الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة
تحدثت فى هذا الجزء عن تاريخ الأدب العربى بمصر فى عصر الدول والإمارات، ورأيت أن أضم إلى العصر ما سبقه بها منذ الفتح العربى من مختلف شئونها التاريخية والأدبية والعلمية على مر الأزمنة الإسلامية، وأوضحت كيف أن قبط مصر رحّبوا بالعرب لما كفلوا لهم من معتقداتهم الدينية وما رفعوا عنهم من ظلم الروم وضرائبهم الفادحة. وتولى أمرها فاتحها العظيم عمرو بن العاص، وتعاقب الولاة عليها فى زمن الأمويين وأخذوا يفرضون على أهلها ضرائب استثنائية، وأمر الخليفة الأموى عمر بن عبد العزيز برفعها عن كواهلهم.
وتتحول الخلافة إلى العباسيين ويرسلون إلى مصر بولاتهم حتى إذا انتصف القرن الثالث وليها أحمد بن طولون وأسس بها الدولة الطولونية، واستشعرت مصر فى عهدها استقلالها، وبالمثل فى عهد الدولة الإخشيدية. وما يكاد ينتصف القرن الرابع حتى تتولاها الدولة الفاطمية الإسماعيلية، ويظل المصريون منصرفين عنها وعن مبادئها الشيعية المتطرفة، وتضعف دولتهم وينزل الصليبيون الشام، ويؤسسون دولة لهم فى بيت المقدس. ويدور الزمن دورات وتسقط الدولة الفاطمية، ويتولى مصر صلاح الدين الأيوبى، وينازل حملة الصليب ويسحق جموعهم سحقا فى حطّين وغير حطين، ويسير سيرته خلفاؤه من حكام الدولة الأيوبية فى ضربهم الضربات الماحقة، ويخلفهم المماليك فيسحقون جموع المغول فى عين جالوت سحقا ذريعا، ويطردون حملة الصليب نهائيا من الشام إلى البحر المتوسط وما وراءه.
ويستولى العثمانيون على مصر لمدة ثلاثة قرون وتصبح بعد أن كانت دولة عظيمة ولاية تابعة للدولة العثمانية.
وقد أتاحت الزروع والبساتين على ضفاف النيل رخاء واسعا لسكّان مصر من قديم.
وأعطى هذا الرخاء لحكامها منذ ابن طولون الفرصة واسعة لبناء البيمارستانات والجوامع الكبيرة والقصور الفخمة. وأتاح ثراؤها الضخم للدولة الفاطمية حياة مترفة بالغة الترف كما أتاح لصلاح الدين أن يعدّ جيشه بل جيوشه لضرب حملة الصليب ضربات قاصمة، وأيضا فإنه بنى بالقاهرة قلعته المشهورة ومارستانا كبيرا سوى ما شيّد من المدارس. وتزدهر الحياة
بمصر لعهد المماليك وتتكاثر الأعياد بها تكاثرا واسعا وتتسع موجات الغناء وفنون اللهو والتسلية، وارتقى حينئذ خيال الظل وأصبح مسرحا شعبيا عاما. وألممت بعد عرض المجتمع فى مصر للدعوة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية وانصراف المصريين عنها، كما ألممت بالزهد وما كان بمصر من جماعات النساك وكيف أسس ذو النون المصرى التصوف الإسلامى ومبادءه الروحية وما يتصل به من الأحوال والمقامات، ويزدهر التصوف منذ زمن الدولة الأيوبية، ويتضح فيه اتجاهان: اتجاه فلسفى يمثله ابن الفارض واتجاه سنّى شعبى تمثله الطرق الصوفية، ومن أهمها الطريقة الشاذلية التى أسسها أبو الحسن الشاذلى، وقد تعددت فروعها لعهد المماليك تعددا واسعا، حتى بلغت أحد عشر فرعا، ومن أهمها الطريقتان:
الوفائية والخلوتية.
ومعروف أن مصر أدّت دورا عالميا عظيما فى تاريخ الحضارة الإنسانية، ولا تزال أهراماتها الشامخة تمثل هذا الدور تمثيلا باهرا، ويدين لها العلم بمعناه العالمى دينا كبيرا بما أدت له فى الهندسة والمعمار والطب والرياضة، وتظل جذوتها العلمية متقدة مهما اقتحم أسوارها من الجيوش المغيرة، على نحو ما هو معروف عنها فى عهد البطالمة إذ لم تلبث فى أيامهم أن استعادت نشاطها وأخذت ترسل أضواءها فى الفلسفة وغير الفلسفة. وما إن يمضى على دخولها فى الإسلام نحو قرن ونصف حتى تعود روحها العلمية إلى النشاط وإرسال أضوائها وشررها إلى العالم العربى، على نحو ما هو معروف عن ابنها ورش وحمل المغاربة والأندلسيين قراءته إلى أوطانهم، ولا تزال القراءة الشائعة فى المغرب إلى اليوم، وما يلبث الأندلسيون والمغاربة أن يتتلمذوا لعبد الرحمن بن القاسم تلميذ مالك، ويحملون عنه المذهب المالكى فى الفقه. وينزل مصر الإمام الشافعى ويعنى تلامذته المصريون بمذهبه الفقهى والمحاضرة فيه، ويأخذه عنهم تلامذة من الشام والعراق وإيران وينشرونه فى بلدانهم. ويكتب مؤرخها ابن عبد الحكم-لأول مرة-تاريخ الفتوح بمصر والمغرب، ويحمله عنه المغاربة وأهل الأندلس كما يكتب مؤرخها ابن هشام السيرة النبوية العطرة، ويحملها. المؤرخون لها فى العالم العربى جميعه مغربا وغير مغرب.
ويعنى حكام مصر-منذ عهد ابن طولون-بالحركة العلمية وإنمائها ويؤسس فيها الفاطميون جامعة كبرى تسمى: «دار العلم» كما يبنون الجامع الأزهر ويظل جامعة إسلامية
كبرى إلى اليوم، وينشئ بها صلاح الدين الأيوبى خمس مدارس، ويتبارى خلفاؤه الأيوبيون والمماليك فى إنشاء المدارس بها والإكثار منها حتى ليقول ابن بطوطة الذى زار مصر سنة 726 إن أحدا لا يستطيع أن يحيط بحصرها لكثرتها، وكانت المساجد والجوامع -وخاصة الجامع الأزهر-تنافس المدارس فى هذه الحركة العلمية، وكانت مصر قد ظلت ملاذا لعلماء العالم العربى غربا وشرقا، وخاصة بعد استيلاء النورمان على صقلية والإسبان على مدن الأندلس وبعد غزو المغول لمدن إيران والعراق، وأيضا فإنها أصبحت الحامية للثقافة الإسلامية والعربية. وفى كل مجال يلقانا علماؤها فى الفلسفة وعلوم الأوائل من الرياضيات والطبيعيات والطب والجغرافيا، وينهض فيها العلماء باللغة والنحو منذ أوائل القرن الرابع الهجرى وتصبح لها مدرسة نحوية يلمع فيها غير نحوى كبير منذ الدولة الأيوبية، ويكثر فيها علماء البلاغة والنقد منذ ابن وكيع التنيسى فى القرن الرابع الهجرى، ويتكاثر بها علماء القراءات والتفسير والحديث النبوى والفقه بمختلف مذاهبه الكبرى وعلم الكلام، ويؤرّخ لكل علمائها الأعلام فى العلوم جميعا تأريخا دقيقا. وتنشط الكتابات التاريخية نشاطا واسعا فى السيرة النبوية العطرة والتاريخ العام وتاريخ مصر ودولها وتاريخ المدن وخاصة القاهرة والإسكندرية وتاريخ الرجال والعلماء من كل صنف وتاريخ الشعراء والأدباء.
وتأخذ مصر فى التعرب منذ الفتح الإسلامى، ويدخل كثير من أبنائها فى الدين الحنيف، وحتى القبط أو-بعبارة أدق-جميع من بقى منهم على دينه المسيحى يأخذون فى التعرب ويتم تعربهم فى القرن الثالث الهجرى. ويتصل نشاط الشعر فى مصر، ويظل محدودا زمن بنى أمية، وزارها فى أيامهم بعض الشعراء من نجد والحجاز والعراق، ويتسع نشاط الشعر بمصر فى زمن ولاة العباسيين أو يأخذ فى النشاط، ويصبح لها شعراء نابهون مثل المعلّى الطائى، وينزلها أبو نواس لمديح الخصيب والى الخراج فيها، كما ينزلها أبو تمام لمديح ولاتها ويظل بها فترة. ومن شعرائها فى النصف الأول من القرن الثالث ذو النون المصرى الإخميمى مؤسس التصوف، ويشتهر بها فى بواكير أيام الدولة الطولونية الجمل الأكبر الحسين بن عبد السلام. ويبدو أن الشعراء تكاثروا فى عهد هذه الدولة، يدل على ذلك أنها حين انتهت فى أواخر القرن الثالث بكاها منهم كثيرون حتى ليقول المقريزى إنه رأى كتابا به اثنتا عشرة كراسة بأسماء الشعراء الذين بكوها، ويعلق على ذلك قائلا: إذا كانت أسماء الشعراء فى اثنتى عشرة كراسة فما مقدار شعرهم؟ ثم يقول إنه لا يوجد لأحدهم الآن ديوان واحد،
ومما يؤكد بوضوح ما كان بمصر من حركة شعرية خصبة أن نجد الصولى المتوفى سنة 335 للهجرة يؤلف كتابا فى أخبار شعراء مصر.
وينزلها قبيل منتصف القرن الرابع المتنبى ويحدث نزوله بها حركة أدبية واسعة، ويظل الشعر بها نشيطا فى عهد الفاطميين، ويدل على ذلك من بعض الوجوه ما يروى من أنه لما توفى ابن كلّس وزير المعز وابنه العزيز رثاه مائة شاعر. وينثر الخلفاء الفاطميون ووزراؤهم العطايا والأموال على الشعراء، مما جعلهم يلهجون بالثناء عليهم، ويؤلف بأخرة من العصر الفاطمى الرشيد بن الزبير كتابا فى شعراء مصر سماه:«جنان الجنان ورياض الأذهان» سقط من يد الزمن، ويخص شعراءها فى القرن السادس الهجرى العماد الأصبهانى وزير صلاح الدين الأيوبى بمجلدين فى كتابه الخريدة، ترجم فيهما لنحو مائة وأربعين شاعرا، ويفد عليها فى أواخر أيام الدولة الأيوبية على بن سعيد الأندلسى صاحب كتاب المغرب ويخصها هى وشعراءها وكتّابها وحكّامها ووزراءها وقضاتها بستة مجلدات من كتابه ضاع أكثرها، وبقى منها القسمان الخاصان بالفسطاط والقاهرة، وحقّقا ونشرا. وتظل كتب التراجم فى عصر المماليك تترجم لكثيرين من الشعراء النابهين بمصر. وتألّقت حينئذ أسماء كثيرين منهم ونشرت دواوينهم كما نشرت طائفة من دواوين الشعراء فى العهدين الفاطمى والأيوبى.
وبقيت من هذا النشاط بقية أيام العثمانيين مما جعل شهاب الدين الخفاجى فى القرن الحادى عشر الهجرى يؤلف كتابا فى شعراء زمانه سماه: «ريحانة الألبا» خص مصر بالقسم الثالث منه، ونلتقى بتراجم كثيرين منهم بعد الخفاجى فى كتب التراجم والتاريخ وخاصة تاريخ الجبرتى.
ويكثر الشعر الدورى بمصر وتكثر مزدوجاته ومسمّطاته ورباعياته. وتكثر الموشحات وكان شعراء مصر قد أخذوا يتعرفون عليها فى أواخر أيام الدولة الفاطمية، ويتصدى لها الشاعر ابن سناء الملك فى أيام صلاح الدين والدولة الأيوبية فيضع لها عروضها كما وضع الخليل بن أحمد قديما عروض الشعر العربى على نحو ما يوضح ذلك كتابه النفيس:«دار الطراز» . وقد ألحق بدراسته له فى الكتاب أربعا وثلاثين موشحة بديعة لكبار الوشاحين الأندلسيين، وأتبعها بخمس وثلاثين موشحة له، وبذلك أعدّ هذا الفن الأندلسى للذيوع والانتشار، فأقبل عليه شعراء مصريون وغير مصريين ينظمون فيه موشحات لهم رائعة،
ونفس ابن سناء الملك مضى ينظم فيه عشرات جديدة من الموشحات حتى لنجد السخاوى فى كتابه «سجح الورق المنتحبة فى جمع الموشحات المنتخبة» ينشد له أربعا وثمانين موشحة.
وترجمت لوشّاحين مصريين كبيرين هما العزازى وابن الوكيل. وشاعت الموشحات بمصر على ألسنة المتصوفة فى أذكارهم، ولعلى بن وفا شيخ الطريقة الوفائية فى أواخر القرن الثامن الهجرى وأوائل التاسع ديوان جميعه موشحات صوفية. ويكثر القاضى الفاضل وزير صلاح الدين فى شعره من المحسنات البديعية، ويصبح له فى طريقة استخدامه لها وفى إكثاره من التورية مدرسة يتكاثر أتباعها فى أيام الدولتين الأيوبية والمملوكية بمصر والشام.
ويكثر شعر المديح، ويظل يجرى على الألسنة زمن الولاة أيام الدولتين الأموية والعباسية، حتى إذا أظل مصر عهد الدولة الطولونية تبارى الشعراء فى مديح أحمد بن طولون وفى مقدمتهم الجمل الأكبر الحسين بن عبد السلام الذى مر ذكره آنفا، ومن شعراء تلك الدولة المريمى القاسم بن يحيى شاعر خمارويه. ويشتهر بعده فى زمن الإخشيد سعيد بن فاخر شاعره، ويترجم الثعالبى فى اليتيمة لكثيرين من شعراء الدولة الإخشيدية، وخاصة من التفوا حول المتنبى حين مقامه فى القاهرة مادحا لكافور، ويكثر المديح كثرة مفرطة منذ القرن السادس الهجرى ويكثر شعراؤه النابهون، وقد ترجمت لخمسة منهم عارضا روائع مدائحهم، وهم المهذب بن الزهير شاعر طلائع بن رزيك الوزير بأخرة من الدولة الفاطمية، وقد نوه طويلا ببعض انتصاراته على حملة الصليب، وابن قلاقس الشاعر الاسكندرى المادح لشاور الوزير الفاطمى والمهاجر بشعره إلى صقلية واليمن مادحا رجالاتهما مدحا رائعا، والشاعر المبدع ابن سناء الملك شاعر صلاح الدين ووزيره القاضى الفاضل، وهو أهم شعراء مصر قبل العصر الحديث ويتميز بفرائد بديعة من التصاوير الطريفة والألفاظ الحلوة العذبة، وابن نباتة شاعر المؤيد صاحب حماة والسلطان المملوكى حسن، ويتميز بلغة سهلة رشيقة مع كثرة التوريات، والشيخ عبد الله الشبراوى شيخ الأزهر فى أيام العثمانيين وله مدائح كثيرة فى ولاتهم.
وينشط الرثاء فى مصر للحكام وكبار الكتاب وأصحاب المناصب العليا فى الدول المتعاقبة، وتكثر الشكوى من الزمن وتقلباته ونوائبه، على نحو ما نجد عند على بن النضر الشاعر الفاطمى ومراثيه وشكواه من الزمن، وعند على بن عرام شاعر أسوان، وله مرثية
بديعة بل مناحة كان ينوح بها أهل أسوان على المقابر نادبين موتاهم، وابن النقيب الحسن بن شاور وله شكوى مرة من الظلم والخسف ومن العوز والبؤس، وعبد الله الإدكاوى أيام العثمانيين، وله مرثية يرثى فيها نفسه ويبكيها وقد حمله النّعش إلى مثواه.
وكان للدعوة الفاطمية الإسماعيلية شعراء غلوا فى مديح خلفائهم غلوا مقيتا، إذ جعلوهم فوق البشر والبشرية مسبغين عليهم بعض صفات الذات العلية، وأهم شعرائهم ابن هانئ الأندلسى، وتموج أشعاره فى المعز الفاطمى بضلال ما بعده ضلال، وكان شاعرا فذا غير أنه سخّر ملكته الشعرية فى مديح المعز بصفات إلهية قدسية، بهتان ما بعده بهتان. وعلى شاكلته المؤيد فى الدين الشيرازى إذ يجعل الخلفاء الفاطميين فى مديحه فوق الطبيعة البشرية ويسبغ عليهم الصفات الربانية. وثالث هؤلاء الشعراء ظافر الحداد وهو مصرى من الإسكندرية، ويلتقط من ابن هانئ-الذى صرّح فى بعض مديحه للآمر بأنه يحاول محاكاته-بعض معانيه مثل فكرة طاعة الخليفة الفاطمى وأنها فرض واجب، كما أخذ عنه فكرة أن الخليفة نور خالص، غير أنه ظل لا يسرف إسراف ابن هانئ والمؤيد الشيرازى فى إضفاء الصفات الإلهية على الخليفة، ومع ذلك يعد شذوذا على المصريين فى أيام الفاطميين، إذ انصرفوا انصرافا تاما عن العقيدة الفاطمية الإسماعيلية المنحرفة، وظلوا مثل آبائهم سنّيين.
ويكثر الغزل مصورا عاطفة الحب الإنسانية عند الشعراء المصريين وقد بثوا فيه حبا متقدا لا تخبو ناره أبدا بما يصور من اللوعات والصبابة والهيام والوله، ويموج شعر كثيرين بوجد لا حدود له على نحو ما يلاحظ فى غزل ابن سناء الملك، ويعم الغزل الوجدانى بعض أشعار الغزلين، وكأنما يتأثرون فيه الغزل الصوفى الملتاع المعاصر لهم، ومن أهم شعرائه وأروعهم ابن النبيه، وغزله يتسامى إلى مستوى وجدانى رفيع، مما دفع المغنين إلى التغنى به لا فى مصر وحدها بل أيضا فى كثير من ديار العرب، وتغنت السيدة أم كلثوم ببعض غزله الوجدانى المكتظ باللهفة واللوعة والرقة واللطف. ولا يقل عنه فى الغزل الوجدانى روعة البهاء زهير، وكأنما انطبع الوجد الصوفى وأشواقه فى أعماق نفسه مما جعل بعض غزلياته تلتبس عند الأسلاف بغزليات ابن الفارض وما تحمل من مواجد صوفية. ولا بن مطروح صديقه حظ من هذا الغزل المملوء بحرارة الوجد ولوعاته والذى يقطر رقة ودماثة وظرفا.
ولبرهان الدين القيراطى غزل وجدانى كثير يتمثل فيه هذه الطريقة الغرامية التى يذوب
فيها المحب لوعة وهياما، ونلتقى فى أيام العثمانيين بالعسيلى وما يتميز به غزله من رهافة الحسّ ودقته.
ويتكاثر الفخر بدوره: الفخر بالأخلاق النبيلة وبالبأس والشجاعة، ولابن سناء الملك فيه منظومة رائعة جسّد فيها روحا قوية عاتية: روح بطولة صلاح الدين وجيشه المصرى الباسل وما أذاقا حملة الصليب من دمار وتنكيل لا يماثله تنكيل. ومن قديم يسيل الهجاء فى ألسنة الشعراء المصريين، وكثيرا ما سلطوا سهامه على الفاطميين ووزرائهم وقد ينحون به أحيانا نحو الدعابة. ونلتقى فى الفخر بتميم بن المعز الفاطمى المفاخر بأسرته الفاطمية العلوية فخرا مضطرما بشرر كثير وجهه إلى ابن المعتز الشاعر العباسى وأسرته العباسية، ولطلائع بن رزّيك وزير الفاطميين بأخرة من أيامهم فخر كثير بانتصاراته على حملة الصليب. وكان ابن الذروى من كبار الهجائين، وله أهجية فى أحدب مليئة بالسخرية الموجعة، ومثله أحمد بن عبد الدائم الشرمساحى، وكان يكثر من هجائه للناس حتى القضاة وعلماء الدين، وعلى شاكلته حسن البدرى الحجازى إذ لم يسلم من هجائه أحد حتى المتصوفة.
ويتعمق الشعور بجمال الطبيعة على ضفاف النيل وفى وديانه ورياضه وحدائقه نفوس الشعراء منذ المريمى شاعر خمارويه، وتكثر مجالس الأنس واللهو والغناء والطرب، ويمثل ذلك كله ابن وكيع المشغوف فى أشعاره بالطبيعة والخمر، والشريف العقيلى شاعر الطبيعة المصرية غير مدافع، وابن قادوس وكان يشغف بوصف الخمر، ومثله عبد الباقى الإسحاقى أيام العثمانيين. وعرفت مصر بالزهد والنسك من قديم، ويظل شعر الزهد فيها مزدهرا على مر الأزمنة، وكان ذو النون المصرى-كما مرّ بنا-قد وضع أسس التصوف الإسلامى فى القرن الثالث الهجرى، غير أنه لم يزدهر بمصر إلا منذ عصر صلاح الدين الأيوبى، وأخذ يتضح فيه-كما مر بنا-اتجاهان: اتجاه فلسفى مثّله خير تمثيل ابن الفارض واتجاه سنى مثله أصحاب الطرق الصوفية وأتباعهم من مثل الطريقة الشاذلية، ومن أتباعها الشعراء أبو العباس المرسى، وقد ترجمت قبله لابن الكيزانى الصوفى المعاصر لصلاح الدين وله أشعار صوفية بديعة، وفصلت القول فى ابن الفارض ومجاهداته الروحية وعشقه الربانى، وفنائه وانمحائه فى الذات الإلهية إنمحاء كليا.
وكان الشعراء المصريون يتغنون بمديح الرسول صلى الله عليه وسلم من قديم، وأخذ هذا المديح يزدهر فى زمن الحروب الصليبية وأكبر مادح مصرى للرسول البوصيرى ويشتهر بمدحته النبوية المسماة بالهمزية، وربما فاقتها روعة ميميته المسماة بالبردة، وظلت القصيدتان تنشدان-إلى اليوم-فى حفلات الموالد وحلقات الذكر الصوفى. ونلتقى فى العصر العثمانى بمحمد بن أبى الحسن البكرى، وله أشعار يصور فيها بعض مواجده الصوفية، وسؤاله الرسول الشفاعة له يوم القيامة. وألممت بشعراء الفكاهة وعرضت فى ترجمات ابن مكنسة والجزار والسراج الوراق طرائف من فكاهاتهم كما عرضت عند ابن دانيال مسرحياته الفكهة وخاصة مسرحية «طيف الخيال» وهى عمل تمثيلى بديع. وألممت بعامر الأنبوطى فى أيام العثمانيين ومعارضته الفكهة لألفية ابن مالك وغيرها. وعرضت جوانب من الشعر الشعبى وثلاثة من أعلامه هم: إبراهيم المعمار وتورياته المستملحة، والغبارى وأزجاله المتنوعة وابن سودون وفكاهاته المضحكة سواء فى وصفه لزوجته ليلة الدخلة أو فى رثائه لأمه أو فى حديثه عن عجائب الطبيعة، وفيها جميعا يعتمد على المنطق اعتداء يجعل قارئه يستغرق فى الضحك.
وينهض النثر وتزدهر الرسائل الديوانية فيه منذ أيام ابن عبدكان كاتب أحمد بن طولون، ومن أعلام الكتاب الديوانيين فى عهد الفاطميين ابن الصيرفى، وتتميز لغة كتابته بالسجع والسهولة والتوشيح لها بالألفاظ القرآنية والمحسنات البديعة. ونلتقى بالقاضى الفاضل أهم كتاب مصر، وهو رأس مدرسة ظلت حية فى أيام الأيوبيين والمماليك، وهى تلتزم السجع مع صفاء التعبير ومع الإكثار من المحسنات البديعية والعناية بالتورية. ومن كبار الكتاب فى أيام المماليك محيى الدين بن عبد الظاهر وابن فضل الله العمرى، وتطبع كتابتهما الديوانية بطوابع كتابة القاضى الفاضل.
وتكثر الرسائل الشخصية من تهنئة وشكر وعتاب وتعزية واعتذار منذ أيام الفاطميين وتعمها خصائص الكتابة الديوانية لأن أكثر كتابها كانوا من كتّاب الدواوين، ومن أهمهم ابن أبى الشخباء فى زمن الفاطميين، وسجعاته خفيفة رشيقة مع صفاء اللفظ ورصانته. ولابن مماتى كاتب الدواوين فى عهد صلاح الدين رسائل شخصية يعنى فيها بالسجع ومحسنات البديع ومراعاة النظير وحسن التعليل. ويتميز ابن مكانس فى أيام المماليك بالسجع الرشيق والاستعارات والتوريات والجناسات البديعة مع خفة الروح والعذوبة والسلاسة. .
ويعنى غير كاتب بصنع مقامات منذ أواخر الدولة الفاطمية، ولا تدور على الشحاذة الأدبية المعروفة فى مقامات الهمذانى والحريرى، بل تدور على المحاورات أو على عرض بعض مسائل علمية أو على المفاخرات أو على حديث قصصى أو على وعظ، وممن نلتقى بهم فيها ابن أبى حجلة المغربى، وله مقامة بديعة فى وصف فيضان النيل، والقلقشندى وله مقامة فى وصف صناعة الإنشاء وتقريظ صاحب ديوانها، وأخرى فى المفاضلة بين العلوم، والسيوطى وله مقامات كثيرة، وأغلبها مفاخرات تدور بين الأزهار أو بين الفواكه أو بين البقول أو بين العطور، والشهاب الخفاجى أيام العثمانيين وله مقامات مختلفة، منها مقامة رومية فى وصف القسطنطينية، وفيها يهاجم متصوفتها وعلماءها ومفتيها، ويختمها بمديح السلطان العثمانى.
وتتكاثر المواعظ والابتهالات وقد ترجمت فى عرضها لأبى الحسن الشاذلى إمام الطريقة الشاذلية، وذكرت قطعة من حزبه الكبير، كما ترجمت لابن عطاء الله السكندرى وذكرت بعض مواعظه، وبالمثل لأحمد الدردير أيام العثمانيين وذكرت قطعة من ورده أو حزبه المشهور. وعرضت كتب النوادر والسير الشعبية بادئا بكتاب المكافأة لابن الداية، وتلوته بأخبار سيبويه المصرى، وكان ينقد الحكام نقدا به كثير من السموم. وتحدثت عن كتاب الفاشوس فى حكم قراقوش لابن مماتى، وكتاب هز القحوف ليوسف الشربينى وما يحملان فى نوادرهما من سخرية لاذعة بالحكام، كما تحدثت عن كتب السير والقصص الشعبية: سيرة عنترة والسيرة الهلالية وسيرة الظاهر بيبرس وسيرة سيف بن ذى يزن وعن ألف ليلة وليلة.