الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. واعلموا أيها الناس أن خلقكم وبعثكم عندنا كشيء واحد لا يصعب علي شيء من ذلك والإيجاد والإعدام عندنا سواء لا يتخلف شيء عن أمرنا طرفة عين، فانظروا أيها الناس واعلموا أن لا كلمة على الخلاق فيما يخلق ويفني.
قال تعالى «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» في الدنيا «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» عظيمة وحسنى جليلة ونعما جسمية «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ» في الإحسان إليهم وأعظم أجرا إذا صبروا على ما أصابهم في الدنيا «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» 41 ما أعد الله لهم في الآخرة على صبرهم لزادوا في اجتهادهم على العبادة وفي صبرهم على أذى الكافرين وغيرهم. نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا إلى الحبشة بسبب أذى المشركين إليهم، وفيها دليل على أن الهجرة إذا لم تكن خالصة لوجه الله للتمكن من القيام بأوامره وعبادته كما ينبغي كانت كالانتقال من بلد لآخر للتجارة أو الزيارة لا مزيّة لها ولا شرف فيها ولا ثواب، يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى إلخ. ثم وصفهم الله بقوله «الَّذِينَ صَبَرُوا» على ظلم المشركين وأذاهم في سبيل الله «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» 42 في أمورهم كلها. واعلم أن الصبر والتوكل مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه، لأن الصبر قهر النفس وحبسها على أعمال البر واحتمال الأذى من الخلق وعلى الشهوات المباحات وعلى المصائب وعن المحرمات والتوكل انقطاع عن الخلق، فبهذا المنتهى والأول المبتدأ.
مطلب التعويض الثاني بالهجرة وعدم الأخذ بالحديث إذا عارض القرآن:
وهذه الآية الثانية التي يعرض الله تعالى بها لرسوله بالهجرة، والأولى 20 من سورة المؤمن المارة. قال تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا» يا أهل مكة إن لم ترشدكم عقولكم إلى التصديق بهذا الذي قصصناه عليكم «أَهْلَ الذِّكْرِ» الذين أنزل عليهم قبلكم من اليهود والنصارى،
وقولوا لهم هل أرسل الله نبيا إلا رجلا فيما سبق من الأمم إلى الأمم «إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» 43 أمرهم الله أن يسألوا أهل الكتابين لأنهم يعتقدون ذلك لعلمهم بما أنزل الله في كتبهم من هذا. نزلت هذه الآية في كفار مكة القائلين الله أعظم وأجل أن يرسل رجلا إلى الناس ولو أراد لأرسل ملكا. فرد الله عليهم زعمهم واستشهد على بطلانه بأهل الكتابين لأنهم لا يعلمون «بِالْبَيِّناتِ» المعجزات «وَالزُّبُرِ» الكتب المنزلة مثلهم، أي اسألوهم عن هذا كما سألتموهم قبلا عن حقيقة محمد وكلفوكم أن تسألوه عن الروح وأصحاب الكهف وذى القرنين، وقد أجابكم كما ذكروه لكم ومع هذا كله لم تصدقوا نذرعا بقولكم كيف يكون بشرا رسولا، عتوا وعنادا لا غير. قال تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ» القرآن وسمي ذكرا لأنه موعظة وتنبيه للعاقل يذكره بأمر دينه ودنياه، وإنما أنزلناه عليك يا سيد الرسل «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» 44 فيه فيؤمنون، والمراد من التبيين في هذه الآية بيان ما أجمل في القرآن من المتشابه، أما الحكم منه فهو مبين مفسّر لا يحتاج إلى التبيين، وقد استدل بعضهم في هذه الآية على أنه متى تعارض الحديث مع القرآن وجب الأخذ بالحديث، لأن الرسول هو المبين للقرآن بنص هذه الآية وبنص قوله (ما ينطق عن الهوى) لأن القرآن مجمل والحديث مبين له، والمبين مقدم على المجمل، ولأن المنزل عليه لا يتكلم في نفسه بل بوحي من ربه. وهذا الاستدلال بغير محله، لأن القرآن منه محكم ومنه متشابه، فالمحكم مبين لا يحتاج إلى البيان ويجب الأخذ بظاهره دون حاجة إلى تأويل أو تفسير أو قياس أو استحسان، سواء أخالف الحديث أم لا، لأن الحديث الذي نراه مخالفا لبعض القرآن لا يعمل به، ولعله موضوع لمعنى لا نعرفه، أو أنه مكذوب على حضرة الرسول، والمتشابه هو المجمل فيطلب بيانه من الحديث وأهل العلم. قال تعالى (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) لا يتبدل حكمها ولا يتغير معناها من بدء الكون إلى آخره (وأخر متشابهات) إلى أن قال (لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) وهم الأنبياء فمن دونهم ممن هو على آثارهم في العلم والعمل، وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 7 من آل عمران في ج 3
بصورة مسهبة إن شاء الله. واعلم أن القائل بهذا قائل بأن الحديث ينسخ القرآن وهو قول لا وجه له، كيف وقد قال تعالى (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) الآية 66 من سورة يونس المارة، والنسخ بالسنية تبديل فكيف يجوز أن يقال به فضلا عن أن جهابذة الأصوليين لم يعترفوا به، وما قيل بجوازه فهو قيل ضعيف مستنده حديث الترمذي وغيره (لا وصية لوارث) بأنه نسخ آية (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) الآية 186 من سورة البقرة ج 3، مع أن هذه الآية مخصصة بآية المواريث الآتية في سورة النساء كما سيأتي بحثها إن شاء الله، وقد ألمعنا إلى بطلانه في المقدمة في بحث النسخ، وسيأتي توضيحه في الآية 106 من سورة البقرة ج 3 عند قوله تعالى (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) إلخ، واعلم أنه لا يجوز بوجه من الوجوه أن يؤخذ بالحديث إذا عارض ظاهر القرآن، وهو دليل على عدم صحته، لأنه لا يتصور أن بصدر من حضرة الرسول قول يخالف ظاهر كلام الله، كيف وهو الذي لا ينطق عن هوى وعليه أنزل القرآن وهو دليله وحجته وبرهانه. قال تعالى «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا» المنكرات «السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ» كما خسفها بمن قبلهم «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» 45 كما أهلك من قبلهم فجأة حال غفلتهم من نزول العذاب «أَوْ يَأْخُذَهُمْ» على غرة «فِي تَقَلُّبِهِمْ» في الأرض عند أسفارهم بها ذاهبين أو آئبين «فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ» 46 الله ولا فائتيه ولا قادرين على الهرب منه «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» بأن يريهم إهلاك أناس أمامهم فيخافوا من وقوعه بهم أو يحدثه بهم تدريجا فيعذبهم فيهلكوا بين الخوف والعذاب أول بأول بصورة تدريجية حتى يقضى على آخرهم
«فَإِنَّ رَبَّكُمْ» أيها الناس القادر على تسليط أنواع العذاب والهلاك عليكم «لَرَؤُفٌ» كثير الشفقة عليكم «رَحِيمٌ» 47 بكم لا يعجل عقوبتكم بل يمهلكم لترجعوا إليه وتتوبوا مما أذنبتم به إليه.
وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما تنفطر منه القلوب وترتعد منه الفرائض.
والمكر المشار إليه هو أن قريشا لما عجزت عن صد دعوة الرسول صارت تحيك الدسائس لتخلص منه، وصاروا يعقدون الاجتماعات في دار الندوة ويتذاكرون