الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُخْرِيًّا»
في مصالحهم ويستخدموهم بأشغالهم حتى يتعايشوا وبترافدوا. وهذا لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المفتر عليه، بل ليستقيم نظام العالم، ولولا ذلك لما سخر أحد لأحد، ولأفضى الحال إلى خراب الكون، إذ لا يستغني أحد عن معاونة الآخر، وفي التساوي تنعدم الفائدة، إذ لا ينقاد أحد لغيره، فعلى العاقل أن يتدرج في هذه الدنيا ولا ينظر إلى ما يجمعه الأغنياء من الحطام، بل ينظر إلى ما هو نافع له في عقباد «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» 32 لأنهم وما يجمعونه فان ورحمة الله باقية، وهذا مما يزهد في الانكباب على الدنيا ويعين على التوكل والانقطاع إليه تعالى، قال ابن الوردي:
فاعتبر نحن قسمنا بينهم
…
تلقه حقا وبالحق نزل
ويرحم الله الشافعي إذ يقول:
فأعددت للمرت الإله وعفوه
…
وأعددت للفقر التجلد والصبرا
فمن تمسك بهاتين العدّتين أمن من هول الدارين وفاز بالنجاة.
مطلب هو ان الدنيا عند الله وأهل الله وتناكر القرينين يوم القيامة والإشارة بأن الخلافة القريش وما نزل في بيت المقدس:
قال تعالى «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» فيجتمعون على الكفر ويطبقون عليه رغبة فيه إذا رأوا السعة عند الكفرة «لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ» مصاعد من فضة أيضا «عَلَيْها يَظْهَرُونَ» 33 إلى العلو كالدرج والسلم الذي يصعد عليه للعلو «وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً» من فضة أيضا «وَسُرُراً» من فضة «عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ» 34 خصّ السرر لأنها مما يجلس عليها المنعّمون «وَزُخْرُفاً» وجعلنا ذلك كله مزينا بالذهب والجواهر مرصعا بالأحجار الكريمة «وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» يتمتع بها الإنسان مدة حياته أو بعضها ثم تذهب بذهابه وهي سريعة الزوال خاصة عند فقدان الشكر «وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» 35 الكفر والمعاصي الصارفين جوارحهم وأموالهم في رضاء الله فهذه هي النعم الدائمة التي يجب أن يمتع بها المؤمن قال:
تمتع من شميم عرار نجد
…
فما بعد العشية من عرار
العرار وردة طيبة الرائحة ناعمة وكان القائل مر بها قبل العشية وهو سائر، فإذا لم يشمها في ذلك الوقت فاته ريحها، فكذلك الإنسان إذا لم يمتع نفسه في هذه الدنيا بالعمل الصالح وهو قادر عليه فاته ذلك بالسقم والهرم والموت على حين غرة فيندم ولات حين مندم، لذلك يجب على العاقل أن لا يضيع الفرص بالتسويف والتأني.
وليعلم أن الدنيا بما فيها كله زهيد عند الله تعالى ولذلك يقول في صدر هذه الآية (لَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ) إلخ أي لأعطيت الكفار أكثر أسباب الحياة المفيدة للرزق ليتنعموا بها في هذه الدنيا الحقيرة، ولكن لم نفعل ذلك لئلا تزداد الرغبة في الكفر، وتشير هذه الآية إلى الإعراض عن الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى والتمسك بالدين القويم. أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء. وعن علي كرم الله وجهه قال: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم. هذا، وأخذ من هذه الآية قاعدة شرعية وهي إذا كان بناء سفلي لرجل وعليه بناء علوي لآخر فيكون السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت. وقرىء سقفا بضمتين وبضم وسكون وفتح وسكون. وأخرج الترمذي بحديث حسن عن المسور بن شداد جدّ بنى فهر قال: كنت في الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حين ألقوها؟ قالوا من هوانها ألقوها يا رسول الله، قال فإن الدنيا أهون على الله تعالى من هذه الشاة على أهلها.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر. راجع الآية 104 من سورة يوسف المارة تعلم هذا. وان الله تعالى لم يعط الكفرة جميع الأسباب المفضية للنعم كراهية أن يرغبوا فيها فتؤدي بهم إلى الكفر حين يرون أهله منعمين، فيتوهمون أن ذلك لفضيلة فيهم. قال تعالى «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ» فلم يذكره عند شدّته ورخائة ويعش بضم الشين بمعنى يتعامى ويتجاهل، وقرىء بفتح الشين أي يعمى، والفرق بينهما أن الأول من عشا يعشو إذا نظر ولا آفة في بصره، والثاني عشي يعشى إذا كان في بصره آفة
فلا يكاد يبصر جيدا، إذ يصير على عينيه كالضباب، ونظيره عرج بضم الراء لمن به عرج حقيقة، وعرج بفتحها لمن مشى مشية الأعرج من غير آفة في رجله، وفعل يعش هذا من الأول أي يتعامى «نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً» يحمله على الغفلة عن ذكره ويسوقه إلى الهفوات في أقواله وأفعاله «فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» 36 لا يفارقه أبدا فيزين له العمى ويخيل له أنه على الهدى حتى يستولي عليه، فيجب على الإنسان المسارعة لفعل الخير والتملّي في ذكر الله بعين بصره وبصيرته، ولا يترك للشيطان مجالا في قلبه ليستولي، ولهذا فإن من يداوم على ذكر الرحمن يتباعد عنه الشيطان فلا يقربه مادام ذاكرا له. قال تعالى «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ» يصدون العاشين «عَنِ السَّبِيلِ» السوي والهدى والرشد «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» 37 بسبب وساوسه ودسائسه يريهم الشر خيرا والإيمان كفرا، وقد جمع الضمير في أنهم لأن من مبهمة في جنس العاشي، ولفظ شيطان مبهم في جنسه أيضا، فأرجع الضمير في أنهم الذي يعود على الشيطان مجموعا لذلك، ولأن من باعتبار معناها تدل على الجمع «حَتَّى إِذا جاءَنا» وقرأ بعضهم جاءنا أي العاشي وقرينه «قالَ» العاشي لقرينه اذهب عني «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» غلب المشرق على المغرب كما غلب القمر على الشمس في القمرين، أو أنه أراد مشرق الصيف ومشرق الشتاء، لما بينهما من البعد، والأول أبلغ لأنه المتعارف ولأنه أكبر بعدا، أي انك أهلكتني بمقارننك في الدنيا، ليتني لم أتعرف عليك «فَبِئْسَ الْقَرِينُ» 38 أنت، قال تعالى «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ» العتاب والمجادلة والحذر من قرب بعضكم لبعض «إِذْ ظَلَمْتُمْ» أنفسكم بالأمس أي الدنيا ولم تذكروا يومكم هذا الذي منه حذركم أنبياؤكم «أَنَّكُمْ» اليوم «فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» 39 كما كنتم في الدنيا مشتركين بالكفر، قالوا إن عموم البلوى بطيب القلب، وعلى هذا قول الخنساء في بعض رثائها لأخيها صخر:
ولولا كثرة الباكين عندي
…
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
…
أعزّي النفس عني بالتأسي
فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم في العذاب ولكن لا يروّحهم لعظم ما هم فيه،
قال تعالى «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ» في علم ربك الأزلي «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» 40 كلا لا تقدر أن تهديه ولا تفدر على هداية من أضللناه
«فَإِمَّا» مركبة من إن الشرطية وما التأكيدية للشرط مثل لا التي في الاقسام «نَذْهَبَنَّ بِكَ» لنمينك وننقلك إلى الدار المهيأة لكرامتك قبل أن نوقع فيهم ما قدر لهم من العذاب «فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» 41 لك منهم بعدك في الدنيا وفي الآخرة لا محالة، لأنا لا نتركهم سدّى وهم قد فعلوا ما فعلوا، واقتصر بعض المفسرين هنا على عذاب الآخرة وبعضهم على عذاب الدنيا لقوله تعالى (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) إلخ الآية 43 من سورة يونس المارة والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما جرينا عليه أتمّ فائدة وأوفق بإطلاق الانتقام، وأما تلك الآية فليس فيها ذكر الانتقام فلا تدل على تخصيص العذاب في الدنيا، لأن من يهدده الله بعذابه في الآخرة لا يؤمنه من عذاب الدنيا، كما أن من يعذبه في الدنيا لا يحتم عذابه في الآخرة «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ» به من العذاب الدنيوي قتلا وأصرا وجلاء في حياتك «فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» 42 في كل وقت، وهذا من قبيل التسلية لحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاما له بإنجاز وعده إياه بالانتقام الشديد من المشركين في حياته أو بعد وفاته، وقد كررت هذه الآية معنى في الآية 46 من يونس والآية 77 من المؤمن المارتين وفي الآية 40 من سورة الرعد في ج 3 وغيرها لأنها بمثابة العهد لحضرة الرسول من ربه عز وجل بنصرته والانتقام له من أعدائه، قال تعالي يا محمد «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ» من هذا القرآن وأدم العمل به كما أنت عليه «إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» 43 في طريقتك لا ميل فيها ولا عوج «وَإِنَّهُ» القرآن الموحى إليك «لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» في حياتك وبعد موتك وشرف عظيم تذكرون فيه بالملأ الأعلى وفي الأرض «وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» 44 عنه يوم القيامة هل قمتم بحقه فشكرتموه حق شكره وعظمتم منزله حق تعظيمه أم لا راجع الآية 30 من سورة الفرقان في ج 1، ويؤذن إفراد الضمير بالخطاب كله وجمعه آخر الآية أن المراد بمن يسأل هو قومه، لأنهم هم الذين يترقب منهم التقصير حاشا البشير النذير أن يقصر في شكر ربه وتعظيمه،
كان صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية إذا سئل لمن يكون الأمر في أمتك من بعدك؟
يسكت، لأن الله لم يخبره بذلك وهو لن ينطق من نفسه فيما هو من هذا القبيل، فلما نزلت هذه الآية صار يقول لمن يسأله: هو لقريش. وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان. وروى البخاري عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: كنت قاعدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه وتعالى (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه (الحديث) . راجع بحث النزول في المقدمة، وفيه: فالحمد لله الذي جعل الصدّيق من قومي والشهيد من قومي، إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة، إلى أن قال عدي ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سرّه حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم. وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية التي تشير إلى أن الإنسان بالطبع يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل ولو لم يكن هذا مرغوبا فيه لما امتنّ به على رسوله بقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ولما طلبه إبراهيم عليه السلام من ربه بقوله (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) الآية 84 من سورة الشعراء ج 1، وهو لا يسأل الله شيئا لنفسه من نجاته من النار، راجع الآية 83 من الصافات المارة، والآية 258 من البقرة في ج 3 وما يرشدانك إليه تقف على ما جرى لإبراهيم مع قومه وربه وأبيه والنمرود وغيرهم، وذلك لأن الثناء خير من الغنى، وقائم مقام الحياة الشريفة، ولذا قيل ذكر الفتى هو عمره الثاني، وقال ابن زيد:
إنما المرء حديث بعده
…
فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال الآخر:
إنما الدنيا محاسنها
…
طيب ما يبقى من الخبر
فقد يكون الذكر أفضل من الحياة لأنه يحصل في كل مكان بخلافها، حكي أن الطاغية هلاكو بعد أن بلغ ما بلغ من الظفر سأل أصحابه من الملك؟ فقالوا أنت دوخت البلاد، وأطاعتك الملوك، وملكت الأرض، وصار العباد في طوعك، وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن، فقال كلا، الملك هذا الذي له أكثر من ستمئة سنة قد مات، وهو يذكر الآن على المآذن كل يوم وليلة خمس مرات ذكرا مكررا من ملايين الناس، يريد محمدا صلى الله عليه وسلم. ولو لم يقل هذا الجبار هذه الجملة الدالة على حضرة الرسول لصرف قوله إلى الملك الأعظم حضرة المولى جل جلاله لأن ذكره على المآذن أكثر من ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم ولاثيب بكلامه هذا ثوابا عظيما يوشك أن يقربه إلى الله، ولكن أبت نفسه بل أبى الله أن يلهمه ذلك، وهو إنما قالها بحق الرسول حسدا ليس إلا. وهذه الآية نزلت في بيت المقدس قبل الهجرة زمن الإسراء، فتصير مكية أيضا، وهي «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» 45 قال ابن عباس لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم بعث له آدم وولده من المرسلين، فأذن جبريل وأقام الصلاة، وقال يا محمد تقدم فصلّ بهم، فلما فرغ من الصلاة قال له جبريل اسأل يا محمد وتلا الآية، ان قريشا زعمت أن لله شريكا وأن الملائكة بناته، وزعمت اليهود والنصارى أن له ولدا، فاسأل هؤلاء الأنبياء جميعهم هل كان شيء من ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم لا أسأل قد اكتفيت. وقالت عائشة رضي الله عنها: قال عليه السلام ما أنا بالذي أشك، وما أنا بالذي أسأل، فكان صلى الله عليه وسلم أثبت يقينا من ذلك.
هذا، وقال أبو القاسم المفسر في كتابه التنزيل: نزلت هذه الآية في بيت المقدس ليلة المعراج، فلما أنزلت وسمعها الأنبياء عليهم السلام أقرّوا لله تعالى بالوحدانية وقالوا بعثنا في التوحيد، وبهذا قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد، وهذا القول أقوى وأوثق من القول بأنها نزلت في السماء ليلة المعراج، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصلّ بالأنبياء في السماء، وإنما صلى بالملائكة كما بيناه في قصة الإسراء والمعراج أول سورة الإسراء في ج 1، على أن ما وقع في المعراج لا يعد حجة لوجود الخلاف فيه بخلاف الإسراء المجمع عليه وعلى كفر من ينكره، وكانت الصلاة بالأنبياء
ليلة الإسراء في بيت المقدس. وهذا الأذان والصلاة الكائنة بالأنبياء في الأرض والتي بالسماء بالملائكة هي غير الأذان والصلاة المفروضة، لأنها لم تفرض بعد إذ كان ذلك عند العروج، وقد ذكرنا ما يؤيد هذا هناك، وهذا التفسير أولى من تقدير كلمة (أمم) قبل لفظ (مَنْ) أي اسأل أمم من أرسلنا من قبلك من أقوامهم الموجودين في زمنك من أهل الكتابين وغيرهم، إذ لا مانع من إجرائها على ظاهرها، ولا حاجة إلى تقدير مضاف محذوف أو تأويل آخر، وعلى كل إنه لم يأت نبي ولا رسول ولا كتاب بعبادة غير الله تعالى القائل «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ» إلى فرعون «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» 46 إليكم وإلى بني إسرائيل، وفيها تعريض لما يدعيه فرعون من الربوبية الكاذبة «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا» المار ذكرها في الآية 132 من الأعراف في ج 1 «إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ» 47 سخرية بها واستهزاء، وقد علمت ما فعل الله بهم، قال تعالى «وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» التي أريناها لهم قبلها، أي أن كل آية منها موصوفة بالكبر والعظم على حد قولك إخواني كل منهم أكرم من الآخر أي كلهم كرماء، وعليه قول الحماسي:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
…
مثل النجوم التي يسري بها الساري
أي كلهم أكابر عظماء «وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ» الأدنى أولا كالقحط والنقص والطوفان والدم والقمل والجراد «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» 48 عن كفرهم لترحمهم فلم يرجعوا، ولم تؤثر بهم الآيات ونقضوا عهودهم التي أعطوها لموسى بالإيمان به عند كشف كل آية «وَقالُوا» فرعون وملؤه «يا أَيُّهَا السَّاحِرُ» الماهر في السحر، إذ كان السحرة عندهم مقدمين لما يرون من أعاجيبهم، كما أن الطبيب كان مقدما زمن عيسى عليه السلام، وذا الفصاحة في عهد محمد صلى الله عليه وسلم وكان التفاخر بها ساريا بينهم فالطبيب والبليغ له القدم الأعلى عند قومه «ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» بأننا إذا آمنا يكشف عنا العذاب فاسأله يكشفه «إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ» 49 وقد دعى فكشف عنهم وعادوا مصرين على كفرهم ومتهمين رسولهم بالسحر، قال تعالى «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ» الأخير كما هو الحال في كل مرة
إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» 50 بعهدهم أيضا، ويقولون ما أصابنا إلا الخير لما يروا بعد كشف كل آية من آيات عذابهم خيرا وبسطة
«وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ» بقصد إغرائهم «قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي» وكان قصره يمر من تحته نهر النيل يتدفق يمينا وشمالا، قالوا له نعم، ثم قال لهم «أَفَلا تُبْصِرُونَ» 51 عظمتي وفقر موسى وضعفه، قالوا نعم نبصر وقد جمعهم وخطب فيهم هذه الغاية، قال لهم «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا» يشير إلى موسى عليه السلام وقد كذب بل شر من كل ذي شر، ثم وصم موسى عليه السلام وحاشاه مما وصمه به، فقال ما موسى بخير مني بل أنا خير من هذا «الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» 52 يفصح عن كلامه عايه الخبيث باللثغة التي سببها هو كما بيناه في الآية 27 من سورة طه في ج 1، وأجاب نفسه بالتفضيل عليه ولم ينتظر جواب قومه الذين جمعهم وألقى عليهم هذه الجملة، إذ انتقل بنفسه من ذلك إلى الإخبار بالأخيرية، وعليه قول الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
…
وصورتها أم أنت بالعين أملح
ثم بين نوعا آخر من أسباب افتخاره فقال «فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ» مثلي ليعلم الناس أنه ألقي إليه مقاليد الملك فيطيعونه وينقادون لأمره، وكان في ذلك الزمن إذا سور الرجل بسوارين من ذهب وطوق بطوق من ذهب يكون دلالة على سيادته في قومه، ويريد الملعون بقوله هذا أن لو كان لما يدعيه موسى من صحة بأنه رسول الله رب العالمين أجمع لألبسه الذي أرسله أسورة ذهبية إعلاما برسالته وإيذانا بلزوم طاعته لينقاد له الناس «أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ» 53 بعضهم ببعض متتابعين يشهدون له بصدق ما جاء به ويعينونه على من خالفه على الأقل إذا لم يحلّ بما يدل على السيادة والحاكمية، قالوا له لم يسور ولم تأت معه الملائكة قال لهم حينئذ لا صحة لدعواه قالوا نعم، وقد ظن اللعين أن الرياسة والقوة من لوازم الرسالة في المرسل ولم يعلم أن الله الذي أرسله كافيه عن ذلك، ويقرب من قوله قول كفار قريش (لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ) الآية 31 المارة.