الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
وهذا آخر ما نزل في مكة المكرمة من سور القرآن الكريم ولم يبق من القسم المكي إلا آيات أثبتناها ضمن سورها المدنية كما سنأتي على ذكرها في محلها إن شاء الله، وسنشير إليها كما أشرنا في القسم المكي إلى الآيات المدنيات المثبتة ضمن سورها المكية، وقد ذكرنا شيئا من هجرة الرسول بعد نزول سورة المطففين واجتماع قريش على الصورة المبينة في الآية 40 من سورة العنكبوت المارة، وقد وعدنا بإكمال قصة الهجرة بعد تفسير الآية 60 منها، وهانذا أوفي بذلك فأقول ومن الله التوفيق:
مطلب بقية قصة الهجرة وفضل أبي بكر الصديق وجوار ابن الدغنة له:
إن حضرة الرسول وأبا بكر لما ذهبا إلى الغار، وجاء المشركون إليه، فلم يدخلوه لما رأوا عليه من نسج العنكبوت الدال على عدم دخوله من قبل أحد رجعوا يتحرونة خارج مكة، لأنهم يعلمون أن أحدا لا يدخله داره بعد أن تحالفوا وتواثقوا على قتله، وبقي صلى الله عليه وسلم ورفيقه في الغار ثلاثة أيام. روى البخاري ومسلم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رءوسنا، فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟. قال الشيخ محي الدين النووي:
معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) الآية من آخر سورة النحل المارة، ويشير قوله هذا إلى عظيم توكله صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام، وتؤذن بفضل أبي بكر واختصاصه برفقته هذه لحضرة الرسول التي أشار الله إليها في قوله (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) ، وقوله في صدر هذه الآية 42 من سورة التوبة ج 3 (إلّا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار) وتعد هذه من أجل مناقبه رضي الله عنه في هذه الحادثة من أوجه كثيرة، منها اللفظ الدال على أن الله تعالى ثالثهما كما مر في الحديث، ومنها التنويه في الآية المذكورة بصحبته،
ومنها بذله نفسه لحضرة الرسول ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله، ومنها ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس من أجله، ومنها أنه جعل نفسه وقاية لحضرة الرسول، فقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ذكر عنده أبو بكر، فقال وددت أن عملي كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه، وليلة واحدة من لياليه. أما الليلة فليلة سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، فلما انتهيا إليه قال والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخله وكنسه ووجد في جانبه ثقبا فشق إزاره وسدّه به، ووجد ثقبين آخرين فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله أدخل، فدخل ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الثقب، فلم يتحرك مخافة أن ينتبه حضرة الرسول، فسقطت دموعه على وجهه الشريف، فقال صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا بكر؟ قال لدغت فداك أبي وأمي، فتقل على محل اللدغة فذهب ما يجده من ألم ببركته صلى الله عليه وسلم. وما قيل إنه انتقض عليه وكان سبب موته بعيد عن الصحة، لأن ما بين اللدغة وبين موته ما يزيد على إحدى عشرة سنة، فلا يعقل بقاء أثر اللدغة تلك المدة، على أن السم إذا برىء منه صاحبه نفع وجوده كما هو معلوم طبا ومشاهدة، وأما يومه فلما قبض صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، وقالوا لا نؤدي الزكاة فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه، فقلت يا خليفة رسول الله تألّف الناس وارفق بهم، فقال لي: أجبار في الجاهلية حوار في الإسلام، إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي؟
- أخرجه في جامع الأصول ولم يرقم عليه علامة لأحد- قال البغوي: وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العار جعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلقه فقال له رسول الله مالك يا أبا بكر؟ فقال أذكر الطلب فأمشي خلقك، وأذكر الرصد فأمشي بين يديك، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار، فدخل فاستبرأه، ثم قال انزل يا رسول الله، فنزل وقال له إن أقتل وأنا رجل واحد من المسلمين، وإن قتلت هلكت الأمة. قال الزهري لما دخل رسول الله الغار وأبو بكر أرسل الله سبحانه وتعالى زوجا من حمام حتى باضت أسفل النقب، ونسجت العنكبوت بيتا، وقيل أتت يمامة على فم الغار وقال صلّى الله عليه وسلم
اللهم أعم أبصارهم، فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت. هذا وقد وجدت في بعض التفاسير هذه الأبيات منسوبة لأبي بكر رضي الله عنه، فأثبتها وهي:
قال النبي ولم يجزع يوقرني
…
ونحن في سدف في ظلمة الغار
لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا
…
وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره
…
كيد الشياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم طرّا بما صنعوا
…
وجاعل المنتهى منهم إلى النار
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لما اختفى في الغار كان مطلعا على باطن أبي بكر في سرّه وإعلانه بأنه من المؤمنين الموقنين المخلصين، ولذلك اختار صحبته في ذلك الوقت الرهيب والمكان المخوف، ومنها أن هذه الهجرة كانت بإذن الله تعالى فخص بصحبته فيها الصديق دون غيره من أهله وعشيرته، وهذا التخصيص يدل على فضل أبي بكر وشرفه على غيره، ومنها أن الله تعالى عاتب أهل الأرض كلهم بقوله عز قوله (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) الآية المارة من التوبة سوى أبي بكر، وهذا دليل كاف على فضله على أهل الأرض كلهم عدا صاحبه، ومنها أنه رضي الله عنه لم يتخلف عن رسول الله في سفر ولا حضر بل كان ملازما له في الشدة والرخاء وهذا مما يدل على صدق محبته له وكثرة مودته بحيث لا تستطيع نفسه الكريمة مفارقة حضرة الرسول في اليسر والعسر، ومنها مؤالسته للنبي صلى الله عليه وسلم في الغار وبذل نفسه له وفداء زوجه أمامه كما تقدم ذكره حال المشي وحال الدخول وحال الاستقرار في الغار مما يحقق تمحضه فيه، ولهذا جعله الله تعالى ثاني رسوله بقوله عز قوله (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) الآية المارة من التوبة، وفي هذا نهاية الفضيلة وغاية الكرامة له. وقال بعض العلماء: إن أبا بكر ثاني رسول الله في أكثر الأحوال، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الخلق إلى الإيمان بالله وبكتابه فكان أبو بكر أول من أجاب دعوته، وهو أول من دعا إلى الإيمان بعد رسول الله فاستجاب له عثمان وطلحة والزبير، فآمنوا على يديه وحملهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقروا له بالإيمان، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف في موقف من غزواته إلا وأبو بكر
معه لشدة حرصه عليه، ومنها أنه لما مرض صلى الله عليه وسلم قام مقامه في الإمامة بأمره صلى الله عليه وسلم مما يدل على تفضيله على سائر الأصحاب، ومنها أنه ثانيه في تربته صلى الله عليه وسلم لأنه دفن بجانبه وفي هذا دليل على فضله أيضا، ومنها أن الله تعالى نص على صحبته دون غيره بقوله جل قوله (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا) الآية الآنفة الذكر من التوبة، ومنها أن الله تعالى كان ثالثهما، ومن كان الله معه فهو كاف على فضله وشرفه على غيره، ومنها إنزال السكينة على أبي بكر واختصاصه بقوله تعالى (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) الآية المذكورة أيضا، قال ابن عباس المراد أبو بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل ذلك. هذه نبذة قليلة من فضائله رضي الله عنه قال الأبوصيري:
وما حوى الغار من خير ومن كرم
…
وكل طرف من الكفار عنه عمي
فالصدق في الغار والصديق لم يرما
…
وهم يقولون ما في الغار من أرم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على
…
خير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة
…
من الدروع وعن عال من الأطم
هذا وبعد أن بقي النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاثة أيام بلياليها لا حامي لهما إلا الله ولم تترك قريش محلا إلا دخلته تفتش عليه، وكان أبو بكر منذ أخبره حضرة الرسول بإذن الله بالهجرة ووافق على استصحابه معه استحضر راحلتين ليركبا عليهما وصار يعلفهما، وقيل أن يذهبا إلى العار استدعيا رجلا من بني عدي وسلماهما إليه وأمراه بإكرامهما، وواعداه أن يحضرهما إليهما بعد صبيحة ثلاث إلى الغار، وفي الوقت المذكور أتى بهما إليهما فخرجا من الغار والناس نيام بعد والعيون منقطعة، فركب كل منهما واحدة واستصحبا الديلى دليلا ومشيا على بركة الله قاصدين المدينة، كما جاء في الحديث الصحيح الذي هو من إفراد البخاري المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين الإسلامي، ولم يمر علينا يوم إلا ويأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد (بفتح الراء وكسر الغين موضع بينه وبين مكة خمس ليالي مما يلي البحر لأن طريقهما كان على الساحل)
لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، فقال ابن الدغنة فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، تخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق. - ولو قال كما قال مؤمن آل فرعون (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ) الآية 28 من سورة المؤمن المارة لأن الجلاء أخر القتل عندهم بل أشد، ولكنه لا يدين بدين الله حتى يقول ذلك بتوفيق الله، وإنما وصفه بأوصافه الكريمة وهو لها أهل-. فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وفي رواية: فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر، وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصل فيها ويقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساؤنا وأبناؤنا، فقال ذلك ابن الدغنه لأبي بكر، فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذّف عليه نساء المشركين وأنباؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان رجلا لا يكاد يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك اشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال له قد علمت الذي عاهدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإمّا أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني خفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر إني أردّ إليك جوارك وأرضى
بجوار الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين إني أريت دار هجرتكم سبخة ذات نخيل بين لابتين وهما الحرتان. فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق السمر وهو الخبط أربعة، أشهر. قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن جلوس يوما في بيت أبي بكر في نحو الظهيرة قال قائل هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت فجاء رسول الله فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أخرج من عندك، فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال فإني قد أذن لي في الخروج، قال أبو بكر الصحبة يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، قال أبو بكر فخذ بأبي أنت وأمي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن، قالت عائشة فجهزناهما أحسن الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها (التي تشد به وسطها) فربطت به فم الجراب، فبذاك سميت ذات النطاقين، قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن (صادق فطن مرن سريع الفهم سريع الانتقال) ، فيدلج (الإدلاج بالتخفيف السير أول الليل وبالتشديد آخره) من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كباثت فيها، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك اليوم حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة (المنحة الشاة ذات اللين) من غنم فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل (بكسر الراء وسكون السين اللين) حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عدي هاديا خرّيتا