الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - المماليك-العثمانيون
(ا) المماليك
(1)
أخذ خلفاء صلاح الدين يستكثرون من شراء المماليك الترك وجلبهم من أواسط آسيا وتكوين فرق عسكرية منهم فى جيوشهم، وأكثر منهم خاصة السلطان نجم الدين أيوب، وكأن الأيوبيين لم يتعظوا بما كان من هؤلاء الترك فى العصر العباسى الثانى واستيلائهم على مقاليد الحكم فى بعض الولايات الكبرى كما حدث فى مصر نفسها لعهد أحمد بن طولون والإخشيد التركيين. وما إن توفى السلطان نجم الدين أيوب وخلفه ابنه توران شاه حتى استولى المماليك على صولجان السلطان باسم شجرة الدر التركية، وسرعان ما أسلمت الحكم والسلطان-كما مرّ بنا آنفا-إلى عز الدين أيبك قائدهم. وظل المماليك من هذا التاريخ وهو سنة 648 يحكمون مصر إلى الفتح العثمانى سنة 922 فى مجموعتين كبيرتين تسمى أولاهما المماليك البحرية نسبة إلى نهر النيل الذى كان يحيط بجزيرة الروضة مسكنهم الذى أنزلهم فيه السلطان نجم الدين أيوب. وكانوا يستكثرون من شراء المماليك وينزلونهم فى أبراج القلعة حيث يربّون تربية عسكرية جيدة، ويسمون نسبة إلى مسكنهم المماليك البرجية، وهم المجموعة الثانية التى خلفت المماليك البحرية فى حكم مصر منذ سنة 784.
تولى عز الدين أيبك شئون مصر سنة 648 ورأى كما أسلفنا أن يشرك معه فى الحكم الملك الأشرف موسى محاولة لكسب رضا الأيوبيين فى الشام ولكنهم ظلوا مغاضبين له، وأخذوا فى حربه، حينئذ رأى أن يتخلص من الأشرف موسى، وحدثت حروب ومناوشات بينه وبين الأيوبيين، وارتضوا أخيرا أن تكون له مصر وفلسطين حتى نهر الأردن، غير أن شجرة الدر زوجته
(1) انظر فى المماليك السلوك والخطط للمقريزى والمختصر فى أخبار البشر لأبى الفدا والبداية والنهاية لابن كثير وتاريخ ابن خلدون والنجوم الزاهرة الجزء السابع وما بعده من أجزاء وبدائع الزهور لابن إياس والتبر المسبوك فى ذيل السلوك للسخاوى ومجالس السلطان الغورى وآخرة المماليك لابن زنبل وتشريف الأيام والعصور فى سيرة الملك المنصور (طبع القاهرة) وتاريخ الدول والملوك لابن الفرات (طبع بيروت) وغزوات قبرص ورودس للسيوطى (طبع فينا) والدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة لابن حجر والضوء اللامع للسخاوى ودولة الظاهر ودولة بنى قلاوون لجمال الدين سرور والعصر المماليكى لسعيد عبد الفتاح عاشور وبروكلمان ص 365 وما بعدها.
شكّت فى إخلاصه لها، فدبرت مؤامرة ضده سنة 655 فمات مقتولا ولم تلبث أن لقيت نفس المصير، وتولى زمام الحكم السلطان المنصور على بن أيبك حتى سنة 657 وكان قطز أتابكا له فقبض عليه واستولى على مقاليد الحكم. وكان التتار قد استولوا فى العام السابق على بغداد ونكلوا بها تنكيلا فظيعا ومضت زحوفهم بل سيولهم تتقدم إلى الشام وأخذت تهبط إلى الجنوب فعهد قطز إلى مملوك عظيم من مماليك السلطان نجم الدين أيوب هو بيبرس فى قيادة طليعة الجيش حتى إذا انتهى إلى عين جالوت بين بيسان ونابلس سنة 658 أصدر أمره إلى بيبرس أن يتابع سيره تجاه التتار وأخفى بقية الجيش بين الأحراش والأشجار المحيطة بعين جالوت. والتحم بيبرس بالتتار وأظهر بسالة نادرة فى حربهم، وتبعه الجيش يستبسل بقيادة قطز، منزلا بالتتار ضربات قاصمة حتى اضطروا إلى الفرار مولّين وجوههم إلى الشمال لا يلوون، تاركين وراءهم ما لا يكاد يحصى من الغنائم والأسرى. وتعدّ هذه المعركة من المعارك الفاصلة فى التاريخ، إذ صدّت التتار نهائيا عن مصر والشام، وقد ثبّتت أقدام المماليك لا فى حكم مصر وحدها، بل لقد انضوت الشام جميعها تحت لوائهم، ويقتسم شرفها بحقّ قطز وبيبرس. ولبيبرس فيها الشرف الأكبر، إذ كان على طليعة الجيش، واستطاع أن يقتحم بطليعته صفوف التتار، ويزلزل أقدامهم ويحدث الفوضى فى عساكرهم. حتى إذا تم هذا النصر المبين ظن أن قطز سيكافئه عليه مكافأة كبيرة ولم يلبث أن طلب منه نيابة حلب، ولكن قطز لقصر نظره بخل عليه بها، فكان طبيعيا أن يدبر مؤامرة ضده فى أثناء قفوله إلى مصر، وواتته الفرصة فقتله، وانتخبه أمراء المماليك وقوادهم سلطانا على الديار المصرية والشامية، وتلقب باسم الملك الظاهر.
وكان بيبرس سلطانا حازما عالى الهمة شديد البأس بعيد النظر يحسن تدبير الملك وسياسته، فرأى أن انتصار عين جالوت وحده لا يكفى فى تثبيت سلطانه، وانتهز ظهور أمير عباسى بدمشق فرّ من التتار فاستدعاه إلى القاهرة، حتى إذا تأكد نسبه إلى بنى العباس بايعه هو والناس بالخلافة فى حفاوة بالغة، ولم يلبث هذا الخليفة العباسى أن قلّده سلطنة مصر والبلاد الشامية وغيرها مما يظلّه سلطانه. وبذلك ثبّت عرشه ووطّد سلطانه ضد أى محاولة قد يحاولها أحد الأيوبيين لاستعادة ملك آبائه. وظلت الخلافة العباسية قائمة بمصر طوال حكم المماليك إلى أن أخذ السلطان سليم الأول العثمانى آخر خلفائها معه إلى القسطنطينية، وأخذ سلاطين آل عثمان يتقلدون الخلافة على المسلمين إلى أن أزالها مصطفى كمال أتاتورك كما هو معروف. وأتاح وجود هذه الخلافة العباسية الاسمية بالقاهرة للظاهر بيبرس ومن خلفه من المماليك أن يعدّو أنفسهم حماة الخلافة والإسلام، وأفادوا
من ذلك سيطرتهم على الحجاز والحرمين، ووضع بيبرس تقليدا أن يسافر محمل إلى مكة سنويا يحمل الكسوة الشريفة، وهو تقليد لا يزال قائما إلى اليوم. وعنى بوضع نظام دقيق للإدارة فى مصر والشام كما عنى بالبريد، فكان الخبر يصل من دمشق إلى القاهرة فى ثلاثة أيام.
وظل طوال حكمه يعدّ جيوشه ويزحف بها لحرب الصليبيين والتتار وغزو أرمينية والسلاجقة بآسيا الصغرى وغزو النوبة فى الجنوب. أما الصليبيون فاستولى على كثير من قلاعهم وحصونهم ومدنهم مثل قيسارية وأرسوف وصفد وتبنين والرملة ويافا وحصن الأكراد والقرين القريبة من عكا وصافيتا وصفا والشقيف. ولم يلبث أن استولى على أنطاكية سنة 667 فانهارت المملكة الشمالية التى كان قد أقامها الصليبيون، ومعروف أن زنكى استولى من قديم على مملكتهم القديمة الرّها واستولى بعده صلاح الدين على مملكتهم فى بيت المقدس. ومازال الظاهر بيبرس ذاهبا آيبا من الفرات لحرب التتار وسحقهم، وغزا السلاجقة فى آسية الصغرى، وفتح أرمينية الصغرى مرتين واستقصى فتح حصون الإسماعيلية بالقرب من اللاذقية، وفتح دنقلة كرسى بلاد النوبة، ودانت له بالطاعة. ومن أهم أعماله أنه أقام فى سنة 663 لكل مذهب من المذاهب السنية الأربعة:
المذهب الحنفى والمالكى والشافعى والحنبلى قاضيا، وظل العمل بذلك جاريا فى عصر المماليك، وفى أيامه سنة 675 طافوا بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة، وكان يوما مشهودا، وهو أول من فعل ذلك بالديار المصرية. وشيد مسجدا كبيرا بالقاهرة لا تزال أطلاله قائمة إلى اليوم.
وهو يعدّ من أبطال مصر والعرب العظام أمثال صلاح الدين، ويعد عصره من العصور الإسلامية الذهبية، وظلت بطولته فى حروب التتار والصليبيين عالقة بالأذهان أزمنة طويلة، وألفت حولها قصة مشهورة، ومازالت الأجيال تزيد فيها إيمانا بفروسيته الخارقة. وقد توفى سنة 676 بدمشق ودفن بها، وتولى بعده ابنه الملك السعيد، ولم يكد يدور به فى الحكم عامان حتى ثار عليه أمراء المماليك وخلعوه وولوا أخاه بدر الدين سلامش وكانت سنه لا تتجاوز السابعة، وجعلوا قلاوون أتابكا له.
وسرعان ما استغل قلاوون الفرصة، فاستخلص الملك لنفسه، وتلقب باسم السلطان المنصور، وهو من أعظم سلاطين المماليك حزما وعزما وتدبيرا وبأسا، وقد اتبع سياسة الظاهر بيبرس فى الإيقاع بالتتار والصليبيين أما التتار فنازلهم مرارا وأنزل بهم خسائر فادحة حتى رضخوا وطلبوا منه الصلح مدحورين، وأما الصليبيون فقد صمم على إزالة مملكتهم الرابعة والأخيرة فى طرابلس، ونازلها سنة 688 وفتحها قهرا بالسيف، وملك ما جاورها من القلاع والبلدان مثل
جبيل وبيروت. وكان قد حدث شغب فى بلاد النوبة، فذهب إليها بعض قواده ورمّ ما بها من شغب. وتوفى سنة 689 وظل الملك فى أبنائه وأحفاده نحو مائة عام، وخلفه ابنه الأشرف خليل، وكان شجاعا وبطلا مغوارا، فصمم على طرد الصليبيين من الشام، فجمع عساكره وتوجه إلى عكا فوصلها فى يوم واحد ويسّر الله له فتحها فى يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى سنة 690 وكان الصليبيون استولوا عليها بأخرة من أيام صلاح الدين فى يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الآخرة سنة 587 وقتلوا المسلمين بها، فثأر لهم السلطان خليل وقتل من كان بها من الصليبيين حين فتحها. وانحلت عزائم الفرنج بعد عكا وأخذ السلطان خليل صور وصيداء وحيفا واستسلمت قلاع الصليبيين الأخرى، وتطهرت البلاد من رجسهم وإثمهم، فلم تبق لهم فى الشام بلد ولا قلعة ولا قرية ولا جزيرة.
والعجب أن يكافى المماليك السلطان خليلا على هذا العمل الباسل العظيم جزاء السلطان المعظم توران شاه بعد واقعة المنصورة، فيتآمروا على قتله، وتنجح مؤامرتهم سنة 693 ويخلفه أخوه الناصر محمد، وهو لا يجاوز التاسعة من عمره، ويعيّن كتبغا نائبا له، وما يكاد يدور العام حتى يستولى على السلطنة، ويغتصبها منه بعد عامين لاجين، وتعود بعد عامين آخرين إلى الناصر محمد بن قلاوون سنة 698. وتنشب حروب بينه وبين تتار العراق، وترجح كفتهم ويستولون على دمشق وغيرها من مدن الشام ويعيثون فيها فسادا. ولا يلبث الناصر محمد أن يجمع لهم جيشا كثيفا سنة 701 وينازلهم فى مرج الصّفر بالقرب من دمشق ويسحق جموعهم سحقا، وتولّى فلولهم الأدبار نحو العراق وبغداد لا تلوى على شئ. ويأخذ كبار المماليك فى التنافس حول السلطة ويخشى الناصر محمد أن يفتكوا به فيذهب إلى الحج ويعتزلهم فى الكرك جنوبى الأردن، ويرسل إليهم بكتاب يعلن فيه تنازله عن الحكم، ويتفق المماليك على تولية ركن الدين بيبرس سنة 708 ولا يدور العام حتى يعود الناصر محمد إلى سلطنته ويتولى الحكم فى مصر والشام للمرة الثالثة سنة 709. وكان المصريون يحبونه حبّا شديدا، وكان عهده عهد رخاء عظيم ويتضح فى كثرة المنشآت التى أسسها من مدارس ومساجد وخانقاهات. وبلغت الدولة فى عهده أوج مجدها، فقد قضى أبوه وأخوه، كما قدمنا، على الصليبيين نهائيا، ولم تبق منهم باقية، وانتصر هو على التتار فى ولايته الثانية على مصر انتصارا حاسما، وعقدوا معه صلحا سنة 719 ولم يعودوا يفكرون فى الغارة على الشام.
ويظل الناصر فى الحكم حتى سنة 741 ويخلفه أبناؤه وأحفاده حتى سنة 784 وتعود مصر
أو يعود الحكم فى مصر ثانية إلى ما حدث فى الدولة الفاطمية من عواقب وخيمة لأن يصبح الحكم وراثيا. ويكفى أن نعرف أن ثمانية من أبناء الناصر تولوا الحكم إحدى وعشرين سنة مما يعنى عدم الاستقرار، وكان منهم من يعيش للهو وسماع المغنيات مثل السلطان الصالح إسماعيل والسلطان شعبان، ومثل السلطان زين الدين، وكان فى الحادية عشرة من عمره، وفى نفس السن تولى أخوه السلطان حسن وفى عهده انتشر وباء الطاعون بالقاهرة. وتخلفه فترة يحكم فيها أحفاد الناصر لمدة عشرين عاما، وكثير منهم كان صبيّا، كما ذكرنا، فكان طبيعيّا أن يفسد الحكم فى عهدهم فسادا شديدا. وفى سنة 766 سوّلت لحاكم قبرص بطرس لوزيجنان شياطينه أن يغير على الإسكندرية، فأغار عليها لمدة ثلاثة أيام، ثم ولّى بمن معه هاربا حين علم باقتراب الجيش المملوكى.
وطبيعى وقد فسد حكم آل قلاوون فسادا لا صلاح له بعده، أن يحاول المماليك التخلص من هذا الحكم، وكانت مجموعة المماليك البرجية قد أخذت تظهر على مسرح الحوادث، وأخذوا يسيطرون على أداة الحكم منذ وفاة الناصر محمد بن قلاوون، وأخذ نجم برقوق من بينهم يعلو فى سماء مصر، ومازال يدبر للأمر هو وأعوانه حتى أطاحوا بأحفاد قلاوون وتسلم مقاليد الحكم سنة 784 وظل فى أيدى المماليك البرجية إلى نهاية الدولة المملوكية، وكان أديبا يهتم بمجالس الأدب والعلم، وخلفته طائفة من المماليك البرجية مثل شيخ وبرسباى وجقمق وقايتباى والغورى. وظل برقوق على رأس الدولة حتى توفى سنة 801 إلا ما كان من سنة واحدة أبعد فيها عن الحكم وهى سنة 791 وسرعان ما عاد إليه. وتكثر فى زمن هذه الدولة البرجية المنافسات بين الأمراء، كما يكثر فرض الضرائب على الشعب. ويهبّ بأخرة من حكم برقوق إعصار تتارى جديد، يقوده تيمورلنك، وينزل الإعصار بالعراق والموصل ويستصرخ الحكام هناك برقوق، ويشغل تيمورلنك بغزو الهند حينا، فيعلن أحمد بن أويس حاكم بغداد تبعيته لبرقوق رجاء أن يحميه من الطاغية المغولى، ويكتب له برقوق تقليدا أو مرسوما بنيابته عنه فى بغداد ويزوده بالمال والعتاد والرجال، ويعود تيمور سريعا ويستولى على بغداد. وفى هذه الأثناء يتوفى برقوق بينما يتجه تيمور بجيشه إلى الشمال يريد الاستيلاء على الشام، ويستولى على حماة وحمص وبعلبك، وكان مماليك برقوق قد ولوا عليهم ابنه فرجا، فخرج على رأس جيش للقائه ولكنه هزم بالقرب من دمشق سنة 802 ودخل تيمور دمشق وظل جنوده فيها مدة ينهبون ويسلبون ويأتون من الفظائع ما صوره ابن عربشاه فى كتابه عجائب المقدور فى نوائب تيمور، مما اضطر السلطان فرجا إلى قبول الصلح
معه، وبارح تيمور الشام سريعا إلى آسيا الصغرى وأنزل بالسلطان بايزيد العثمانى ضربة قاصمة، وعاد إلى بلاده. وسرعان ما توفى وتمزقت دولته بين ورثته، وكفى الله المماليك وديار مصر والشام شره وخطره.
ويحتدم التنافس بين أمراء المماليك البرجية ويستخلص الحكم لنفسه المؤيد شيخ سنة 815 وله عمائر كثيرة أشهرها جامعه المؤيدىّ، ويقال إنه لم يبن فى الإسلام أكثر زخرفة منه بعد الجامع الأموى بدمشق، وتوفى سنة 824. وبويع ابنه المظفر أحمد وله سنة واحدة وثمانية أشهر، فكان طبيعيا أن يستولى على الحكم بعض الأمراء، ويتولى سلطانان، ويخلفهما السلطان برسباى سنة 825 ومرّ بنا غزو حاكم قبرص بطرس لوزيجنان للإسكندرية سنة 766 وكان القبارصة كثيرا ما يتعرضون فى البحر المتوسط للسفن المصرية والشامية، فصمم برسباى على أخذ قبرص وأرسل لها ثلاث حملات، استطاعت ثالثتها أن تستولى عليها من جميع أنحائها، وعادت الحملة بغنائم وأسرى كثيرين وبحاكم قبرص مقيدا فى الأغلال، وقبّل الأرض بين يدى برسباى، وتعهّد أن تظل جزيرته موالية لمصر وأن يكون نائبا فيها للسلطان، وعاد إلى جزيرته عقب ذلك سنة 830 بعد أن دفع دية كبيرة وبعد أن التزم بأن يؤدى لمصر سنويا عشرين ألف دينار جزية. وخلف برسباى ابنه العزيز سنة 841 لمدة عام، ولم يلبث الأمير جقمق أن عزله، وتولى الحكم سنة 841 وحاول أن يكتسب مجدا حربيّا كمجد برسباى، فوجه ثلاث حملات إلى جزيرة رودس، ولكنها لم توفق جميعا إلى الاستيلاء عليها، ويتوفى سنة 857. وتكثر المنافسات والمنازعات بين أمراء المماليك البرجية. ويستخلص الحكم لنفسه قايتباى سنة 872 وكان سديد الرأى شجاعا ساهرا على دولته المترامية الأطراف، متنقلا فيها من القاهرة إلى مدن الفرات إلى مكة والمدينة، ويبدو أنه كان يعنف فى جمع الأموال والضرائب، وكان يهتم ببناء المدارس والمساجد وترميم المنشآت. وظل حاكما للدولة تسعة وعشرين عاما إذ توفى سنة 901. وخلفه أربعة سلاطين حكموا مددا قصيرة، واختار أمراء المماليك بعدهم قانصوه الغورى سنة 906، وهو من خيرة سلاطين المماليك البرجية، وكان شاعرا واشتهر بمجالسه الأدبية. وكان طاعنا فى السن، بينما كان يتراءى فى الأفق شبح عدوين كبيرين يهددان مصر والمماليك بالخطر الجسيم، أولهما خطر البرتغال واكتشاف فاسكودى جاما طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند منذ سنة 903 مما آذن بتحول زمام تجارة توابل الهند من أيدى المصريين إلى أيدى البرتغاليين، وضياع ما كانت تأخذه مصر من ضرائب ورسوم على هذه التجارة فى طريقها إلى أوربا وثغور البحر المتوسط. وأخذ البرتغاليون يناوشون
العرب فى جنوبى الجزيرة العربية، أو قل إن العرب هم الذين بدءوا بهذه المناوشات، ووقف الغورى معهم وانتصروا فى موقعة بحرية عليهم. غير أن البرتغاليين مضوا يعيدون الكرة، وهاجموا مدينة عدن ونزلوا فى بعض الجزر الواقعة بالقرب من باب المندب وأصبحوا يهددون مدينة عدن واليمن جميعها، فأرسل إليهم سريعا قانصوه الغورى نجدة طردت البرتغاليين من هذه الأنحاء، واستدارت تحتل اليمن حتى تظل مصر حارسة لها.
وتهدّد مصر خطر أكثر جسامة، فإن العثمانيين كانوا قد استولوا على القسطنطينية وأخذ نجمهم فى الصعود، وسمعوا بما أنزله إسماعيل الصفوى بأهل السنة فى بغداد من سفك لدمائهم وقسوة متناهية فأعلنه سليم الأول بالحرب وانتصر عليه فى سنة 914 واستولى منه على الجزيرة والموصل وديار بكر وأعاد سليم الكرة فهزم إسماعيل الصفوى سنة 920. وعرف أن قانصوه الغورى كان قد عقد معه حلفا، فصمم على منازلته ولم يكن ذلك غائبا عن قانصوه فجند جيشا كثيفا ومضى به إلى شمالى سوريا لرد العدوان، إن حدث، فى حينه، وأرسل إلى سليم يطلب إليه عقد معاهدة صلح بينهما فرد رسله ردا سيئا، ولم تلبث أن نشبت بينهما معركة مرج دابق شمالى حلب سنة 922 ودارت الدوائر على قانصوه وجيشه، وقتل وهو يلوذ بالفرار، ولم تكن تنقص جيش المماليك الشجاعة، إنما كان ينقصه سلاح مهم استخدمه العثمانيون فى المعركة هو سلاح المدفعية، فكان طبيعيّا أن تكون لهم الغلبة، وفتحت مدن الشام أبوابها لسليم، ودخل دمشق. ويبدو أنه كان يريد أن يدع للمماليك مصر ويكتفى بممتلكاتهم فى آسيا، فكاتب خليفة قانصوه فى مصر طومان باى يعرض عليه أن يترك مصر له وللمماليك على أن يعترفوا له بالسيادة، فيخطب له، وتضرب السكة باسمه. ولكن طومان باى أبى ذلك وأخذ يستعد لحربه، وأحسّ بتخاذل المماليك من حوله، بينما كان سليم يتقدم نحو مصر ودخل حدودها واتجه إلى القاهرة، والتقى بجيش طومان باى بالقرب من العباسية على أبواب القاهرة وأنزلت مدفعيته به هزيمة ساحقة، وفرّ طومان باى. ودخل سليم القاهرة فى اليوم التالى وكان أول يوم جمعة فى شهر المحرم لسنة 923 فدعى له فى الخطبة، وسلّم قصر طومان باى بعد قتال عنيف أما هو ففرّ إلى الصعيد ثم إلى الدلتا واشتبك مع العثمانيين فى بعض مناوشات خاسرة، ولم يلبث أن سلّم غدرا إليهم، فأمر السلطان بشنقه على باب زويلة.
وبذلك انتهى حكم المماليك لمصر وتقوضت دولتهم.