الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا ذا القرنين، فقال تسميتم بأسماء الأنبياء فلم ترضوا حتى تسميتم بأسماء الملائكة، لأن الرسول قال: خير الأسماء ما عبد وحمد، وان الرسول كان ينهى عن التسمية ببعض الأسماء مثل فلاح ونافع وشبههما، فساغ لعمر أن ينهى عن ذلك، وهذا لا حجة فيه، لاحتمال علم سيدنا عمر بأن أحد الملائكة اسمه ذو القرنين، فنهى عن ذلك، ولو فرض أن اسمه وافق أسماء الملائكة فلا يفرض أنه ملك، والقصد من قول عمر على فرض صحته عدم رغبته بأن يسمى الناس بغير ما حبذه حضرة الرسول.
مطلب من هو ذو القرنين وسيرته وأعماله والآيات المدنيات:
وأصح الأقوال انه عبد صالح ملكه الله تعالى أرضه والبسه الهيبة وأعطاه العلم والحكمة والشجاعة، وسبب تسميته بذلك طوافه قرني الدنيا شرقها وغربها، وكما اختلف في تسميته ونبوته اختلف في نسبه، فمنهم من قال إنه من حمير ومنهم من قال إنه من الفرس ومنهم من قال إنه من الروم، وأصح الأقوال في نسبه واسمه ومن هو على الحقيقة ما سيأتي في الآية 99 الآتية، فراجعها، وقد ذكرنا في المقدمة أن كل قول يصدر بلفظ قالوا دليل على ضعفه وعدم تحققه. قال تعالى «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء السائلين «سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ» من حاله وقصته «ذِكْراً» 83 من أنبائه صحيحا لوروده في الذكر الحكيم القرآن الذي لا أصح منه، ولا يوجد في الكتب القديمة ما هو مفصل مثله لكونه منزلا من الله بلفظه ومعناه.
قال تعالى «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ» وثبتناه فيها وقدرناه على أهلها ومهدنا له سبلها «وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» يحتاجه لإصلاح الدنيا «سَبَباً» 84 بإرشادنا إليه وهدايتنا لأتباعه «فَأَتْبَعَ سَبَباً» 85 أي سلك طريقا «حَتَّى إِذا بَلَغَ» منتهى الغمار مما يلي «مَغْرِبَ الشَّمْسِ» بحيث لا يمكن لأحد إذ ذاك مجاوزة الحد الذي وصل إليه «وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» ذات طين أسود، أي في مطمح نظره رآها كأنها تغرب في هوة مظلمة كما أن راكب البحر يرى أن الشمس تغيب فيه وتطلع منه، إذ لم ير الساحل وهي في الحقيقة تغيب وراءه وتطلع أمامه، لأن الشمس أكبر من الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف مرة وهي في الفلك الرابع فكيف يمكن دخولها في عين من عيون الأرض، على أن الله تعالى
قادر على أكثر من ذلك، وليس عليه بكثير أن يدخل الجسم الكبير في الأصغر ولا يبعد أن يطوي الأرض لعباده حتى يقطعوا منها ما لا تقطعه الطائرات ولا غيرها، وان الله تعالى لم يخبر أحدا عن حقيقة غروبها في تلك العين، وإنما أخبر عن وجدان ذى القرنين غروبها فيها، لأنه ركب البحر متجها إلى الغرب إلى أن بلغ موضعا لم يتمكن معه من السير فيه، فنظر إلى الشمس عند غروبها فوجدها بنظره كذلك «وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً» 86 أي عند تلك العين في الموضع الذي وقف به سيره «قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ» من لم يسلم منهم «وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً» 87 بأن نأسرهم ونعلمهم الإيمان تدريجيا «قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ» بقي على ظلمه ولم يتب من كفره بل بقي مصرا «فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ» بالقتل الآن «ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ» في الآخرة «فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً» 88 فظيعا متجاوزا الحد «وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى» الجنة في الآخرة والعفو عما اقترفه في الدنيا «وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» 89 فنعامله باللين والعطف. قال تعالى «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» سلك طريقا آخر
حَتَّى إِذا بَلَغَ» منتهى العمار مما يلي «مَطْلِعَ الشَّمْسِ» أي منتهى الأرض المعمورة في زمنه التي تطلع عليها الشمس قبل غيرها من جهتها إذ لا يمكن أن يبلغ موضع الطلوع لنفسه «وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» 90 بحيث لا يوجد جبل ولا شجر يظللهم منها، وان الأرض هناك رخوة جدا لا تحمل البناء، وإنما فيها أسراب يدخلونها عند طلوعها تظلهم منها، حتى إذا زالت وبعدت عنهم خرجوا لمعاشهم الذي هيأه الله لهم هنالك «كَذلِكَ» حكم فيهم كما حكم بالذين وجدهم عند غروبها، ولم نتكلم على هؤلاء وأولئك، كما قيل إن الأولين من قوم صالح، والآخرين من قوم هود، إذ لا دليل يعتمد عليه ولا نقل يوثق به، قال الأصوليون إذا كنت مدعيا فالدليل، وإذا كنت ناقلا فصحة النقل. ولا يوجد دليل قاطع ولا نقل صحيح في ذلك ولذلك نكل علمهم إلى الله القائل «وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً» 91 به وبما وعده وبمن معه وعدته وآلاته وعدد جنده وبما عمل في ذلك وما فعل وقصد
ونوى وحدثته به نفسه أو خطر بباله. هذا ولم يقص الله تعالى علينا ما وقع بينه وبين أهل المغرب والمشرق غير تلك المكالمة. قال تعالى «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» 92 سلك طريقا آخر أيضا «حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ» هما جبلان في ناحية الشمال مرتفعان، قالوا إن الواثق بالله العباسي بعث من يثق به لمعاينتهما فخرجوا من باب الأبواب وشاهدوه وأخبروه بأنهم رأوه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس، إلا أنه حتى الآن لم يطلع عليه أحد، كمدينة إرم التي لم يطلع عليها إلا رجل واحد كما قيل، راجع الآية 8 من سورة الفجر في ج 1، ولا بد أن يحين الوقت للعثور عليهما لا سيما وأن يأجوج ومأجوج من وراء السد، وخروجهما من أمارات الساعة، وهم المعنيون بقوله تعالى «وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» 93 إلا بجهد شديد، لذلك فهم منهم مرادهم بمشقة وبالإشارة وهو ما قصه الله تعالى بقوله «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» يقرآن بالهمزة وبغيره، ولم يأت ذكرهما في القرآن إلا هنا وفي سورة الأنبياء في الآية 66 الآتية «مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» التي هم فيها، إذ يأكلون عشبهم ويحملون كلاهم ويتعدون عليهم «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً» جعلا وأجرة من أموالنا «عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» 94 يمنعهم من الوصول إلينا لنأمن تجاوزهم على حدودنا، لأن لهم ما بين الجبلين، فلما رأى صحة قولهم «قالَ» لا أريد منكم شيئا وإني لم آخذ على إحقاق الحق أجرا، وإن «ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي» من القوة والغلبة والمال «خَيْرٌ» مما تعطونه لي، وإن من واجبي أن أصونكم وغيركم من التعدي، لا سيما وقد دخلتم في حوزتي، لذلك لا أكلفكم بمال ما ولكن إذا أردتم الاستعجال فيه «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ» من أبدانكم وأشخاصكم «أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً» 99 جدارا منيعا مرتفعا حصينا يحول دون وصولهم إليكم، قالوا فما هذه القوة التي تريدها منّا والتي تعنيها بقولك من أبداننا؟ قالَ لهم آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» قطعه وعملة وبنائين وحطبا لأريكم ماذا أفعل، فأحضروا له ما شاء، قالوا وقد حفر الأساس ما بين الجبلين حتى بلغ الماء وجعل فيه الصخر وبناه بلبن الحديد، وجعل بينه الفحم والحطب، وكان
بطول فرسخ وعرض خمسين ذراعا وبعلو ذروة الجبلين. قال تعالى «حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ» جانبي الجبلين لأنهما متصادفان، أي متقابلان ومتقاربان في العلو، أعطى الحطب النار و «قالَ انْفُخُوا» عليه بالمنافيخ ففعلوا وسبت النار والفحم تدريجا ولم يزالوا كذلك «حَتَّى إِذا جَعَلَهُ» أي البناء «ناراً» بأن صار كله نار «قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» 96 نحاسا مذابا فأتوه به فأفرغه على البناء فتداخل فيه حتى صار كأنه قطعة واحدة، قال تعالى «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ» يعلموا عليه ولا يتسوروه لارتفاعه وملاسته «وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» 97 لصلابته وسمكه، وكان الجبلان مما يليهم قائمين بصورة مستقيمة كانهما مشقوقان بمنشار لا يتمكنون من الصعود إلى قمتهما، قال ذو القرنين لأولئك القوم الذين هم أمام السد بعد أن طرد أولئك المشكو منهم إلى ما وراءه وعمر عليهم ذلك البناء العظيم «قالَ هذا» السد المنيع الذي سويته لكم «رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» بكم تفيكم شر أعدائكم الآن «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي» بخروجهم بعد
«جَعَلَهُ» أي هذا البناء العظيم «دَكَّاءَ» أرضا مستوبة لكم منخفضة من الأرض كأنه لم يكن لأن الله لا يعجزه شيء «وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» 98 واقعا لا مرية فيه «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ» يوم تم إنشاء السدّ «يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» فيبقون كذلك إلى اليوم الذي يأذن فيه الله بخروجهم فيندك إذ ذاك وينفلتون، فتراهم يسعون في الأرض فسادا ويعبثون في البلاد والعباد، ولا يزالون كذلك إلى أن يحين الوقت المقدر لتدميرهم فيهلكوا «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ» بعد ذلك، لأن خروجهم من علامات الساعة الكبرى، فيموت كل الخلق الموجودين على وجه الأرض وفي البحار وغيرها، وتبقى الحال على هذه مدة أربعين سنة، أو إلى ما شاء الله، ثم ينفخ النفخة الثانية فيحيون كلهم الأولون والآخرون ويساقون إلى المحشر المعني بقوله تعالى «فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً» 99 للحساب والجزاء. تدل هذه الآية على أن خروجهم يكون قريبا من قيام الساعة. قال الأخباريون هم قوم من أولاد يافث بن نوح عليه السلام، ومن أولاده الترك والخزر والصقالية، وأولاد حام الحبشة والزنج والنوبة، وأولاد سام العرب والروم والعجم، وان
تفسير الموج المذكور في الآية من قبلهم في البشر أولى من تفسيره فيما بينهم، لأن سياق ما قبلها وسياق ما بعدها من الآيات يدل على هذا، تأمل. واعلم أن كل أمة منهما أربعة آلاف أمة لا يموت الواحد منهم حتى ينظر ألفا من صلبه، وهم أصناف مختلفة باللون والطول والعرض والشكل، أقوى من كل حيوان، يأكلون من يموت منهم، وإذا خرجوا أكلوا الحيوانات، وشربوا المياه، وعاثوا في الأرض، ثم يهلكون. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد بيده الشريفة تسعين (وذلك أن تجعل رأس السبابة وسط الإبهام وهي من موضوعات الحساب) . وعنه قال في السد يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه قال بعضهم ارجعوا فستحفرونه غدا، قال فيعيده الله كأشدّ ما كان، حتى إذا بلغوا مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس قال الذي عليه ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى، قال فيرجعون فيجدونه على هيئته حين تركوه، فيخرقونه، فيخرجون على الناس، فيستقون المياه، ونفر منهم الناس لشدة وحشيتهم، ولأنهم يأكلون ولا يشبعون، ويشربون ولا يروون، لا يخلص منهم إنسان ولا حيوان ولا حوت، يفسدون كل ما عثروا عليه، فيختفي الناس منهم ليسلموا من أذاهم، لأنهم لا يتركون شيئا إلا أكلوه أو أفسدوه، حتى إنك لترى الأرض عارية من الشجر والنبات. هذا وقد جاء في بعض القصص أن السدّ هو الموجود الآن المشاهد في ناحية الشمال فيما بين الجبلين في منقطع أراضي الترك، وهذا لعمري غير صحيح، لأنه من مجرد كلس والله أخبرنا بأن هذا السد من حديد ونحاس، وما يقال إن الحديد والنحاس تفتنانهما رطوبة الأرض لا جدال فيه، وإنما الأخذ والرد بالعثور عليه ليس إلا، وان الذي حدا بهم لهذا القول عدم العثور عليه، لأنهم على زعمهم أحاطوا بالمعمور كله فلم يجدوه، على أنهم يعترفون بأنهم لم يكشفوا القطبين الشمالي والجنوبي، وإذا لم يكشفوهما لا يليق بهم أن يقولوا أحطنا بالأرض أو بالمعمور منها، إذ قد يكون فيهما أو وراءهما، ويقول ابن خلدون في مقدمته إن السدّ وسط جبل قوقيا المحيط الكائن في القسم الشرقي من الجزء التاسع في الإقليم السادس، ولهذا فإن القول