الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سماع الأذان وحده لا يكفي للانتفاع بالمسموع، بل لا بدّ من اقترانه بالقبول وإلا عدّ كسماع الموتى، ولهذا قال تعالى بحق الذين يسمعون ولا يعون (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الآية 22 من سورة فاطر في ج 1.
مطلب جواز تذكير اسم الجمع وشبهه وكيفية هضم الطعام وصيرورة اللبن في الضرع والدم في الكبد والطحال وغيرها:
هذا وبعد أن عدد الله تعالى مساوئهم وذكر الحكمة من إرسال الرسل وإنزال الكتب وضرب المثل لصحة البعث طفق يعدد نعمه على خلقه فقال «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ» المار ذكرها بصدر هذه السورة «لَعِبْرَةً» كبيرة وعظة عظيمة إذا تفكر بها، ثم بين هذه العبرة بقوله «نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» ذكر الضمير وهو مؤنث لأن لفظ الأنعام مفرد وضع لإفادة الجمع، فكان ضميره ضمير الواحد المذكر بحسب اللفظ وبحسب المعنى جمع، فيكون ضميره ضمير الجمع وهو مؤنث، ولهذا المعنى ذكره هنا وأنثه في سورة المؤمنين في الآية 23 في نظير هذه الآية، والأنعام اسم جمع وكل ما كان كذلك يجوز فيه التذكير والتأنيث والجمع والإفراد من حيث اللفظ والمعنى، كالخيل والإبل والغنم وغيرها من أسماء الأجناس التي لا واحد لها من لفظها، قال الشاعر:
تركنا الخيل والنعم المفدى
…
وقلنا للنساء بها أقيمي
وقال الكسائي إنما يفرد ويذكر على تقدير المذكور وذلك كقوله:
فيها خطوط من سواد وبلق
…
كأنه في الجلد توليع البهق
وهذا شائع وفي القرآن سائغ، قال تعالى (إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) الآيتين 54/ 55 من سورة المدثر في ج 1، وقال تعالى (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) الآية 38 من الأنعام المارة، وإنما يكون هذا في التأنيث المجازي تدبر.
«مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ» الفرث في الكرش ما دام فيها، نخرج «لَبَناً خالِصاً» من شوائب الكدورة، ومن مصل الفرث والدم جاريا بسهولة هنيئا مريئا، بدلالة قوله «سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» 66 لا غصّة فيه ولا يحتاج للمضغ ولا يثقل على المعدة ولا يحتاج للشرب بعده، وهو غذاء وماء يكفي الكبير والصغير، ذلك تدبير الحكيم
القدير الذي هو بكل شيء خبير. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي لبيبة عن أبيه عن جده قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما شرب أحد لبنا فشرق، إن الله تعالى يقول (لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) وهو كذلك، فإذا وقع الشرق فيه فاعلم أن اللبن مشوب بماء، لأن كلام الرسول لا ينخرم أبدا.
وقرىء سيغا بالتخفيف والتشديد، وهي قراءة جائزة لأن اللفظ يحتملها بلا زيادة ولا نقص لما ذكرنا أن التشديد والتخفيف والمد والإشباع لا يعد نقصا ولا زيادة.
هذا، واعلم أن الحيوان إذا تناول غذاءه ينزل إلى معدته إن كان إنسانا، وإلى كرشه إن كان حيوانا، وإلى أمعائه إن كان من غيرهما فيحصل في الغذاء الهضم الأول، فيجذب بقدرة الله تعالى الصافي إلى الكبد، والكثيف إلى الأمعاء، ثم يحصل الهضم الثاني في الذي انجذب إلى الكبد، فيصير دما مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فتجذب بحكمة الحكيم الصفراء إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والمائية إلى الكلى، ومنها إلى المثانة، ويذهب الدم في العروق، وهي الأوردة الثابتة في الكبد، فيحصل الهضم الثالث، فيصب الدم من تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض، فينقلب بقدرة القادر ذلك الدم لبنا صافيا فيه.
هذا مصير الصافي من الغذاء، ولا يستبعد أحد كيفية الانجذاب المذكور، لأن القوة الجاذبة من أمر الله، والذي وضعها في الحديد يضعها في غيره، والنظر قوة جاذبية الاستفراغ وقس عليها. وأما الكثيف الذي نزل الى الأمعاء فيخرج فضلات، فسبحان اللطيف بخلقه، لأنه لو خرج الغذاء كله أو بقي كله لهلك الحيوان، ولكن الله تعالى يبقي ما يقيم به الوجود من الغذاء للإنسان والحيوان، ويخرج ما بضره، فله الحمد والشكر، ولهذه الحكمة ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند خروجه من الخلاء غفر انك ثلاثا، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. وكان نوح عليه السلام يقول الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيّ منفعته وأذهب عني أذاه. والله أعلم.
هذا ولا يقال إن الحالة المارة موجودة في الذكر من الحيوان فلم لا يحصل منه اللبن، لأن أفعال الله لا تعلل، ولعل الله تعالى يصرفه لجهة أخرى في الذكر تزيد في قوته، لأن البشر ليس في طوقه الاطلاع على مكونات الله تعالى، وكيفية
تراكيب مخلوقاته، ونتائج ما ركبت لأجله، لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به، فأوجبت أن يكون مزاج الرجل حارا يابسا، والأنثى باردا رطبا، لأن التولد داخل في بدنها فاختصت بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد والاتساع، وإن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لقلب الدم لبنا، لأجل غذائه كما كانت في الرحم، حتى انك إذا بالغت بحلب الدابة خرج لك بالحليب حمرة تثبت لك أنه كان دما، ولم ينضج منه إلا ما خرج قبل المبالغة في الحلب، ولا يوجد في الرجل شيء من ذلك لعدم الحاجة إليه:
حكم حارت البرية فيها
…
وحقيق بأنها تحتار
أما من يقول كيف ينقلب الدم لبنا، فنقول له الذي قلب النطفة البيضاء دما في الرحم قلب الدم الأحمر لبنا أبيض في الضرع، وهذه النطفة مكونة من الدم، ولهذا فإن من يكثر الجماع قد ينزل دما. هذا، وإذا تدبرت بدائع صنع الإله في هذا وغيره وعجائب مكوناته اضطررت للاعتراف بكمال قدرته، وتمام حكمته، وتناهي رحمته بعباده، وغاية رأفته بهم، قسرا، فسبحانه من إله عظيم أوحى إلى حبيبه «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ» لكم عبرة عظيمة وعظة كبيرة أيها الناس «تَتَّخِذُونَ مِنْهُ» من عصير التمر والعنب ثمر النخيل والكرم «سَكَراً» مشروبا يتفكه به كما قال أبو عبيدة، وخمرا بلغة العرب، وقال ابن عباس مطعوما يتفكه به، قال الأخطل:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم
…
إذا مجرى فيهم المزاء والسكر
والمزاء نوع من الأشربة المسكرة. قيل إنه نقيع التمر والزبيب إذ طبخا وذهب تلثاهما، وما لا يسكر من الأنبذة، لأن الله تعالى قد امتنّ على عباده في هذه الآية به، ولا يقع الامتنان منه إلا بمحلل. وقال ابن عباس: هو الخلّ بلغة الحبشة، واستدل على جواز شرب ما دون السكر من النبيذ صاحب ذلك القيل بهذا التأويل، وعضد استدلاله بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال حرم الله الخمر بعينها القليل منها والكثير. والسكر بضم السين من كل شراب، أخرجه الدارقطني.