الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو الرباعيات. . ولم أسمع بها من شعرائها أحسن مما أنشدنيه لنفسه ابن أبى الإصبع:
قبّلت ثنايا كجمان العقد
…
منه وعدلت عن نضار الخدّ
نادى ماذا؟ فقلت: طبع عربى
…
يشتاق أقاح الروض دون الورد» (1)
ويسهم فى نظم الرباعيات أصحاب الشعر الصوفى وفى مقدمتهم ابن الفارض، وله رباعيات تفوح بوجد مبرّح من مثل قوله:
روحى لك يا زائر فى الليل فدا
…
يا مؤنس وحشتى إذا الليل هدا
إن كان فراقنا مع الصبح بدا
…
لا أسفر بعد ذاك صبح أبدا
فهو يبذل روحه لمحبوبه الربّانى مخلصا صادقا، ويتمنى أن يظل نوره يضئ دجاه وأن لا يسفر عليه صباح ولا تتفلت أضواؤه من الأفق إن كانت لحظات التجلى تنقطع مع النهار وأنواره.
وتظل الرّباعيات حية فى أيام العثمانيين، وكانت تستخدم أحيانا فى المديح النبوى كقول الشهاب الخفاجى صاحب ريحانة الألبّا (2):
ما جرّ لظلّ أحمد أذيال
…
فى الأرض كرامة كما قد قالوا
هذا عجب ويا له من عجب
…
والناس بظلّه جميعا قالوا
وهو يشير فى الرباعية إلى ما قيل من أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يقع ظله على الأرض لأنه نور روحانى، والنور لا ظل له. وفى البيتين تورية واضحة فى كلمة قالوا، فالأولى فى البيتين من القول والثانية من القيلولة بمعنى استظلوا ونعموا.
(ج) الموشحات
فى أثناء ظهور الرباعيات والمسمطات أخذ يظهر شكل جديد من أشكال المنظومات الشعرية الدورية هو الموشحات، ويذهب بعض الباحثين وخاصة من المستشرقين الإسبان إلى أنها فن أندلسى خالص نشأ من أغان إسبانية أعجمية. ويذهب باحثون آخرون من المستشرقين غير
(1) المغرب لابن سعيد (قسم القاهرة) ص 371 وفيه: نادانى.
(2)
ريحانة الألبا (نشر مكتبة الحلبى-تحقيق عبد الفتاح الحلو) 1/ 51
الإسبان إلى أنها فن تطور عن الشعر العربى المشرقى (1) وفى رأيى أنها فعلا تطورت عن شعرنا المشرقى وبالذات عن المسمطات والمخمسات، أليست تتكون من أدوار مثلها وغاية ما فى الأمر أن الشطر الأخير فى دور المسمط يتعدد مع اتحاده فى جميع الأدوار، فقد يصبح شطرين متقابلين أو عدة شطور، ويسمى قفلا. ويشهد لذلك نفوذ ديك الجن المتوفى سنة 235 إلى صنع منظومة موشحة (2)، وكأنما اطلع عليها بعده بعض شعراء الأندلس، وأخذوا فى محاكاتها واتسعوا فى هذه المحاكاة، بحيث أخذت الموشحة عندهم صورا كثيرة، حتى لقد ينظمونها من أوزان مهملة، بل حتى أصبحت كأنها محتكرة لهم، وكأنهم هم الذين صاغوها وأهدوها إلى الشعر العربى وشعرائه فى أقاليمه المختلفة. ومعروف أن الموشحة تتكون من أدوار أو أغصان كما أشرنا إلى ذلك، ومن شطور تسمى قفلا، ومن خرجة وتطلق على القفل الأخير. وتتحد شطور الأقفال دائما فى قوافيها المتقابلة فى الموشح كله، بينما تختلف قوافى الشطور فى الأغصان من غصن إلى غصن مثلها فى ذلك مثل أدوار المسمطات.
وقد أخذ شعراء المشرق العربى فى محاكاة نماذجها الأندلسية منذ القرن السادس الهجرى على الأقل، ومن أقدم صور هذه المحاكاة بمصر موشحة تقف بين النمط الأندلسى وبين المسمط المشرق المشرقى، وهى لعلى بن عيّاد الإسكندرى المتوفى سنة 526، فقد روى له العماد موشحة على هذا النمط (3):
يا من ألوذ بظلّه
…
فى كل خطب معضل
لازلت من أصحابه
…
متمسّكا بيد السلامه
آمنا من كل باس
…
فى الحوادث والصّروف
وتتردد قافية الشطرين الأخيرين مع كل شطرين يعقبان الأدوار التالية، وبذلك اتخذ منهما ابن عياد قفلا لموشحة على شاكلة الأندلسيين إذ يوحّدون قوافى الشطور فى الأقفال، بينما ينوعون فى قوافى الأدوار كما ينوع أصحاب المسمّطات. وعادة يبتدئ الوشّاح الأندلسى بالقفل ويتلوه بالدور، وقد يبتدئ بالدور ويتلوه بالقفل كما فى هذه الموشحة. ولظافر الحداد مواطن ابن عياد
(1) فن التوشيح للدكتور مصطفى عوض الكريم (طبع ونشر دار الثقافة-بيروت) ص 108 وما بعدها.
(2)
انظر فى هذه الموشحة المبكرة كتابنا العصر العباسى الأول ص 199 وقسم الشام من هذا الكتاب ص 614.
(3)
الخريدة للعماد (قسم شعراء مصر-طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر) 2/ 44
المتوفى سنة 529 موشحة طريفة يحتفظ بها ديوانه (1).
وكان طبيعيّا أن يتعرف المشارقة على الموشحات الأندلسية لكثرة الوافدين عليهم فى الإسكندرية والقاهرة من الأندلس، إما للحج وإما لطلب العلم فكانوا ينشدونهم موشحات مختلفة، وممن لا نشك فى أنه كان يكثر من إنشادها للمصريين: إسكندريين وقاهريين أبو الصلت أمية بن عبد العزيز، وفيه يقول ابن سعيد:«كان منشئا للمنثور والمنظوم» وأقام بمصر عشرين سنة، وصنّف فى الألحان وعنه أخذها أهل إفريقية (2)، ولا بد أنها كانت مصحوبة بموشحات أنشدها لهم، وقد توفى سنة 529. ونزل مصر اليسع بن عيسى بن اليسع بعده فى عهد صلاح الدين وألف باسمه كتابه المغرب فى أخبار محاسن المغرب (3)، ولا بد أن يكون قد ضمنه بعض الموشحات. ونزلها أيضا حكيم الزمان عبد المنعم الجليانى الأندلسى (4)، ومدح صلاح الدين الأيوبى مدائح كثيرة، وكان له عشرة دواوين ثامنها يشتمل على موشحاته. ومرّ بنا ذكر معجم السلفى محدث الإسكندرية وقد سجّل فيه لبعض من تتلمذوا عليه من الأندلسيين بعض ما أنشدوه من الموشحات الأندلسية.
وهذه كلها إنما هى إشارات قاصرة إلى ما حدث فى القرن السادس الهجرى بمصر من انتشار الموشحات بها انتشارا هيأ لظهور وشاح كبير فيها هو ابن سناء الملك المولود سنة 550 ويحدثنا العماد الأصبهانى عن لقائه به سنة 571 ويشيد بشاعريته وينشد موشحة مبكرة له (5). وكأنما اختارت المقادير ابن سناء الملك لا ليكون وشاحا مصريا ممتازا، بل لما هو أبعد من ذلك: ليضع عروض الموشحات ونظامها كما وضع الخليل بن أحمد عروض الشعر العربى ونظامه، على نحو ما يوضح ذلك كتابه النفيس:«دار الطراز» الذى ألفه فى عهد السلطان الأفضل (6) بن صلاح الدين (595 - 596 هـ) وقد استهله بمبحث واسع فى الموشحات وأقفالها وعدد شطورها وأنها تتردد فى الموشح ست مرات فى التام وخمس مرات فى الأقرع (7) وقد تصل الأقفال إلى أحد عشر جزءا (8).
ويقول عن الخرجة، وهى القفل الأخير فى الموشحة، هى «أبراز الموشح وملحه وسكّره
(1) ديوان ظافر الحداد ابن الإسكندرية (طبع مكتبة مصر) ص 337.
(2)
المغرب (القسم الأندلسى-طبع دار المعارف) 1/ 261 وما بعدها.
(3)
نفس المصدر 2/ 88.
(4)
فوات الوفيات 2/ 35 وطبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة ص 630.
(5)
الخريدة (قسم شعراء مصر) 1/ 67 وما بعدها.
(6)
راجع مجلة الثقافة العدد 628 سنة 1951.
(7)
دار الطراز فى عمل الموشحات لابن سناء الملك تحقيق الدكتور جودة الركابى (طبع دمشق) ص 26.
(8)
انظر دار الطراز ص 97.
ومسكه وعنبره» ويقول إنه ينبغى أن يسبق إليها خاطر الوشاح قبل أن يتقيد بوزن وقافية معينة (1)، ويقول أيضا إن اللحن يستحسن فيها كما يستحسن أن تكون ما جنة. ويلاحظ أن الموشحات من حيث الوزن قسمان: قسم يجرى على أوزان العرب وأشعارهم، وقسم لا وزن له (2)، إنما يزنه الإيقاع. والقسم الأول هو الأكثر وهو الذى دار على ألسنة العلماء والشعراء.
واختار ابن سناء الملك فى كتابه للأندلسيين أربعا وثلاثين موشحة، واختار لنفسه خمسا وثلاثين، وله وراءها موشحات كثيرة إذ أنشد له أحمد السخاوى فى كتابه:«سجع الورق المنتحبة فى جمع الموشحات المنتخبة» أربعا وثمانين موشحة سوى ما أنشده النواجى فى كتابه:
«عقود اللآل فى الموشحات والأزجال» .
ومعروف مدى ما وفره الوشاحون الأندلسيون لموشحاتهم من جمال الجرس والإيقاع متخذين لذلك وسيلتين مهمتين هما صفاء الألفاظ وعذوبتها ورشاقتها، وقصر الشطور، حتى تصبح نغما خالصا يلذّ الأسماع والقلوب، وعرف ابن سناء الملك كيف يمتلك هاتين الوسيلتين، فإذا موشحاته لا تقل روعة موسيقية عن موشحات الأندلسيين من مثل قوله فى مطلع موشحة رواها ابن سعيد (3):
البدر يحكيك
…
لولا تثنّيك
وأنت جنّة (4)
…
الصديق
لولا تجنّيك
لم يلق نعمى ونعيم
…
من لم يلاقك
حمّلتنى كلّ عظيم
…
يوم فراقك
وإن لى ذنبا قديم
…
على عناقك
بالضّمّ أجنيك
…
للصّدر أدنيك
لأن لى قلبا رقيق (5)
…
عساء يعديك
والكلمات تطير بخفة عن الفم لحلاوة جرسها وعذوبتها فى النطق والسمع وجمال وقعها فى النفوس والأفئدة، وموشحاته فى دار الطراز أنغام حلوة وصور بديعة، على نمط هذا الدور أو الغصن فى إحدى موشحاته:
وجهك يا أحسن البريّة
…
قد جمع الملح والملاحه
(1) دار الطراز ص 32
(2)
دار الطراز ص 33
(3)
المغرب (قسم القاهرة) ص 369
(4)
جنّة: وقاية
(5)
فى الأصل رقيقا