الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نزلت في أصحاب الصفّة حينما سألوا رسول الله أن يغنيهم الله من فضله ويبسط عليهم الرزق ويدر عليهم الأموال.
مطلب بسط الرزق وضيقه والتوبة وشروطها والحديث الجامع ونسبة الخير والشر:
قال جل قوله «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ» بعضهم على بعض، وعتوا عتوا كبيرا، إذا أعطوا زيادة على حاجتهم النسبية لأن الإنسان شرير بالطبع، فإذا وجد الغنى والقدرة والصحة رجع لمقتضى طبيعته، ولو أن الله تعالى يرزق عباده من غير كسب لتفرغوا إلى الفساد، ولكن شغلهم به حكمة منه قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجده
…
مفسدة للمرء أي مفسدة
وقال الآخر:
عليك بالقصد لا تضب مكاثرة
…
فالقصد أفضل شيء أنت طالبه
فالمرء يفرح بالدنيا وبهجتها
…
ولا يفكر ما كانت عواقبه
حتى إذا ذهبت عنه رفارقها
…
تبين الغين فاشتدت مصائبه
وعلى القانع أن يثق بالله فإنه لا يضيعه ويعطيه ما يكفيه وليقل كما قال:
أتتركني وقد أيقنت حقا
…
بأنك لا تضيع من خلقت
وأنّك قاسم للرزق حتما
…
تؤدّي ما رزقت كما قسمت
وإني واثق بك يا إلهي
…
ولكن القلوب كما علمت
«وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ» لمن يشاء بقدر حاجته «إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» 27 بما يناسبهم يغني هذا والغناء خير له ويفقر هذا والفقر خير له بمقتضى حكمته، فلو أغناهم جميعا أو أفقرهم جميعا لتعطلت مصالح الكون، ولا يخفى ان البغي مع الفقر أقل منه مع البسط، وكلاهما سبب ظاهري للإقدام على البغي، والإحجام عنه، فلو عم البسط القلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن. ولهذا يشير قوله صلى الله عليه وسلم إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يضل أحدكم يحمي مقيمه الماء. وإلى ذلك يوعز سبب النزول المشار اليه أعلاه، وينظر إليه قول خبّاب بن الأرت: نظرنا إلى أموال بني قريظة،
والنضير وبني قينقاع فتمتيناها، فنزلت هذه الآية. ولا يضرّ تعدد أسباب النزول، فقد تكون آية واحدة لأسباب كثيرة. هذا، واعلم أن التوبة واجبة في كل ذنب، وشروطها أن يقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يعزم على أن لا يعود أبدا «فإن فقد أحدها لا تصح، وهذا فيما يتعلق بالذنوب التي بين العبد وربه، أما إذا كانت بين الناس يزبد عليها شرط رابع وهو الاستحلال من صاحبها وإبراء ذلك من كل حق، مثلا إذا كان غصب مالا من أحد فيجب ردّه اليه أو مسامحته من قبله، وإن قولا أو فعلا فبالمسامحة والعفو من قبله، وإن لم يعين له ما قال وما فعل إذ قد يكون مما لا يقال خشية الفتنة فيكون الإفشاء أشد ضررا من الذنب. وليعلم أن مصائب الدنيا لا تختص بواحد دون آخر فيشترك فيها الصديق والزنديق، إلا ان المؤمن أكثر مصابا من غيره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: خص البلاء بالأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. أو ان أكثره في هؤلاء لأنه لا يتعداهم تدبر. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والله اني لأستغفر الله وأتوب اليه في اليوم أكثر من مائة مرة، وفي رواية للغزالي انه صلى الله عليه وسلم قال إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة، وذلك لترقيه سبعين مقاما عما كان فيه حيث يرى دائما بعدا بين حالته الحاضرة والماضية بسبعين درجة، ولهذا قيل حسنات الأبرار سيّئات المقربين، لأن الأبرار إذا وصلوا إلى درجة المقربين رأوا أنفسهم مقصرين، وان عملهم الأول يحتاج إلى توبة واستغفار. وروى مسلم عن الأعز بن يسار قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس توبوا إلى الله جميعا، فاني أتوب إليه في اليوم مائة مرة. ورويا عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لله أفرح بتوبة عبده من المؤمن من رجل نزل في أرض دويّة مهلكة (أي فلاة لا ماء فيها ولا نبات والمفازة في الجبل والأرض الوعرة وتسميها العامة الدوّة) معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده. وفي رواية لهما من لفظ
مسلم: فأخذ بخطامها ثم قال من شدة فرحه اللهم أنت عبدي وأنا ربك من شدة الفرح، أي بدلا من أنت ربي وأنا عبدك. وروى مسلم عن أبي موسى الأشعري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. وروى انس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن الله عز وجل من أهان لي وليا بارزني بالمحاربة، واني لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرود، وما تقرّب إليّ عبدي المؤمن بمثل ما افترضته عليه، وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته
ولا بد له منه، وإن في عبادي المؤمنين لمن يسألني الباب من العبادة، فأكفه عنه ان لا يدخله عجب فيفسده ذلك، وان من من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وان من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانهم إلا الفقر، فلو أغنيته لأفسده ذلك، وان من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو صححته لأفسده ذلك، إني أدير أمر عبادى بعلمي بقلوبهم، إني عليم خبير، أخرجه البغوي بإسناده وهذا الحديث الجامع لأحوال العباد من أحاديث الصفات، وقدمنا ما يتعلق بأمثاله في الآية 158 من الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك إلى المواقع التي فيها ما يتعلق بذلك، فراجعها.
وجاء عن صفوان بن عسال المرادي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله جعل بالمغرب بابا عرضه مسيرة سبعين عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله، وذلك قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) الآية 158 المنوه بها أعلاه، أخرجه الترمذي حديث حسن صحيح انتهت الآية المدنية، وهي كالتي قبلها. قال تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا» أي اشتد يأسهم من نزوله، الله حبسه عنهم ولا يعلمون وقت إطلاقه «وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» بقيض الغيث عليهم
«وَهُوَ الْوَلِيُّ» الذي يتولى أمور عباده بإحسانه ولطفه بسائق رأفته «الْحَمِيدُ» 27 على انعامه المحمود على إنزال بركات السماء وبسط منافعها، المتعطف على خلقه بما ينفعهم وكشف ما يضرهم، وقد ذكرهم الله تعالى في هذه النعمة لأن الفرح بعد الشدة بحصول النعمة اتمّ وأدعى للشكر. قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ» أوجد وفرق «فِيهِما مِنْ دابَّةٍ» هي لغة ما دبّ على وجه الأرض، وعرفا ذوات الأربع من الحيوان فقط «وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ» بعد تفرقهم وتشتتهم «إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» 29 وجاز إطلاق لفظ الدابة على من في السماء لأن الدبيب لغة المشي الخفيف ويحتمل أن يكون للملائكة مشي مع الطيران أو أن الله تعالى خلق فيها أنواعا من الملائكة أو أصنافا من الحيوانات يدبون دبّا كالإنسان، أو أن الملائكة أنفسهم قد يتمثون بالبشر فيمشون مشيا، لأن لهم التشكل بصور غير صورهم، كجبريل حينما تمثل للنبي مرة بصورة أعرابي في حديث الإيمان والإسلام والإحسان، ومرة بصورة دحية الكلبي، قال تعالى «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» من الذنوب، لأن جل البلاء من الأوجاع والقحط والغرق والحرق وغيرها من المصائب يوجدها الله تعالى عقوبة لمقتر في الأعمال المكروهة، وقد يوجدها عفوا للثواب كما ذكر آنفا، وبما أن البشر هو المسبب لعملها نسبها الله إليه، وإلا في الحقيقة كل من عند الله، قال إبراهيم عليه السلام بعد أن نسب الهداية والطعام والشراب لله تعالى «وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) الآية 80 من سورة الشعراء ج 1، نسب الشفاء لله كما نسب الإحياء والإماتة إليه، لأنها متحققة منه لا علاقة للعبد وغيره فيها البتة، ونسب المرض لنفسه لأن أكثر أسبابه من الأكل والشرب والحر والقر وإن كانت بإيجاد الله تعالى، إلا أنه هو المسبب لها باختياره ورغبته، وهذا من قبيل التأدب مع الله تعالى، إذ ينبغي للعاقل أن ينسب الخير إلى الله والشر لنفسه، لأن اقترافه له برضاه وشهوته، وإن عقابه عليها من هذه الحيثية «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» 30 من الذنوب فلا يعاقب عليها وعن كثير من خلقه فلا يجازيهم على سيئتهم.
روى البغوي بإسناد الثعلبي عن أبي ثميلة قال: قال علي رضي الله عنه ألا أخبركم