الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليتخلصوا مما حل بهم، ولات حين خلاص، وهذه الآية لا تنافي الآية 84 المارة وهي (ثم لا يؤذن للذين كفروا) إلخ، لأن يوم القيامة يوم طويل شديد الهول تختلف فيه أحوال الناس فترى الكفرة مرة لا يؤذن لهم بالكلام، وأخرى يبكون وتارة يجادلون، وطورا يحاورون شركاءهم وأوثانهم «وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ» جزاء «ما عَمِلَتْ» في دنياها لا يغير عقابها كلام ولا جدال «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» 111 شيئا بل يجازون على الخير بأحسن منه وعلى الشر بمثله.
مطلب في ضرب المثل وبيان القوية وعظيم فضل الله على عباده:
«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً» واسعا كافيا يبسر وسهولة «مِنْ كُلِّ مَكانٍ» كقوله تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) الآية 56 من سورة القصص المارة في ج 1، بدعوة ابراهيم عليه السلام الواردة بالآية 156 من البقرة في ج 3، لأن المراد بالقرية مكة «فَكَفَرَتْ» أهاليها وسكانها «بِأَنْعُمِ اللَّهِ» المترادفة عليها ولم تشكرها وتقدرها «فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ» الإذاقة جارية عند أهل المعاني مجرى الحقيقة لشيوعها فيما يمس الناس من البلايا والشدائد، فيقولون ذاق فلان الضر وأذاقه العذاب، يشبهون ما يدرك الإنسان من أثر الضرر بما يدركه من طعم المرّ قال:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها
…
وسيق إلينا عذبها وعذابها
وشبهوا اللباس به لاشتماله على الملابس، ولما كان الواقع عبارة عما يغشى الإنسان فكأنه قال فأذاقهم ما غشيهم من «الْجُوعِ وَالْخَوْفِ» جزاء «بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» 112 لم يقل صنعت لأن المراد أهل القرية كما ذكرنا.
واعلم أن المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوّره بصورة أوضح منه وهنا بين المشبّه وهو القرية، ولم يذكر المشبّه به لوضوحه عند المخاطبين ولأن ذكر المشبه به غير لازم، لأنه إما أن يراد بها قرية محققة أو مقدرة وحذفه في علم البلاغة في مثل هذا جائز، وذلك أن أهل مكة كانوا في أمن وطمأنينة وخصب عيش، قال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) الآية 60 من سورة العنكبوت الآتية والمراد من
قولهم مطمئنة عدم احتياج أهلها للانتقال فقد تدل على ملاك الأمر، إذ قال العقلاء:
(ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية) وبعد الإنعام عليهم بهذه الثلاثة أنعم الله عليهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا به وكذبوه وآذوه وأرادوا قتله، فأمره الله تعالى بالهجرة عنهم وسلط عليهم بعد هجرته البلاء والشدة والجوع والخوف بسبب تكذيبهم له وإرادة إخراجهم إياه من بلده حينما حاكوا المكر فيه، كماه سيأتي تفصيله في الآية الأخيرة من سورة المطففين في بحث الهجرة. وما قاله الحسن من أن هذه الآية مدنية وأن المراد بالقرية هي المدينة تحذيرا لأهلها مما أصاب أهل مكة قول مخالف لجمهور العلماء والمفسرين يؤيده قوله تعالى «وَلَقَدْ جاءَهُمْ» أي أهل مكة «رَسُولٌ مِنْهُمْ» يعرفون مكانته قبل النبوة «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» في الدنيا بالجوع والقتل والأسر والخوف والجلاء «وَهُمْ ظالِمُونَ» 113 أنفسهم وغيرهم بالكفر. قال تعالى «فَكُلُوا» أيها الناس «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً» وذروا ما تفترون من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغيرها راجع الآية 130 من سورة المائدة في ج 3 في تفسيرها، «وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ» عليكم «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» 114 تخصونه وحده بالعبادة «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ» لأنها كلها تضر بأبدانكم وتختطف صحتكم وتوقعكم في الأمراض القتالة، وقد اكتشف الأطباء في عصرنا هذا وجود دودة قتالة في الخنزير سموها (ترنجيويس) وأجمعوا على أنها لا تموت بالطبخ بل تنتقل لآكل لحمه وتعيش في المعدة وتميت آكلها، ولذا منعوا أكله قبل المعاينة، حتى ان الأمير كيين هجروه بتاتا كما يقال، إلا أنهم قد هجروا الخمر قبلا ثم عادوا إليه، وفضلا عن هذا، فإن أكله يورث الجذام ويقلل الغيرة، ومنه يعلم أن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا وصيانة وجودنا وعقلنا من الخلل «وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» وفي الآية 4 من سورة المائدة الآتية (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وهي بمعناها «فَمَنِ اضْطُرَّ» لأكل شيء من ذلك «غَيْرَ باغٍ» على الناس «وَلا عادٍ» على نفسه «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» 115 بهؤلاء المضطرين وسنأتي على تفسير هذه الآية بصورة مفصلة واضحة وبيان مضار هذه
المحرمات مع بيان الحكم الشرعي فيها في الآية المذكورة من سورة المائدة ج 3 إن شاء الله، وقدمنا بعض ما يتعلق فيها في الآية 145 من سورة الأنعام المارة فراجعها «وَلا تَقُولُوا» أيها الناس «لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» من تلقاء أنفسكم لأن التحليل والتحريم من خصائص الله تعالى، وذلك أنهم كانوا يحللون ويحرمون برأيهم وينسبونه إلى الله تعالى، كما تقدم في الآية 138 من سورة الأنعام المارة. يدل على هذا قوله جل قوله «لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ» 116 بل يخيبون ويخسرون، وان متاعهم في هذه الدنيا وما هم عليه «مَتاعٌ قَلِيلٌ» لأن الدنيا مهما طال أمدها فهي قليلة، ولا تطمئن النفس الزكية إليها لتوقع المصائب والفتن والشحناء بين أهلها عداوة وبغضاء من أجل حطامها الزائل، وأشد ما يكون إذا وقع بين الأقارب، وفلما ترى المتصافين فيها لله، قال:
والمرء يخشى من أبيه وأمه
…
ويخونه فيها أخوه وحاره
فإذا كان أقرب وأحب الناس إلى الرجل فيها يخافهم ويخشهم فتبا لهم من دار وسحقا لها من إقامة، هذا ما يلاقونه في الدنيا، وأما في الآخرة فيقول الله تعالى «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» 117 لا تطيقه قواهم «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» هو ما تقدم في الآية 146 من الأنعام المارة، «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» 118 بتحريم أشياء على أنفسهم لم يحرمها الله كلحوم الإبل وغيرها، قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) الآية 160 من النساء في ج 3، «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ» كلمة جامعة لكل قبح «بِجَهالَةٍ» غير متدبرين عاقبته ولا معاندين الله فيه عصيانا عليه، وإنما بسبب غلبة شهوتهم الناشئة عن الجهل قال:
وما كانت ذنوبي عن عناد
…
ولكن بالشقا حكم القضاء
«ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» الذي عملوه من السوء وندموا وتابوا توبة نصوحا، يدل عليه قوله تعالى «وَأَصْلَحُوا» أنفسهم واستقامت أحوالهم «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها» أي التوبة «لَغَفُورٌ» لما سبق منهم «رَحِيمٌ» 119
بهم تشير هذه الآية إلى عظيم فضل الله، وجليل رحمته، وكبر كرمه، وسعة مغفرته، وكثرة لطفه على عباده وعطفه عليهم إذ تكفل لمن هذا شأنه بالعفو، ومن كان الله كفيله فهو تاج رابح، وتقدم ما يتعلق بعظيم فضل الله وعفوه في الآية 160 من الأنعام المارة، وفيها ما يرشدك إلى المواقع المتعلق بها هذا البحث فراجعها. ونظير هذه الآية الآية 17 من سورة النساء في ج 3، «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً» لاجتماع صفات الكمال والخير فيه وتلبسه بالأخلاق الحميدة، وهذه الصفات قد لا توجد في شخص واحد ولهذا سماه الله أمة:
وليس على الله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
ولأنه كان وحده مؤمنا بالله والناس كلهم كافرون، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل يبعثه الله أمة وحده. لمفارقته الجاهلية وما كانت عليه من عبادة الأوثان وهي جارية مجرى كلام العرب. يقولون فلان رحمة وفلان نسّابة، إذا كان متناهيا في المعنى الموصوف به «قانِتاً» خاضعا مطيعا «لِلَّهِ» وحده «حَنِيفاً» مائلا عن كل دين إلى دين الإسلام، وهو أول من اختتن وضحى وأقام مناسك الحج «وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 120 قط لأنه من صفره نشأ على التوحيد فكان مؤمنا بالله مخلصا له وكان في جميع أحواله
«شاكِراً لِأَنْعُمِهِ» كلها التي منها توفيقه للإيمان ونصرته على عدوه بالحجة الدامغة وانجاؤه من النار، ولهذه الخصال الكريمة «اجْتَباهُ» ربه للنبوة وشرفه بالرسالة واصطفاه للخلة «وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 221 في أقواله وأفعاله ووفقه لدين الإسلام وطريقه القويم «وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» بأن جعلنا ذكره فيها دائما مثمرا حسنا عند كل ملة وأمة، فلا تجد قوما إلا ويعرفوه بفضله ويذكرونه بالخير، هكذا كان عليه الصلاة والسلام في الدنيا «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» 122 للقاء الله ولأعلى مقامات الجنة «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» يا سيد الرسل في هذا القرآن الكريم «أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» 123 لأن ملته ودينه هو الحق وكل محق يدين بدينه، وقيل في هذا:
كل يدين بدين الحق لو فطنوا
…
وليس دين لغير الحق مشروع