الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يريدون أن يريهم إياه عيانا، فقل لهم يا سيد الرسل يرون اليوم الذي يسألون عنه «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» 13 يحرقون فيها، يقال فتنت الشيء أحرقته وأزلت خبثه لتطهر خلاصته، وسيعرفونه حقا يوم تقول لهم خزنة جهنم «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» عذابكم المعد لكم الذي هو نتيجة كفركم بالرسل ومرسلهم والكتب والبعث والحساب والعقاب والجنة والنار ونمرة جحودكم بذلك التي اقتطفتموها بأيديكم الأثيمة ويقال لهم أيضا «هذَا» الإحراق والتعذيب هو «الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» 14 وتسألون عنه في الدنيا «إِنَّ الْمُتَّقِينَ» في ذلك اليوم «فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» 15 جارية بينها «آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ» من الكرامة وحسن القبول لأن الأخذ قبول عن قصد «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ» في حالة الدنيا قبل دخولهم الجنة «مُحْسِنِينَ» 16 في أعمالهم ومعاملاتهم مع أنفسهم وغيرهم.
مطلب قيام الليل وتقسيم الأعمال والصدقات والتهجد وآيات الله في سمائه وأرضه:
ثم وصف معاملتهم معه جل جلاله بقوله «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ» 17 لأنهم يؤثرون عبادة الله على النوم فيستغرقون أكثره بالصلاة والذكر «وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» 18 ربهم عن تقصيرهم بالنهار أيضا لأنهم عرفوا أنهم مهما عبدوه لا يؤدون بعض شكره، على حد قول الشيخ بشير الغزي دفين حلب رحمه الله:
لو أن كل الكائنات السنه
…
تثني علي علاه طول الأزمنه
لم تقدر الرحمن حق قدره
…
ولم تؤد موجبات شكره
إلخ ما جاء في أرجوزته في نظم الشمسية في علم المنطق، وهؤلاء الكرام دعموا إيمانهم بالعمل الصالح الجثماني والمالي أيضا، يفيده قوله عز قوله «وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ» منها معلوم لديهم يعطونه «لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» 19 الذي ليس عنده شيء ولا يجري عليه شيء من الزكاة المفروضة ومن صدقة الفطر والتطوع، إذ يجوز فيها انفاق ما زاد على الحاجة كما في الآية 22 من سورة البقرة في ج 3 المنبه عن إنفاق الفضل عن الحاجة، وهذا الإنفاق رغبة وعن طيب نفس طلبا لما عند الله من الثواب، لأن الأعمال الصالحة ثلاثة: مالي فقط وهو الزكاة، وجثماني فقط وهو الصلاة والذكر، ومالي وجثماني وهو الحج. والمحروم هنا يراد به والله أعلم
المتعفف الذي لا يسال بدليل قرنه بالسائل، ولهذا نبه الله عليه، لأن الناس غالبا لا يعطون إلا من يسأل ولا يكادون يعطون المتعفف لظنهم أنه مكتف، ولكن الله تعالى ذمّ الذين لا يعرفونهم إذ يجب على الأغنياء تفقد أمثالهم لأن التصدق عليهم أفضل منها على غيرهم، وقد جاء بالخبر: اختاروا لصدقاتكم كما تختارون لنطفكم، قال تعالى (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
…
لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) الآية 271 من البقرة في ج 3 فقد جعل جل شأنه الذين لا يتفقدون المتعففين جهلاء ليتقضوا لذلك ويرفعوا عنهم وصمة الجهل وليتعظ الذين يريدون وجه الله في صدقاتهم، وإنما خص الأسحار بالاستغفار لأنها في ثلث الليل الأخير وهو وقت مبارك فيه يطلع الله تعالى على عباده وهو وقت غفلة أكثر الناس، ولهذا فإن العارفين سارعوا إلى التهجد فيه، لأنهم يعرفون ما فيه، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟. ولمسلم قال: فيقول أنا الملك أنا الملك، وذكر الحديثين، وفيه حتى يضيء الفجر، وزاد في رواية من يقرضني غير عديم ولا ظلوم؟ يريد نفسه تقدست وعلت. فمالكم أيها الناس معرضون عن التعرض لهذه النفحات القدسية والرحمات الرحمونية، فهلموا إليها اغتنموها ولا تضيعوا أوقاتكم سدى وتهملوا أنفسكم فيفوتكم هذا الخير في هذا الوقت فهو مظنة القبول، والإجابة إذا صحت النية وخلصت من الأهواء وكانت الرغبة إلى الله متوفرة، وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله
إلا أنت لا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وروى البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعارّ في الليل (يقال تعار الرجل من ذنوبه إذا انتبه وله صوت) فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال اللهم اغفر لي أو قال دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته. ولهذا جعلت صلاة الليل من السنن المؤكدة لما فيها من الثواب العظيم في الدنيا بتنوير القلب وتطهيره، وبالآخرة بالفوز في جنات النعيم.
واعلم أن المراد من هذا الحق حق الزكاة المفروضة لأن هذه الآية جاءت بمعرض الإخبار عن أوصاف المتقين فلا يقصد منها الإنشاء فيقال إن السورة مكية والزكاة لم تفرض إلا في المدينة، وسبق أن ذكرنا غير مرة بأن الزكاة لا على قدر المفروض بالمدينة، كانت متعارفة قديما قبل الإسلام وبعده، راجع الآية 7 من سورة فصلت المارة، وكذلك الصلاة كانت متعارفة إذ لم تخل أمة منهما، إلا أن القدر والهيئة لم يكونا على ما نفعله الآن، وان الله تعالى لم يبين في كتابه ذلك وإنما أبانه حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم أما الأصل فقد تعبد الله به الأمم كافة بواسطة رسله، قال تعالى «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ» واضحات عظيمات الدلائل على وجود الإله القادر وحكمته البالغة وتدبيره الباهر لما فيها من الجبال والأودية والأنهار والعيون والبحار والمسالك والفجاج والطرق للسائرين فيها، فمنها السهل والوعر والصعب والرخو والرملة والعذبة والسبخة والمعادن المتنوعة والدواب المنبئة المختلفة في الصورة والشكل واللون والكبر والصغر، فمنها الطيب والخبيث، والمفترس والهادئ، والنفور والألوف، وفيها أنواع النبات والأشجار المثمرة وغيرها، المتباينة في الجنس والنوع والفصل والضر والنفع والطعم والرائحة وغير ذلك «لِلْمُوقِنِينَ» 20 بالله المصدقين بكتبه ورسله واليوم الآخر المستدلين بها على مبدعها، الآخذين العظات والعبر من كيفياتها وكمياتها وماهيتها.
«وَفِي أَنْفُسِكُمْ» أيها الناس آيات جليلة وعظيمة وعظات كبيرة «أَفَلا تُبْصِرُونَ» 21 إبصار ناظر مدقق ونظر مبصر محقق يستعين بعين بصره على عين بصيرته فيتعظ بما