الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ممن دخل تحت قوله تعالى {(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ)} لقد تعدّيت حدّك، وطلبت ما لم تبلغ به جهدك، هيهات أنا المنتصب لمصالح الدول وأنت فى الغمد طريح، والمتعب فى تمهيدها وأنت غافل مستريح. . أين بطشك من حلمى، وجهلك من علمى. . وأين نذير الأعداء من رسول الأحباب».
ويرد عليه السيف مغيظا محنقا، ويكيل له الكيل كيلين. . ويشعر القلم أخيرا بفضل السيف، ويميلان إلى الصلح معترفين بأنهما للملك كاليدين وفى آفاقه كالقمرين. وهى مقامة أو قل مناظرة بديعة دبّجت بأسلوب يتدفق بالسلاسة وخفة السجع ولطف مآخذه ودقة معانيه. وابن نباتة فى نثره مثل شعره يمتاز بالصفاء مع الرصانة والرونق وجمال اللفظ وحسن اختياره. ولابن مكانس الذى ترجمنا له بين كتاب الرسائل الشخصية مقامة فى ديوانه المخطوط بدار الكتب المصرية بناها على الفكاهة والمجون إذ أدارها على الشراب. وقد جعلها حوارا بين عشرات من الأشخاص يمثلون ما كان بالقاهرة لزمنه من المهن والصناعات.
وتظل المقامات حية فى الفترة العثمانية، وينحو بعضها نحو الفكاهة والمجون والدعابة أو نحو الهجاء كما سترى عند الشهاب الخفاجى، وسنخصه بكلمة، وكثير منها يتخذ المديح موضوعا له، من ذلك مقامتان (1) لمصطفى اللقيمى الدمياطى المتوفى سنة 1171 مدح بهما الأمير العثمانى رضوان كتخدا، وإحداهما طويلة وتكثر فيها مقطوعات الشعر ونقرأ بها قصيدتين ومزدوجة فى مديح الأمير. ولحسن شمّه مقامة (2) فى مديح الشيخ محمد بن سالم الحفناوى الشافعى الخلوتى ضمّنها سائر الفنون الشعرية من النسيب والموشح والدوبيت والزجل والكان وكان والقوما والمواليا مع العناية بالسجع فى نثرها وحشد محسنات البديع، وجدير بنا أن نترجم لبعض أصحاب المقامات والمفاخرات.
ابن (3) أبى حجلة
هو شهاب الدين أحمد بن يحيى بن أبى بكر بن عبد الواحد أبى حجلة التلمسانى الأصل. ولد بزاوية جدّه أبى حجلة بتلمسان سنة 725 ورحل فى بواكير حياته إلى الحج ودخل دمشق، ثم
(1) تاريخ الجبرتى 1/ 221 وما بعدها
(2)
تاريخ الجبرتى 1/ 290
(3)
انظر فى
ابن أبى حجلة
الدرر الكامنة لابن حجر (نشر دار الكتب الحديثة) 1/ 350 والنجوم الزاهرة لابن تغرى بردى 11/ 131 وحسن المحاضرة 1/ 571 وشذرات الذهب لابن العماد 6/ 240 وصبح الاعشى 14/ 276. والحجلة: طائر فى حجم الحمام أحمر الرجلين والمنقار.
استوطن مصر، وأولع بالأدب حتى مهر فيه، واعتنق المذهب الحنفى مع ميله إلى المذهب الحنبلى. ولم يلبث بمصر أن أصبح شاعرا بارعا فاضلا وكاتبا ناثرا، وولى مشيخة الصوفية بخانقاه منجك اليوسفى بظاهر القاهرة. وكان يكثر الإزراء على أهل الوحدة من الصوفية، كما كان يحمل على ابن الفارض وامتحن بسببه. وعارض جميع قصائده بقصائد نبوية. ومازال يتولى خانقاه منجك حتى توفى سنة 776 للهجرة. ويقول ابن تغرى بردى: له مصنفات كثيرة تبلغ ستين مصنفا، وأكثرها كتب أدبية ومن أشهرها:«سكر دان السلطان» و «ديوان الصبابة» وهما مطبوعان.
ومعنى سبكردان إناء السكر وقد أهداه بعد سنة 755 إلى سلطان مصر المملوكى السلطان حسن ابن محمد الناصر بن قلاوون، وهو يدور فى معظمه حول العدد 7 وأهميته فى تاريخ مصر وأحداثها. وقد جعله فى مقدمة وسبعة أبواب، ويذكر فى الباب الأول خاصية العدد:7.
ويتحدث فى الباب الثانى عن السلطان حسن وأنه سابع السلاطين فى أسرته. ويعرض فى الباب الثالث لإقليم مصر وصلة العدد سبعة به. ويعود فى الباب الرابع إلى السلطان حسن مع أحاديث قصيرة عمن تقدمه من ملوك مصر. ويخص الباب الخامس بأسرة السلطان حسن وجده قلاوون ويمتد به الحديث عن الأسرة فى البابين السادس والسابع. ويتبع ابن أبى حجلة هذه الأبواب بأبواب سبعة أخرى، يتناول فى أولها قصة يوسف وتفسير سورته. ويجعل الثانى لقصة موسى وفرعون، والثالث لملوك مصر وبعض أخبارهم، والرابع لسيرة الحاكم الفاطمى، والخامس لبعض الأحداث بمصر، والسادس لأحداث القاهرة، والسابع للزهرات السبع. ومما ذكره عن الحاكم الفاطمى، أنه لبس الصوف سبع سنين وأمر بإيقاد الشمع ليلا ونهارا مدة سبع سنين ومنع النساء من الخروج سبع سنين وسبعة أشهر، وكان يقرأ نسبه على المنبر كل جمعة أو كل سبعة أيام، وقتل وهو يلبس سبع جبّات بعضها فوق بعض. ولا ريب فى أنه بالغ فى ربط الأحداث التاريخية بالعدد 7، ومع ذلك فالكتاب يشتمل على أخبار تاريخية كثيرة، تجعل له من حيث التاريخ لا من حيث العدد 7 غير قليل من الأهمية.
وكتاب ديوان الصبابة-كما يتضح من عنوانه-يتناول العشق وكل ما يتصل به من الوصف المادى للمرأة ومن الزيارة والعتاب واللقاء والهجران والاستعطاف وإفشاء السر والكتمان والغيرة ومن أحب من أول نظرة وأشهر العشاق، وهو فى ثلاثين بابا ويزخر بالمختارات الشعرية والنثرية فى الحب والصبابة. ووضع بين يدى أبوابه عن العشق أسبابه وعلاماته، ويذكر طائفة من أحاديث
الأدباء والفلاسفة عنه. ويختمه بذكر من مات بسبب عشقه. والكتاب كسابقه طريف فى بابه.
وربما كان أهم من الكتابين السابقين لابن أبى حجلة مقاماته، وكانت مشتهرة فى زمنه، ويقول ابن حجر:«أنشأ مقامات أجاد فيها» . ويعرض القلقشندى لإحدى مقاماته وهى المقامة الزعفرانية الخاصة بفيضان النيل ووفائه، ويقتبس منها نحو خمس صفحات كبيرة مقدما لها بقوله عنه، «الأديب الذى كان حجة العرب، والناثر الذى كان بنسبته إلى الطيور (1) محرّك المناطق وإلى الشعر صنّاجة الأدب» ويستمر فى الثناء عليه حتى يقول: من مقامته الزعفرانية عن أبى الرّياش، وكأن ابن أبى حجلة سمّى راويها أبا الرياش، ومن قوله فيها:
«إن النيل تزايد دفعه فقد امتزج بالمعصرات ثجّاجه (2)، وأعيى طبيب الغيطان (3) علاجه:
وشرق حتى ليس للشّرق مشرق
…
وغرب حتى ليس للغرب مغرب
قلت: فما فعل النّغير (4)، بجزيرة الطّير؟ قال: لم يبق بها هاتف يبشّر بالصباح، ولا ساع يسعى برجل (ولا طائر يطير) بجناح، إلا اتخذ (نفقا فى الأرض أو سلّما فى السماء) أو آوى (إلى جبل يعصمه من الماء) فأذاق بها الحمام الحمام (5) فى المروج، وترك أرضها كسماء مالها من فروج، وتلا على الحمام:(أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم فى بروج) وكم فى سماء مائها من نسر واقع، وبومة تصفّر على ديارها البلاقع (6):
ومنهل فيه الغراب ميت
…
سقيت منه القوم واستقيت
قلت: فمصر؟ قال: زحف عليها بعسكره الجرار، ونفط مائه الطيّار، قلت فالجيزة؟ قال، طغى الماء حتى علا على قناطرها وتجسّر، ووقع بها القصب من قامته حين علا عليه الماء وتكسّر، فأصبح بعد اخضرار بزّته (7) شاحب الإهاب، ناصل الخضاب، غارقا فى قعر بحر (يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب) وقطع طريق زاويتها على من بها من المنقطعين والفقراء، وترك الطّالح كالالح يمشى على الماء (فتنادوا مصبحين):(أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين)
(1) يشير إلى كنية جده أبى حجلة كما يشير بتحريك المناطق إلى كتاب له سماه منطق الطير.
(2)
المعصرات: السحاب الممطر تعتصره الريح. تجاجه: سيله أو سيوله المتدافعة. يبالغ فى عتوه حتى صافح السحب.
(3)
الغيطان: الحقول
(4)
النغير: طائر صغير كالعصفور
(5)
الحمام: الموت. والجناس بينه وبين الحمام واضح
(6)
البلاقع: الخالية
(7)
بزّته: شارته وثوبه.
وأدركهم الغرق فأيسوا (1) من الخلاص (فغشيهم من اليمّ ما غشيهم)(ولات حين مناص (2)) و (خرّ عليهم السّقف من فوقهم) فهدّت قواهم، واستغاثوا من كثرة الماء بالذين آمنوا وعملوا الصالحات (وقليل ما هم) قلت: فالروضة؟ قال: أحاط بها إحاطة الكمام (3) بزهره، والكأس بحباب (4) خمره:
فكأنها فيه بساط أخضر
…
وكأنه فيها طراز مذهب (5)
فلم يكن لها بدفع أصابعه يدان، وكم أنشد مرجها حين (مرج (6) البحرين يلتقيان):
أعينىّ كفّا عن فؤادى فإنه
…
من البغى سعى اثنين فى قتل واحد (7)
قلت: فدار (8) النّحاس؟ قال: أنحس حالها، وأفسد ما عليها ومالها، فدخل من حمّامها الطّهر، وقطع الطريق بالجامع الظّهر، فألحق مجاز بابه بالحقيقة، ورقى منه على درجتين فى دقيقة. . قلت فجزيرة أروى؟ قال: قد أفسد جلّ ثمارها، وأتى على مغانيها (9) فلم يدع شيئا من رديّها وخيارها، أخلق ديباجة روضها الأنف (10)، وترك قلقاسها فى الجروف (11) على شفا جرف (12):
بعينى رأيت الماء يوما وقد جرى
…
على رأسه من شاهق فتكسّرا
طالما تضرّع بأصابعه إلى ربّه، ولطم برءوسه الحيطان مما جرى من الماء على قلبه، وتمثّل بقول الأول:
وإن سألوك عن قلبى وما قاسى
…
فقل قاسى وقل قاسى وقل قاسى
لم يفده تحصّنه من ورقه بالدّرق (13) والستائر، ولا حنّ عليه حين تضرّع بأصابعه فصحّ أن
(1) أيسوا: يئسوا
(2)
مناص: ملجأ ومفرّ
(3)
الكمام: جمع كم بكسر الكاف: غلاف الزهرة قبل أن تتفتح
(4)
الحباب: الفقاقيع على وجه الكأس
(5)
جعل لون النيل مذهبا إشارة إلى ما كان يصحبه فى فيضانه من الطمى
(6)
مرج البحرين: أرسلهما فى مجرييهما متجاوزين
(7)
يشير إلى أن البحرين يأخذان بخناق جزيرة الروضة حتى تكاد تلفظ أنفاسها
(8)
تسمى الآن دير النحاس وهى أمام النيل بمصر القديمة
(9)
مغانيها: منازلها.
(10)
الأنف: الجديد
(11)
الجروف: شقوق المحراث ومجاريه
(12)
شفا جرف: شفا: حرف: جرف: المكان يجرفه الماء
(13)
الدرق: جمع درقة: الترس
الماء سلطان جائر».
وهو وصف رائع لفيضان النيل وعلو أمواجه، كأنما يريد أن يبلغ عنان السماء، وحلّقت الطير فى أعلى عليين فرقا منه واعتصم الناس بالكثبان والجبال. ويصف ابن أبى حجلة زحفه على الفسطاط أو كما يسميها مصر وطغيانه على الجيزة حتى علا قناطرها وجرّد القصب من بزّته، وطما عليه حتى غرق فى قاعه، وقطع طريق الزاوية أو خانقاه الصوفية وأدركهم جميعا الغرق فى عبابه، وخرّ عليهم السّقف من فوقهم، ولا ملجأ ولا مناص، وأحاط بجزيرة الروضة إحاطة السوار بالمعصم، ولم تستطع دفع أصابعه التى يقاس بها عادة طوفان فيضانه، ولا ردّ مجرييه أو كما يسميهما ابن أبى حجلة بحريه من حولها آخذين بخناقها، كأنما يريدان أن تصبح خاوية على عروشها. ويصف دار النحاس وما أصابها وأصاب جامعها من مياهه المتدفقة، ويصف ما أنزله بجزيرة أروى ومغانيها وكيف عمّ ما بها من الخضراوات مثل «القلقاس» وقد تكسر، وهو يتضرع بأصابعه إلى ربه إذ أصبح عاليه سافله. وتنبت فوقه فروع ذات ورق عريض، ويتصورها ابن أبى حجلة ستائر له ودرقا أو تروسا غير أنها لم تفده إزاء أمواج النيل وطوفانه.
ويمضى ابن أبى حجلة فيصور ما أصاب بولاق وغير بولاق من النيل فى هذه اللغة العذبة التى عرف كيف يصب فيها وصفه للنيل وفيضانه. وهو يكسوها بألوان البديع من جناس وغير جناس، ولا نحس أى كلفة. وقدرته على بث التصاوير فى لغته واضحة، وهى تصاوير رسمها مصور ماهر. ومن تتمة براعته الأدبية قدرته على اقتباس الأشعار فى موضعها الملائم، وأهم من ذلك قدرته على اقتباس الآيات والكلم القرآنية، فتزيد لغته عذوبة ونصاعة، وهو تارة يأتى بالآيات تامة، وتارة يأتى بكلم منها. ويكثر ذلك فى المقامة، وقد وضعنا الآيات بين قوسين هلاليين تمييزا لها. وقد تمثل فى القلقاس ببيت يحمل شطره الثانى جناسا طريفا مع اسمه. وفى المقامة روح الدعابة والفكاهة المصرية، وكأنه تشربها فى استيطانه بمصر حتى الثمالة. والتورية عنده واضحة فى قوله عن النيل بدار النحاس:«قطع الطريق بالجامع الظهر فألحق مجاز بابه بالحقيقة» ولكلمة مجاز معنيان: معنى قريب وهو ما يخالف الحقيقة بدليل اقترانها به، ومعنى بعيد وهو المعبر الى الجامع. وهو لا يريد المعنى القريب للقلب أى قلب الإنسان مما قد يفهم مع ظاهر استعارته، وإنما يريد ما حدث للقلقاس من القلب فأصبح أسفله أعلاه، وهى تورية بديعة.
ولعل فيما قدمت ما يصور براعة ابن أبى حجلة الأدبية.