الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والبهائم والوحوش وغيرها، ثم يحصل القصاص بين البهائم حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء، فإذا فرغ من القصاص قيل لها كوني ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون ترابا مثلها ليتخلص من العذاب المعدّ له، وما هو بنافعه، ويتمنى أن يعود للدنيا ليعمل صالحا ولا يجاب، ويتمنى أن يتوب ويعترف بما كذب بالدنيا ولا يرد عليه، فتلزمه الحسرة وخاصة عند ما يشاهد فوز المؤمنين وما صاروا إليه من النعيم، ثم يقع اللوم بينهم وبين رؤسائهم وأوثانهم ولا تنفعهم المحاججة والمخاصمة، فيزجون في جهنم أفواجا أفواجا وهم يتصايحون ولا محيص لهم عنها، ويستغيثون ولا مجيب ولا سميع إلا الإخساء والإذلال. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأتباعه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة النازعات عدد 31- 71- 79
وتسمى سورة الطامة والساهرة. نزلت بمكة بعد سورة النبأ، وهي ست وأربعون آية، ومئة وسبع وتسعون كلمة، وسبعمئة وثلاثة وخمسون حرما، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مختومة بما ختمت به، ولا مثلها في عدد الآي ولا ناسخ ولا منسوخ فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى: «وَالنَّازِعاتِ» الملائكة التي تنزع أرواح الكفرة نزعا شديدا بعنف وإهانة وقسوة كما تجر الشوكة من الصوف زيادة في تعذيبهم «غَرْقاً» 1 هو نزع من للنزع مبالغ فيه والإعراق في النزع التوغل فيه إلى بلوغ أقصى درجاته، وهو مفعول لاسم الفاعل قبله، أو مصدر من معناه كجلست قعودا، وقمت وقوفا، وشرط المفعول موجود هنا وهو اتفاق المصدر مع عامله لأنه بمعنى ما قبله، إلّا أنه ليس من لفظه، يقال أغرق النازع في القوس إذا اجتذبه وبلغ غاية المدّ فيه حتى انتهى إلى النصل، «وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً» 2 الملائكة التي تشط أرواح المؤمنين فتسلتها سلّا كما تسحب الشعرة من الحليب والدلو من الماء بلين ولطف إكراما وتعظيما لشأنهم «وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً» 3 الملائكة
التي تسبح في مضيّهم تنفيذ أوامر ربهم مسرعين متسابقين في الهواء والفضاء كما تسبح الحيتان بالماء «فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» 4 لقبض أرواح المؤمنين وإيصالها إلى الجنة بالاحترام والتكريم، واستخراج أرواح الكافرين وزجها في النار امتثالا لأمر ربهم وتعظيما لجلاله. هذا ويوجد لهذه الآية معان كثيرة غير ما ذكرنا لا حاجة لإثباتها اكتفاء بما نقلناه «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» 5 من أمور العباد مما يعود لدينهم ودنياهم كما رسمه الله لهم، والوقف على كلمة أمرا لازم، لأن وصله بما بعده يصيّر كلمة «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ» 6 بسبب نفخ الملك بالصور النفخة الأولى إذ يضطرب لها كل شيء ويموت فيها جميع الخلق عدا من استثنى الله. ظرفا (للمدبرات) مع أنه قد انقضى التدبير، تدبر «تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» 7 النفخة الثانية فيحيا بها كل شيء مات من أول الدنيا لآخرها من قبل النفخة الأولى وفيها وما بعدها. وقد أقسم الله تعالى في هؤلاء الملائكة الكرام تبجيلا لشأنهم، وله أن يقسم بمن وما شاء من خلقه، أو لكثرة منافعهم بالنسبة لنا. وجواب القسم محذوف تقديره لتبعثن بعد الموت أيها الناس، وهو جواب لمنكري البعث من الكفار. وأعلم أن الخلائق تنقسم في ذلك اليوم المهول قسمين وقد بينهما بقوله جل قوله «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» 8 خائفة قلقة وجلة «أَبْصارُها خاشِعَةٌ» 9 ذليلة حقيرة خاضعة «يَقُولُونَ» أصحاب هذه القلوب والأبصار في الدنيا إذا قيل لهم أنكم مبعوثون بعد الموت «أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ» 10 أي الحالة الأولى كما كنا أول مرة أحياء إنكارا وتكذيبا وسخرية، يقال لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله:
أحافرة على صلع وشيب
…
معاذ الله من سفه وعار
ثم حكى الله أقوالهم في الدنيا بقوله عز قوله «أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» 11 زيادة في الإنكار والجحود والاستهزاء واستعظاما، أي كيف نردّ للحياة بعد أن آل أمرنا إلى ذلك «قالُوا» مستكبرين أمر إعادتهم «تِلْكَ إِذاً» إن صحت الرجعة فهي «كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» 12 نغين فيها لتكذيبنا إياها. قال تعالى «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ» 13 نفخة لا تكرار فيها للإماتة وواحدة للإحياء
«فَإِذا هُمْ» منكرو البعث مجموعون «بِالسَّاهِرَةِ» 14 على وجه الأرض ظاهرين للعيان لا يسترهم شيء، وسميت ساهرة لأن نوم الحيوان وسهره عليها، قال أمية ابن الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر
…
وما فاهوا به أبدا مقيم
وقال في الكشاف هي الأرض البيضاء المستوية الملساء لأن السراب يجري فيها أخذا من قولهم عين ساهرة أي جارية بالماء، قال الأشعث بن قيس:
وساهرة يضحى السراب مجللا
…
لإقطارها قد جبتها متلثما
قال تعالى مخاطبا سيد المخاطبين «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» 15 مع قومه كيف كان يتحمل مشاقهم، أما يجدر بك يا سيد الرسل أن تكون مثله فتحمل أذى قومك وإهانتهم، ذكّره الله تعالى به تسلية له، ثم شرع يذكر بعض ما خوله إياه وما لقي من المرسل إليهم فقال اذكر لقومك شيئا عنه «إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» 16 اسم لواد عند الطور وقال له «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» 17 على قومه وتجاوز حدودنا «فَقُلْ» له «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» 18 بحذف إحدى التاءين أي تتزكى من كفرك وسوء صنيعك إلى قومك «وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» 19 عقابه جعل الخشية غاية للهداية، لأنها ملاك الأمر، ولأن من خشي الله يؤمل فيه كل خير، ومن أمن منه اجترأ على كل شر، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل. أي استراح من وعثاء السفر في دنياه. فهنيئا لمن يبلغ منزله في الآخرة على رضى من ربه فيستريح الراحة الدائمة. وفي هذا الاستفهام ما لا يخفى من اللطف في الدعوة والاستنزال عن العتو، وإنما قدم التزكية على الهداية لأنها تخلية وهي مقدمة على التحلية، وهذه الآية على حد قوله تعالى (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) الآية 45 من سورة طه في ج 1. قال تعالى «فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى» 20 وهي العصا يوم فضحت سحر السحرة وأجبرتهم على الإيمان بالله وبموسى
«فَكَذَّبَ» بها فرعون وملؤه لغاية فسقهم في العناد ولم يؤمنوا كما أرينا قومك آية انشقاق القمر فكذبوها ورموك بالسحر «وَعَصى» 21
ربه وموسى كما عصى قومك ربهم وكذبوك، أي داوموا على عصيانهم ولم تؤثر بهم الآية العظيمة «ثُمَّ أَدْبَرَ» عنه وعن الإيمان به وذهب «يَسْعى» 22 للإفساد في الأرض مثل قومك «فَحَشَرَ» جمع جنوده وقومه «فَنادى فَقالَ» 23 فرعون في قومه بلا خجل ولا حياء «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» 24 والأصنام كلها أرباب لكم من دوني وكذلك الكواكب وأنا رب الجميع، قاتله الله، وهذا معنى العلو الذي أراده أمام قومه لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، كما تقدم في القصة المارة في الآية 103 من سورة الأعراف ج 1 وغيرها «فَأَخَذَهُ اللَّهُ» على الصورة المبينة في الآية 63 من الشعراء في ج 1، وهذا الأخذ العظيم كان «نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» 25 أي عاقبتهما بأن أغرقه الله وقومه في الدنيا وأحرقهم في الآخرة، وفعلته الأولى هي تكذيبه موسى وإصراره على الكفر، والثانية قوله (ما علمت لكم من إله غيري) وقوله (أنا ربكم الأعلى) فأذاقه الله عذاب الدنيا بالإغراق وسيذيقه عذاب الآخرة بالإحراق على الصورة المبينة في الآية 98 من سورة هود المارة «إِنَّ فِي ذلِكَ» الذي فعل بفرعون وقومه «لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى» 26 الله ويتقيه ومن لا، فلو أتيته بملء الدنا عظات وعبرا فلا تؤثر فيه لأن القلوب إذا قست كانت أشد من الحجارة، كما سيأتي في الآية 75 من البقرة في ج 3، وذلك لأن فرعون وقومه أرادوا بكل قواهم أن يدبروا أمرا ليتخلصوا من موسى فلم يقدروا فأهلكهم الله، وإن قومك يا محمد يريدون باجتماعاتهم ومذاكراتهم التخلص منك ولن يقدروا، وإذا أصروا فيكون مصيرهم مثل مصير قوم فرعون، وقل لهم يا سيد الرسل «أَأَنْتُمْ» أيها الكفار المصرون على الإنكار «أَشَدُّ خَلْقاً» إذا أردنا إحياءكم بعد الموت «أَمِ السَّماءُ بَناها» 27 على ما ترون وقد «رَفَعَ سَمْكَها» سقفها إلى سمت العلو بغير عمد أو بعمد لا ترى كما مر في الآية 10 من سورة لقمان «فَسَوَّاها» 28 جعلها مستوية لا شقوق فيها ولا فطور ولا تضلع فيها، راجع الآية 12 من سورة النبأ المارة «وَأَغْطَشَ لَيْلَها» أظلمه «وَأَخْرَجَ ضُحاها» 29 أبرز نهارها وعبر بالضحى عن النهار لأنه أكمل أجزائه في النور والضوء، وأضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يجريان فيها، ولأن الليل