الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رحلوا وفى القلب المعنّى بعدهم
…
وجد على مرّ الزمان مخيّم
وتعوّضت بالأنس روحى وحشة
…
لا أوحش الله المنازل منهم
إنى لأذكركم إذا ما أشرقت
…
شمس الضحى من نحوكم فأسلّم
لا تبعثوا لى فى النسيم تحيّة
…
إنى أغار من النسيم عليكم
والأبيات تعبر عن عاطفة الحب الملتاعة وأنه لن ينسى أحباءه أبدا نزلوا نجدا أو نزلوا تهامة، فهم فى سويداء فؤاده والوجد يبرّح به، والوحشة منهم تلذع روحه، وهو يستقبل شمس الضحى المشرقة من ديارهم بالسلام الحار. وما يلبث أن يعبر فى البيت الأخير عن رقة ورهافة حسّ بالغة، وله من جملة قصيدة بيته المشهور:
وما لى إلى ماء سوى النيّل غلّة
…
ولو أنه-أستغفر الله-زمزم
وهو يصور أدق تصوير محبته لوطنه، وهى محبة تملك دائما على المصريين شغاف قلوبهم.
وكان المهذب وأخوه الرشيد-وكان شاعرا مثله-وثّقا صلتهما بشيركوه وصلاح الدين حين قدما مصر لنجدة الوزير شاور ضد خصمه وضد الصليبيين، ولم يلبث شاور أن قلب ظهر المجن لصلاح الدين وعمه شيركوه، واضطرا إلى مبارحة مصر فترة. وحينئذ يقتل شاور الرشيد ويسجن المهذب فينظم شعرا كثيرا فى استعطافه، ويرد إليه حريته، وسرعان ما يتوفى سنة 561 للهجرة.
ابن قلاقس
(1)
هو نصر الله بن عبد الله بن قلاقس الإسكندرى، ولد بالإسكندرية سنة 532 ونشأ بها وسمع من شيوخها، ولزم حلقة أبى طاهر السّلفى أكبر المحدثين فى عصره، وتفتحت موهبته الشعرية مبكرة فمدح بعض أولى الأمر المشرفين على الإسكندرية. وكان فى أثناء ذلك يلزم صحبة شيخه؟ ؟ ؟ وله فيه مدائح بديعة مثبتة فى ديوانه من مثل قوله:
تفيض بحار العلم من كلماته
…
فإن كنت ظمآنا فرد خير منهل
فيا أيها المحمود من كلّ ناطق
…
على كل معنى فى فنا كلّ منزل
(1) انظر فى ترجمة ابن قلاقس الخريدة (قسم شعراء مصر) 1/ 145 ومعجم الأدباء 19/ 236 وابن خلكان 5/ 385 وحسن المحاضرة 1/ 242 والشذرات 4/ 224 ومرآة الجنان 3/ 383. وديوانه طبع قديما بمطبعة الجوائب وراجعه وضبطه خليل مطران.
تحاسدت الأيام فيك فلم تزل
…
منى القادم الجذلان والمترحّل
وهو يشير إلى علم أستاذه وأنه كان مقصدا للراحلين فى طلب الحديث من كل بقاع العالم الإسلامى. وليس فى ديوانه مديح لوزير مصرى قبل شاور وزير العاضد (557 - 564 هـ).
واتصل بكتاب الديوان لعهده ومدحهم، وفى مقدمتهم القاضى الفاضل، وله فيه غرر المدائح، ومن قوله فى إحداها متخلصا من الغزل إلى مديحه:
يا ربّ خمر فمه كأسها
…
لم أقتنع من شربها بالشميم
أتبعت رشفا قبلا عندها
…
وقلت: هذا زمزم والحطيم
فافترّ إما عن أقاحى الرّبى
…
تضحك أو درّ العقود النّظيم
أو كان قد قبّل مستحسنا
…
ما حبّر الفاضل عبد الرّحيم
من لفظه راح وأخلاقه
…
روح وتلك الدار دار النعيم
والأبيات تصور قدرة رائعة على تكوين الصور الشعرية البديعة، ففم صاحبته كأس خمر، وهو يرشفها وكأنه يرشف من ماء زمزم ويقبلها وكأنه يقبل الحطيم المقدس. وضحكت فخال أقاحى الربى تضحك، بل عقد در نظيم، بل درر القاضى الفاضل عبد الرحيم، من لفظه خمر وأخلاقه فرح وداره جنة الخلد، ولعله يريد قصر الخلافة الذى كان يعمل به الفاضل كاتبا.
وليس فى شعره أى شائبة تدل أو تشير إلى أنه اعتنق التشيع، وكان عهد وزارة شاور عهدا مضطربا أشد الاضطراب، فسدت فيه أداة الحكم فسادا شديدا، مما جعل شاور يصطرع مع ضرغام على الوزارة، ويستعين بنور الدين أمير حلب ويرسل معه أسد الدين شيركوه وصلاح الدين، فيعيدانه إلى كرسى الوزارة، وما يلبث أن يستعين ضدهما بالصليبيين. ولعل هذا الاضطراب الشديد الذى عانته البلاد حينئذ هو الذى جعل ابن قلاقس يفكر فى مبارحة مصر إلى صقلية، ويبدو أنه كان يسمع فى أثناء مقامه بالإسكندرية من مسلميها الذاهبين إلى الحج تنويها كثيرا بها وبرجالاتها، وكانت قد سقطت فى أيدى النورمانديين ولكن أمراءهم منذ روجّار كانوا لا يزالون يعاملون المسلمين بها معاملة حسنة، وأعانوهم على استمرار نشاطهم العلمى والأدبى.
على كل حال نفاجأ برحيل ابن قلاقس إلى صقلية فى شعبان سنة 563 ولم يكد ينزل بها حتى أرسل بقصيدة يصف فيها رحلته البحرية إلى الجزيرة وصفا بديعا، وكانت قد أعجبته مشاهدها الطبيعية فأنشد:
بلد اعارته الحمامة طوقها
…
وكساه حلّة ريشه الطاووس
فكأنما الأزهار منه سلافة
…
وكأنّ ساحات الديار كئوس
وتنقّل فى بلدانها، وكانت لا تزال عامرة بالمسلمين، ونزل حاضرتها يلرم، وتعرّف على أكبر شخصية عربية بها: أبى القاسم بن الحجر، ويبدو أنه كان رئيس ديوان المسلمين وصاحب الأمر والنهى فيهم، وفيه دبّج مدائح كثيرة، مشيدا ببيانه وبلاغته، وبحسن تدبيره، بمثل قوله:
وبيمناك طير يمن وسعد
…
أصفر الظهر أسود المنقار
قلم دبّر الأقاليم فالكت
…
ب به من كتائب الأقدار
والبيت الثانى يشير بوضوح إلى أن أبا القاسم كان يصرف أمور المسلمين فى صقلية، ولعله لذلك تسميه بعض المصادر العربية صاحب صقلية، وفيه كتب ابن قلاقس كتابا سماه «الزهر الباسم من أوصاف أبى القاسم» وصف فيه رحلته إلى صقلية ومقامه بها نحو عامين ومدائحه فيه، واحتفظ العماد الأصبهانى فى ترجمته بقطعة كبيرة من هذا الكتاب. وفى ديوانه مدائح كثيرة لشخصية ثانية بصقلية، هى شخصية القاضى على بن أبى الفتح بن خلف الأموى، ويقول العماد إنه نوّه به فى كتابه الزهر الباسم وقال عنه «حدقة العلم الناظرة وحديقة الأدب الناضرة» وفيه يقول:
وكم لك فى الفصاحة من أياد
…
ملكت بها الفخار على الإيادى (1)
تخذتك من صقلّية خليلا
…
فكنت الورد يقطف من قتاد
وشمتك بين أهليها صفيّا
…
فكنت الجمر يقبس من زناد
وابن قلاقس لا يريد أن يهجو أهل صقلية بأنهم قتاد وشوك وابن خلف وحده هو الورد، ولا أنهم زناد صلد وهو وحده الجمر، وكل ما فى الأمر أنه يريد أن يمدحه، وبالغ فى مديحه، أما بعد ذلك فكان هناك أبو القاسم بن الحجر ممدوحه وراعيه فيها. وقد مدح بها آخرين، منهم جردنّا وزير صاحب صقلية، وفيه يقول:
وجرّدنا المدائح فاستقرّت
…
على أوصاف جردنّا الوزير
وهو يشير مرارا إلى مجالس الشراب فى صقلية، وأنه قضى بها أياما وليالى هنيئة، كان يستمتع
(1) هوقس بن ساعدة الإيادى الخطيب المشهور.
فيها بالاستماع إلى الغناء والموسيقى ورؤية الراقصات وهن يتثنّين فى نسق بديع من الحركات يقول:
ومغنّ تناولت يده العو
…
د فعادت بنا إلى الأفراح
بين ريح من المزامير أسرى
…
بين أجسامنا من الأرواح
وصباح قد عقدوا طرر اللّي
…
ل جمالا على الوجوه الصّباح
يبعث الروض منهم حركات
…
سرقت بعضها طوال الرّماح
وعاد ابن قلاقس إلى مصر، فوجدها لا تزال مضطربة قبل تحول مقاليد السلطان إلى صلاح الدين، ففكر فى الارتحال عنها، وولى وجهه نحو عدن سنة 565 استقبله استقبالا حسنا ياسر بن بلال وزير محمد وأبى السعود ابنى عمران حفيد الداعى سبأ صاحبها، فأغدق عليه نائلا غمرا، وركب البحر الأحمر عائدا إلى مصر، فانكسر المركب به وغرق جميع ما كان معه بالقرب من جزيرة دهلك، فعاد إلى ياسر، وأنشده قصيدة دالية استهلها بقوله:
صدرنا وقد نادى السماح بنا ردوا
…
فعدنا إلى مغناك والعود أحمد
وجاذبنا للأهل شوق يقيمنا
…
وشوق لمغنينا عن الأهل يقعد
وما فاح فينا غير ذكراك روضة
…
ولا ساح فينا غير نعماك مورد
فيا ياسرا نلنا به الفضل ياسرا
…
ويا من وجدنا منه ما ليس يوجد
دعوت بصوت الجود حىّ على النّدى
…
لأنك تروى عن بلال وتسند
والقصيدة كلها من هذا النمط البديع، وما أروع بيتها الأخير، وقد تصور ياسرا يؤذّن بصوت الجود داعيا الناس إليه، ويعلل ذلك تعليلا طريفا، إذ يقرن اسم أبيه بلال إلى بلال مؤذن الرسول وهو يروى عنه ويقتدى به قدوة حسنة. وكان يحسن التعليل كما يحسن التصوير، ومن طريف صوره وتعليلاته قوله فى جارية سوداء:
ربّ سوداء وهى بيضاء معنى
…
نافس المسك عندها الكافور
مثل حبّ العيون يحسبه النا
…
س سوادا وإنما هو نور
وهى صورة بديعة غريبة. ويكثر مثلها عنده، كقوله يصف الشّعر وأن منه ما يذبل سريعا ومنه ما يخلد على الدهر، ومنه القبيح ومنه الجميل، يقول:
الشّعر منه قصير عمره زهر
…
يذوى ومنه طويل عمره زهر (1)
(1) زهر: نجوم، كناية عن الخلود.