بعبادة ربكم الواحد «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ» من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى وتحزبوا عليه وهموا بقتله وهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية والشمعونية الذين كانوا في زمنه، وقدمنا شيئا من هذا في الآية 165 من الأعراف في ج 1، «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم وغيرهم بالإنكار على عيسى والإصرار على قتله «مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» 65 في الآخرة راجع الآيتين 33/ 34 من سورة مريم في ج 1، قال تعالى «هَلْ يَنْظُرُونَ» قوم عيسى بإصرارهم على الكفر به وقتله «إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً» على حين غرة من انهماكهم في هذه الدنيا «وَهُمْ
لا يَشْعُرُونَ»
66 بها وإذ ذاك يرون سوء صنيعهم فيه. وإلى هنا انتهى ما جاء في حق عيسى عليه السلام. قال تعالى «الْأَخِلَّاءُ» على المعاصي في الدنيا «يَوْمَئِذٍ» يوم تقوم الساعة ويقفون في الموقف يكون «بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» فيه، لأن كلّا منهم يحمل على صاحبه وخليله بما حل به من العذاب، فيقول له أنت الذي سببته لي «إِلَّا الْمُتَّقِينَ» 67 الذين تحابوا في الدنيا على تقوى الله وتخاللوا من أجله فهؤلاء ينتفعون بها بالآخرة فيشفعون لبعضهم كما انتفعوا بها في الدنيا بأمر بعضهم بعضا بالمعروف ونهيهم عن المنكر ويرون ثواب ما كانوا مجتمعين عليه ويتناصحون فيه، راجع الآية 63 من سورة يونس المارة والآية 31 من سورة إبراهيم الآتية في بحث الصداقة، ويقول الله تعالى لهؤلاء «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» مما يخاف الناس العصاة من أهوال يوم القيامة «وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» 68 على ما فاتكم في الدنيا، قال المعتمر بن سليمان إن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع، فينادى يا عبادي، فيرجوها كل أحد، فيتبعها قوله عز قوله (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا) التي أظهرناها على أيدي رسلنا «وَكانُوا مُسْلِمِينَ» 69 لنا منقادين لأوامرنا، فييأس الكفار ويقفون حائرين مبهوتين، ويقال لهؤلاء المؤمنين «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ» المؤمنات «تُحْبَرُونَ» 70 تسرون فيها وتنعمون بنعيمها فيظهر على وجوههم آثار الفرح والسرور والرضاء
ثم «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ» جمع صحيفة أواني الطعام «مِنْ ذَهَبٍ» بيان لنوعها وجنسها «وَأَكْوابٍ» أوانى الشرب من ذهب أيضا، ولما كان الطعام عادة أكثر من الشراب جمع الصحاف جمع كثرة والأكواب جمع قله «وَفِيها» أي الجنة التي أدخلوها «ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» من المأكول والمشروب والملبوس والمنام والنساء وغيرها، وجاء هنا ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهائها تخصيص بعد تعميم كما ذكر أولا الوصف الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف بأواني الذهب الذي هو بعض من النعيم والترفه تعميم بعد تخصيص، قال تعالى «وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ» 71 أبدا لا تتحولون عنها «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ» العظيمة بهية المنظر منعشه الأرواح
«الَّتِي أُورِثْتُمُوها» شبه الله تعالى ما استحقوه بأعمالهم الصالحة من الجنة ونعيمها الباقي لهم، بما يخلفه الرجل لوارثه من الأملاك والأموال، ويلزم من هذا التشبيه تشبيه العمل نفسه بالمورث بكسر الراء فاستعير الميراث لما استحقوه، ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقيل تمثيلية، وجاز أن تكون مكنية، فالتبعية هي التي لا تجري الاستعارة فيها ابتداء غير اسم الجنس بل تبعا، وردها السكاكي إلى المكنية، وهي لفظ المشبه به المتروك المستعمل في المشبه المرموز إليه بذكر لازمه كلفظ السبع المتروك في قولنا: أظفار المنية نشبت بفلان، والتمثيلية هي الهيئة الحاصلة في الذهن المنتزعة من عدة أمور نحو إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، لمن يتردد في الفتوى والأمر، ولكل أقسام مذكورة في محلها، وقد فسرها الخطيب بغير هذه التفاسير، ومن أراد تمام الاطلاع على هذا فليراجع علم البيان. هذا، ويقول الله تعالى قوله وقد جعلت لكم الجنة ميراثا «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 72 بسبب عملكم الطيب في الدنيا ونعم الميراث الجنة الدائمة من الدنيا الفانية يا عبادي الأبرار «لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ» لا يحصى نوعها ولا جنسها فهي ألوان وأشكال وطعمها متنوع لا يقدر أن يصفها واصف ولا يعدها عاد «مِنْها تَأْكُلُونَ» 73 متى اشتهيتم بلا تعب ولا ثمن، أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال: قال رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل في الجنة خيل فإني أحب الخيل؟ قال إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من يا قوتة حمراء فتطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت. وسأله آخر فقال: يا رسول الله هل في الجنة من إبل فإني أحب الإبل؟ قال فلم يقل له ما قال لصاحبه فقال إن يدخلك الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك. وجاء في حديث آخر أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا بنت مكانها مثلها. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من أحد إلّا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزلته في النار والمؤمن يرث الكافر منزلته في الجنة وذلك قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) الآية، وقدمنا ما يتعلق في هذا في الآية 43 من سورة الأعراف وله صلة في الآية 32 من سورة النحل الآتية.
وأخرج هناد وعيد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال: تجوزون الصراط يعفو الله، وتدخلون الجنة برحمة الله، وتقتسمون المنازل بأعمالكم. أي بفضل الله لأن الأعمال وحدها لا تكفي، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: لن يدخل أحدكم الجنة. بعمله أي على سبيل الاستقلال والسببية، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث. واعلم أن الآية السابقة تفيد أن ما كان بين الناس في الدنيا من مودة ومحبة وخلة تنقطع كلها إلا ما كان منها على تقوى الله وطاعته ورضاه، وهؤلاء هم المتحابون في الله، المتصادقون على محبته. روي عن علي كرم الله وجهه في تلك الآية قال: خليلان مؤمنان وخليلان كافران، مات أحد المؤمنين فقال يا رب إن فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر ويخبرني أني ملاقيك، يا رب فلا تضله بعدي واهده كما هديتني وأكرمه كما أكرمتني، فإذا مات خليله المؤمن جمع بينهما فيقول ليئن كل منكما على صاحبه، فيقول نعم الأخ ونعم الخليل ونعم الصاحب، قال ويموت أحد الكافرين فيقول يا رب إن فلانا كان ينهاني عن طاعتك وطاعة رسولك، ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني
غير ملاقيك، يا رب أضلّه ولا تهده كما أضلني، ولا تكرمه كما أهانني، فإذا مات خليله الكافر جمع بينهما فيقول ليئن كل منكما على صاحبه، فيقول بئس الأخ وبئس الخليل وبئس الصاحب. وقيل في هذا:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي
…
يذمك ان ولى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمنا
…
وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
وقال الآخر:
وتعجب في قطعي مودة صاحب
…
وقد كنت قدما مولعا بوداده
فقلت لها يا عزّ لا تعجبي له
…
من الحزم قطع العضو عند فساده
هذا وقد ذكر الله تعالى الملاذ كلها ولم يذكر اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجهه الكريم، على انها تدخل في قوله (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي عن أنس: حبب إليّ الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة. وقال قيس بن ملوح:
ولقد هممت بقتلها من حبها
…
كيما تكون خصيمتي في المحشر
حتى يطول على الصراط وقوفنا
…
وتلذ عيني من لذيذ المنظر
ولهذا قال جعفر الصادق رضي الله عنه: شتان ما بين ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذّ الأعين كإصبع تغمس في البحر، لأن شهوات الجنة لها عد ونهاية لأنها مخلوقة، ولأتلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل جلاله ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية.
ولسائل أن يسأل هل في الجنة توالد لأنه من جملة ما تشتهيه النفس؟ فالجواب نعم أخرج الإمام احمد وهناد والدارمي وعيد بن حميد وابن ماجه وابن حبّان والترمذي وحسّنه وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور، فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي. قال ابن منده لا ينكر هذا الحديث إلا جاهل أو جاحد أو مخالف للكتاب والسنة لأنه من جملة ما يشتهى وهو مذكور في الكتاب والسنة.
وقال في حاوي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم. وقال السفاريني في البحور الزاخرة حديث أبي سعيد أجود أسانيده اسناد الترمذي. وقال الأستاذ أبو سهيل فيما نقله الحاكم إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ.
وأما من قال إنه لا يولد لهم فقد احتج بقوله تعالى (أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) والمطهرات لا يحضن ولا ينفسن كما أنهن لا يبلن ولا يتغوطن، وان الولد يجعل من المني ولا مني هناك، ويعقبه الطمث والوجع ولا وجع هناك، ولم ينظر. هذا القائل إلى أن الله تعالى قادر على أن يولدهن في الجنّة بلا نفاس ولا ألم ويحملهن بلا حيض وبلا مني، لأن في اشتراط لزوم ذلك تعجيزا للقدرة. وما قيل إن التوالد في الدنيا لبقاء النوع الانساني وهو باق في الجنة بلا توالد فيكون عبثا، يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب والسماع والنظر فإنها للدنيا لشيء، وفي الجنة لشيء آخر. بقي هنا أن من أصحاب النفوس الخبيثة الذميمة من يقول انه ليشتهي اللواط في الجنة وهو بعيد عنها كما يشتهيها في الدنيا وهو من أهلها، فيقال
له إنها لا تكون في الجنة لأن ما لا يلبق أن يكون فيها لا يشتهيه أهلها لأن أنفسهم طاهرة سليمة من الأرجاس، والجنة مقدسة لا يدخلها إلا مقدس وهذه الفعلة القبيحة لا يشتهيها في الدنيا إلا ذو والأنفس الرذيلة مثل المعتزلي الذي أشرنا إليه في الآية 84 من الأعراف في ج 1 ومن تحدثه نفسه بذلك ويشتهي اللواطة في الجنة فالجنة عليه حرام، لأن ذلك دليل على ولعه فيها والوالع فيها لا شك مستحلّ ومستحل الحرام كافر بالإجماع ولا يشم ريح الجنة لوطي، وهو داخل في قوله تعالى «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ» 74 لأنها خبيثة وأهلها خبثاء وأنفسهم خبيثة والخبيث أحق أن لا يخرج من النار ويدوم عليه العذاب وأجدر أن «لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ» العذاب أبدا «وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» 75 آيسون من رحمة الله وأنى لأمثالهم الرحمة في الآخرة وكانوا لا يؤمنون بها وكيف يرجون لطف الله وهم قد كفروا به، قال تعالى «وَما ظَلَمْناهُمْ» بتخليدهم بالعذاب لأنا لا نعذب أحدا بلا جرم «وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ» 76 أنفسهم بجناياتهم وشهواتهم وسوء فعلاتهم الدنيئة. قال تعالى «وَنادَوْا يا مالِكُ» خازن النار يستغيثون به، قيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ يا مال فقال ما أشغل أهل النار عن الترخيم، وهذا الثناء على طريق الاستفهام المعنوي «لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» هذا العذاب فنموت ونستريح منه فرد عليهم بقوله «قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» 77 فيه لا خلاص لكم منه خلود بلا موت، راجع الآية 108 من سورة هود المارة «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ» الذي وعدناكم به على لسان رسلنا يا أهل النار «وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» 78 لأنكم في الدنيا كنتم تنفرون عنه ولا تقبلونه لما فيه من تعب النفس وعدم رغبتها له وقد اخترتم رغبة الدنيا عليه فتعبتم بالآخرة. قال تعالى مخبرا حبيبه محمدا صلى الله عليه وسلم بما يحوك في صدر قومه من تجمعاتهم ومذاكراتهم في شأنه «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً» في المكر بك والكيد لك، وذلك أنهم كانوا مجتمعين في دار النّدوة يتناجون فيما يفعلونه به ليتخلصوا منه وقد بعث رحمة لهم، قال تعالى لا تخشهم يا حبيبي «فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» 79 أمورا كثيرة من أنواع الكيد والمكر بأعظم وأكبر مما يتصورونه ومهيئون لهم ما يدحض إبرامهم مما
يخلصك منهم «أَمْ يَحْسَبُونَ» هؤلاء الكفرة الذين يريدون اغتيالك بما تسول لهم أنفسهم الضالّة الغاشمة فيظنون «أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى» وحياتك يا حبيبي أنا أسمع له منهم وأعلم بما تحدثه به أنفسهم «وَرُسُلُنا» أيضا الموكلون بالخلق والمرسلون لهذه الغاية «لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» 80 ما يقع منهم سرا وعلنا لا يتركون منه شيئا، لأنا أرسلناك لتدبر لهم أسباب الرحمة الدائمة رحمة بهم، وهم يحيكون لك أسباب العذاب ليجلوك أو يحبسوك أو يقتلوك ولجهلهم لا يعلمون أنا حافظوك منهم ومن غيرهم ومؤيدوك عليهم، وهذا إيماء لحضرة الرسول بالهجرة عن قومه الذين أشغلوا أنفسهم بكيفية التخلص منه وهو متعب نفسه الكريمة بماهية خلاصهم من الكفر وإنجائهم من العذاب، ولكن كل ينفق مما عنده، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
«قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء الذين يزعمون أن الملائكة بنات الله «إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ» كما تظنون «فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» 81 له المعظمين شأنه ولسبقتكم بطاعته كما يعظم ابن الملك احتراما للملك، وهذا على سبيل الفرض والتمثيل لغرض وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد لأنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال، فالمعلق بها محال مثلها، ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج حين قال له: والله لأبدلنك في الدنيا نارا تلظى، فقال سعيد لو عرفت هذا إليك ما عبدت إلها غيرك.
وهاتان الآيتان باعيتان على المشركين عداوتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم وإسنادهم الولد إلى الله وهو منزه عنه «سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» 82 من الافتراء عليه وهو براء من الولد وغيره «فَذَرْهُمْ» يا سيد الرسل ودعهم «يَخُوضُوا» في أباطيلهم «وَيَلْعَبُوا» في دنياهم ويستبروا في اللهو «حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» 83 به بالدنيا قتلا وأسرا أو الجلاء والموت وفي الآخرة بأنواع العذاب الأليم «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ» الآية يعبد ويقدس ويطاع لا إله غيره له الخلق والأمر. ونظير هذه الآية 4 من سورة الأنعام المارة من حيث المعنى فكأنه جلّ ذكره ضمّن معنى المعبود فيهما وحذف الضمير الراجع إلى الموصول لطول الكلام ليصح تعليق الجار والمجرور فيه وهو هو
ولا يقال هنا إن النكرة إذا أعيدت تكون غير الأولى لأن المعنى هنا أن نسبته إلى السماء بالألوهية كنسبته إلى الأرض، وهي دلالة قاطعة على أنه تعالى غير مستقر في السماء وكما أنه غير مستقر في الأرض وهو إلههما فكذلك هو إله السماء مع أنه غير مستقر فيها تدبر. ومن الشك فاحذر فتسقط إلى الحضيض. واعلم أن كل ما خطر ببالك فالله تعالى غير ذلك، راجع الآيتين 18/ 103 من سورة الأنعام المارة «وَهُوَ الْحَكِيمُ» في تدبير خلقه «الْعَلِيمُ» 84 بما يصلحهم «وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» وقت قيامها فلا يعلمه غيره «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» 85 في الآخرة «وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ» لأن أمرها منوط به وحده وما يزعمون من أن أوثنهم تشفع زور وبهت، لأنها باطلة ولا يأذن الله بالشفاعة لأحد «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» كالأنبياء والرسل والملائكة ومن يشاء من عباده العارفين الكاملين، ولمن يأذن لهم من غيرهم أن يشفعوا له «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» 86 بحالة المشفوع له لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعوّل عليها. وجمع الضمير هنا باعتبار معنى من، كما أن الإفراد باعتبار لفظها والاستثناء متصل لأن المراد به أي بالذين يدعون هم المشركون وبمن دونه كل من يعبد من دون الله عز وجل لما في معنى من من معنى الشمول والعموم.
وسبب نزول هذه الآية أن النضر بن الحارث ونفرا معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقا بأنه يشفع لمن يتبعه فنحن نتولى الملائكة وهم أحق بالشفاعة منه وكذلك قول اليهود والنصارى إن عزيرا والمسيح يشفعان لهم، فردّ الله تعالى على هؤلاء كلّهم بأن ما يتوخونه من الشفاعة من أولئك باطل لأنهم لا يملكون شيئا من الشفاعة لهم، وأن الذين يمكن أن يشفعوا هم الذين اعترفوا بالإله الواحد الحق إذا خولهم ذلك لمن يشاء من عباده، فالشافعون مقيدون بمشيئة الله والمشفوع لهم مقيدون برضاء الله، راجع الآية 79 من سورة الإسراء والآية 109 من سورة طه في ج 1. ولهذا البحث صلة في الآية 28 من سورة الأنبياء الآتية، قال تعالى «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» أوثانكم أم الله «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» الذي خلقهن لعلمهم بعجز أوثانهم لأنها من صنع أيديهم فقل لهم عند ذلك «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» 83 تختلقون
القول بأن أصنامكم شركاء لله، والشريك لا بد وأن يعمل مثل شريكه أو أقل منه وشركاؤكم عاجزون عن عمل شي ما في السموات والأرض، فكيف تسندون لهم أمر الشفاعة وهم لا يدفعون عن أنفسهم سوءا، وكيف تعبدون غير الله مع اعترافكم بأنه خالقكم ورازقكم؟ وفي هذه الجملة تعجيب مما هم عليه من المناقضات «وَقِيلِهِ» قول محمد صلى الله عليه وسلم «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ» قومي «قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» 88 بك ولا يصدقوني وفيه معنى التحسر والتحزّن منه صلى الله عليه وسلم وهنا قد شكا إلى ربه تخلف قومه عن الإيمان كما قال ابن عباس وقال قتادة هذا نبيّكم يشكو قومه إلى ربه وهو آسف من ذلك. وفيه معنى القسم أي وحق قيله، وإنما أقسم بقيله لبيان رفع جنابه وعلو شأنه والتعظيم لدعائه والتبجيل لا لتجائه إليه، قال تعالى «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ» يا سيد الرسل لا تدع عليهم وأمهلهم كما أمهلتهم ليؤمن مؤمنهم ويصر كافرهم «وَقُلْ سَلامٌ» أي اتركهم الآن لأن السلام هنا سلام متاركة لا سلام تحية، ومن قال إنه سلام تحية استدل بجواز السلام على الكفار وابتداؤهم بالتحية محتجا بما أخرجه ابن أبي شيبة عن شعيب بن الحجاب قال كنت مع علي بن عبد الله العارفي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه، فقال شعيب فقلت انه يهودي أو نصراني فقرأ علي هذه الآية. وما أخرجه بن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد الله قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف تقول في ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال ما أرى بأسا أن تبدأهم، قلت ولم؟ قال لقوله تعالى وتلا هذه الآية. وان هذين الحديثين لا حجة فيهما، لأن اليهود والنصارى من أهل الكتاب الذين لا يقولون بنبوة عيسى وكونه ثالث ثلاثة ولا بإلهيته، والذين لا يقولون بنبوة عزير وبالبداء على الله من اليهود وليسوا من الكفار والمشركين مع الله غيره المعهودين بقوله تعالى:(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) 89 عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم وقبيح اعتقادهم وفساد آمالهم وخيبة رجائهم لأنها بحقهم خاصة لا دخل لأهل الكتابين بها والأولى بالسياق أن يكون سلام متاركة مثل سلام ابراهيم عليه السلام لأبيه، كما مر في الآية 47 من سورة مريم في ج 1.
هذا، وما قيل ان هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل غير سديد، قال الإمام: وعندي أن التزام النسخ في أمثال هذه المواضع مشكل، لأن الأمر