المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٧

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - فتح العرب لمصر والحقب الأولى

- ‌(ا) فتح العرب لمصر

- ‌(ب) زمن الولاة

- ‌(ج) الطولونيون

- ‌(د) الإخشيديون

- ‌2 - الفاطميون-الأيوبيون

- ‌(ا) الفاطميون

- ‌3 - المماليك-العثمانيون

- ‌(ا) المماليك

- ‌(ب) العثمانيون

- ‌4 - المجتمع

- ‌الفصل الثانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علم الجغرافيا

- ‌(ا) علوم الأوائل

- ‌(ب) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب مصر

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعر دورى ورباعيات وموشحات وبديعيات

- ‌(ا) الشعر الدورى

- ‌(ب) الرباعيات

- ‌(ج) الموشحات

- ‌ العزازى

- ‌ابن الوكيل

- ‌(د) البديعيات

- ‌4 - شعراء المديح

- ‌«المهذب بن الزبير

- ‌ابن قلاقس

- ‌ ابن سناء الملك

- ‌ابن نباتة

- ‌5 - شعراء المراثى والشكوى

- ‌على بن النّضر

- ‌على بن عرّام

- ‌6 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن هانئ

- ‌ظافر الحداد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن النبيه

- ‌ البهاء زهير

- ‌ ابن مطروح

- ‌2 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ تميم بن المعز

- ‌ ابن الذروى

- ‌ أحمد بن عبد الدائم

- ‌ حسن البدرى الحجازى الأزهرى

- ‌3 - شعراء الطبيعة ومجالس اللهو

- ‌ الشريف العقيلى

- ‌ ابن قادوس

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن الكيزانى

- ‌ ابن الفارض

- ‌البوصيرىّ

- ‌5 - شعراء الفكاهة

- ‌ ابن مكنسة

- ‌الجزّار

- ‌ السراج الوراق

- ‌ ابن دانيال

- ‌ عامر الأنبوطى

- ‌6 - شعراء شعبيون

- ‌الغبارى

- ‌ ابن سودون

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ ابن الصيرفى

- ‌ القاضى الفاضل

- ‌ محيى الدين بن عبد الظاهر

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌ ابن أبى الشخباء

- ‌ ابن مماتى

- ‌3 - المقامات

- ‌ ابن أبى حجلة

- ‌القلقشندى

- ‌السيوطى

- ‌ الشهاب الخفاجى

- ‌4 - المواعظ والابتهالات

- ‌أبو الحسن الشاذلى

- ‌5 - كتب النوادر والسير والقصص الشعبية

- ‌(ا) كتب النوادر

- ‌كتاب المكافأة

- ‌أخبار سيبويه المصرى

- ‌كتاب الفاشوش فى حكم قراقوش

- ‌«هز القحوف»

- ‌(ب) كتب السير والقصص الشعبية

- ‌ سيرة عنترة

- ‌ السيرة الهلالية

- ‌سيرة الظاهر بيبرس

- ‌سيرة سيف بن ذى يزن

- ‌ ألف ليلة وليلة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

امل لى الكاس تماما

واسقنى جاما فجاما (1)

اسقنى بالكوب والكا

س فرادى وتواما (2)

ثم بالجرّة فالج

رّة حتى أترامى

اسقنى حينئذ بال

زّقّ حتى لا كلاما

ثم أزهى موضع فى ال

رّوض فاختره مقاما

وهو صبّ بالخمر يريد أن يحتسيها حتى الثمالة، بل يريد أن يشربها أرطالا جاما فجاما وكئوسا وأكوابا وجرّات متوالية حتى يفقد الكلام ويغيب عن حسه، وهو يشربها فى أزهى موضع بالروض قد عبقت فيه الأزهار بأريجها العطر. وكأنما يعيد الإسحاق فى أيام العثمانيين ذكرى أبى نواس وأمثاله من الماجنين العباسيين.

‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

مرّ بنا أن مصر عرفت الزهد والنسك الدينى من قديم، ويكفى أنها هى التى أنشأت فى المسيحية نظام الرهبنة الذى شاع منها وانتشر فى العالم المسيحى. وقد أقبلت على الإسلام بمجرد اعتناقها له ونزول العرب المسلمين فيها تنهل منه، ورأيناها تسهم منذ زمن الولاة فى نشر مذهبى مالك والشافعى، كما أسهمت فى القراءات عن طريق مقرئها المشهور: ورش. وأكبت على الحديث النبوى وتفسير الذكر الحكيم وأخذت تدرسهما كما تدرس القراءات والفقه، وتكونت لها طبقات من علماء الدين ومن الوعاظ والقصاص، وكان كل من شدا منهم شعرا نظم فى الزهد والوعظ أبياتا كان يتداولها الناس على نحو ما كانوا يتداولون أشعار الإمام الشافعى المتوفى سنة 204 وظلوا يتداولون بعده أشعار منصور بن إسماعيل الفقيه الشافعى المتوفى سنة 306 من مثل قوله (3):

كن بما أوتيته مغتبطا

تستدم عمر القنوع المكتفى

إن فى نيل المنى وشك الرّدى

وقياس القصد عند السّرف

كسراج دهنه قوّته

فإذا غرّقته فيه طفى

(1) الجام: إناء من فضة.

(2)

توام: توأم: من الاثنين إلى ما زاد.

(3)

نكت الهميان ص 298

ص: 342

وهو يدعو إلى القناعة والاكتفاء بالقليل وعدم التطلع إلى منّى عريضة يكون فيها حتف صاحبها، ويقول لا بد من القصد والاعتدال لتظل للإنسان منّته وقوته، أما إذا أفرط وتجاوز الاعتدال والقصد فإنه لا شك صائر إلى الهلاك. وإذا تركنا الفقهاء إلى الشعراء وجدناهم يرددون بعض أشعار زاهدة وبعض مواعظ، واتخذوا-كما أسلفنا-من زوال الدولة الطولونية عبرة كبرى للدهر ونكباته، وأخذت العظة وما يتصل بها من شعر الزهد تتكاثر على ألسنة الشعراء، ولتميم بن المعز قصيدة فى القرافة ومقابرها وما تبعث فى النفس من خشية الله، وفيها يتجه إلى ربه قائلا أو مناجيا (1):

رجوتك يا ربّ لا أننى

أطعتك طوع أولى الانتهاء

ولكننى مؤمن موقن

بأنك ربّ الورى والسّماء

وأنك أهل لحسن الظنون

وأنك أهل لحسن الرجاء

فهو يرجو الله ويعبده لا خشية عقابه ولا خوف ناره، ولكنه يعبده لأنه أهل لعبادته، فهو رب الكون، رب الأرض والسماء، وهو يرجوه للرجاء لا لشئ وراءه من مآرب الحياة أو مآرب الآخرة. فشئ من ذلك لا يعلق بنفسه، وإنما يعلق بها اليقين والإيمان بأنه الرب الأعلى الخليق بكل عبادة وكل رجاء.

ومن يتصفح ديوان الشريف العقيلى شاعر الطبيعة والخمر يجده يختم كل قافية من قوافيه المرتبة على الحروف الهجائية بأبيات واعظة، كأنما يكفر بها عما نظمه من مجون فى نفس القافية، كقوله فى قافية الباء (2)

أيها التائه الذى

ضلّ عما يراد به

إنّ للعرض وقفة

أمرها غير مشتبه

فانتبه قبل أن ترى

مذنبا غير منتبه

ووعظيات الشريف ليس فيها روح، لسبب طبيعى وهو أنه لم يكن شاعر وعظ وزهد، وإنما كان شاعر خمر وطبيعة، ومع ذلك فأغلب الظن أنه هو الذى أوحى لشعراء الموشحات الأندلسية فى الحقب المتأخرة بفكرة الموشحات المكفرة لموشحاتهم الماجنة.

(1) ديوان تميم ص 27

(2)

ديوان الشريف العقيلى ص 79.

ص: 343

ونلتقى بظافر الحداد بعد تميم، وهو يذكّر دائما بالموت كقوله (1):

كن من الدّنيا على وجل

وتوقّع سرعة الأجل

تخدع الإنسان لذّتها

فهى مثل السّمّ فى العسل

أنت فى دنياك فى عمل

والليالى فيك فى عمل

فالسعيد فى رأى ظافر من وضع الموت نصب عينيه، ولم يغتر بمتاع الحياة ولذتها فهى كالسم فى العسل، لا تزال تسرى فى الجسم، ولا تزال الأيام والليالى تعمل عملها فيه، حتى يفنى فجأة وعلى غير أهبة أو انتظار. ولا بن النّضر يدعو دعوة حارة إلى الزهد والقناعة (2):

جهاد النّفس مفترض فخذها

بآداب القناعة والزّهاده

فإن جنحت لذلك واستجابت

وخالفت الهوى فهو الإراده

وإن جمحت بها الشهوات فاكبح

شكيمتها بمقمعة العباده

عساك تحلّها درج المعالى

وترفعها إلى رتب السعاده

وهو يحض على جهاد النفس وترويضها على الزهد فى طيبات الحياة، فإن خالفت هواها وأصغت لك فهى الأمنية المبتغاة، وإن استعبدتها الشهوات فاكبح جماحها بالنسك والعبادة، فهى خير مؤدب ومروّض مذلل لها حتى ترقى إلى درج المعالى وتصعد إلى رتب السعادة. ومن تبتلاته إلى ربه (3):

يا مستجيب دعاء المستجير به

ويا مفرّج ليل الكربة الدّاجى

قد أرتجت دوننا الأبواب وامتنعت

وجلّ بابك عن منع وإرتاج

نخاف عدلك أن يجرى القضاء به

ونرتجيك فكن للخائف الراجى

وهو تبتل وتضرع رقيق إلى الذات العلية، إذ يدعو الله المفرج لظلمات الكربة، الكاشف لليلها الداجى، أن يفتح له الأبواب بعد أن أغلق دونه كل باب، وإنه ليتعلق بالأمل فى رحمته

(1) الخريدة 2/ 8

(2)

الخريدة 2/ 95

(3)

الخريدة 2/ 92

ص: 344

رحمة تمنع العدل أن يجرى القضاء به متوسلا بخوفه ورجائه فى رحمة الله الواسعة، ولابن سناء الملك (1):

أقول دارى وجيرانى مغالطة

والقبر دارى والأموات جيرانى

فى وحشة القبر والدود المقيم به

شغل لنفسى عن دارى وبستانى

سأوسع القبر بالأعمال أصلحها

جهدى وألبس زهدى قبل أكفانى

فليست داره هى الدار الحقيقية له وليس جيرانه هم جيرانه الحقيقيون، فداره الحقيقية القبر وجيرانه الأموات حول قبره، وإنها لدار مفزعة، دار وحشة وديدان تنتظره، دار ضيقة وسيحاول أن يمد أطنابها بالأعمال الصالحة، وسيسرع إلى ثياب الزهد فى الحياة الدنيا يلبسها قبل أن يلبس أكفانه وينزل رمسه وحفرته المظلمة.

ويكثر ابن مطروح من مناجياته لربه كقوله (2):

يا من علا فى ملكه فاقترب

ومن بدا فى نوره فاحتجب

ومن هو القصد لأهل النّهى

والمطلب الأسنى وكلّ الأرب

عوّدتنى الأنس فلا تنسنى

وهبنى الرّحمة فيما تهب

وهو يتضرع إلى ربه الذى علا فى ملكوته وهو أقرب إليه من حبل الوريد، والذى يملأ الدنيا نورا وضياء من حوله، وهو محتجب لا يراه أحد، والذى هو المقصد والمطلب الأسى وكل الأرب والأمل، والذى عوده الأنس به، أن لا ينساه وأن يهبه من خزائنه العلية ورحمته الواسعة.

ويظل شعر الزهد والتبتل إلى الله مزدهرا زمن المماليك، من ذلك قول عبد الملك الأرمنتى القوصى المتوفى سنة 722 متعلقا بعفو ربه (3):

قالت لى النّفس وقد شاهدت

حالى لا تصلح أو تستقيم

بأىّ وجه تلتقى ربّنا

والحاكم العدل هناك الغريم

فقلت حسبى حسن ظنى به

ينيلنى منه النعيم المقيم

(1) الديوان ص 787.

(2)

ديوان ابن مطروح مع ديوان العباس بن الأحنف ص 212

(3)

طبقات الشافعية للسبكى 10/ 98

ص: 345

قالت وقد جاهرت حتى لقد

حقّ له يصليك نار الجحيم

قلت معاذ الله أن يبتلى

بناره وهو بحالى عليم

والمراجعة بين عبد الملك ونفسه طريفة، فهى تلومه على حاله المعوجة وسلوكه غير الصالح وتقول بأى وجه تلقى غريمك وهو ربك، فيرد عليها بأنه حسن الظن بإلهه وعفوه، وأنه سيدخله جنات النعيم، فتسأله متعجبة أتجهر بذلك ولا تخفيه، لقد حقت عليك النار. فيقول معاذ الله أن يصليه ربه الجحيم وهو العالم بحاله وصحة نيته فى إيمانه.

ويقول الحافظ المحدث شمس الدين أبو المعالى ابن القماح المتوفى سنة 741 للهجرة (1):

اصبر على حلو القضاء ومرّه

واعلم بأن الله بالغ أمره

واثبت فكم أمر أمضّك عسره

ليلا فبشّرك الصباح بيسره

واضرع إلى الله الكريم ولا تسل

بشرا فليس سواه كاشف ضرّه

وهو يدعو إلى الرضا بكل ما يأتى به القضاء من حلو ومر، فتلك إرادة الله ولا راد لأمره، وينصح بالثبات حتى تنكشف ظلمة الغمة وتسفر عن بشرى مضيئة ضوء الصباح وأن يلجأ الإنسان إلى ربه ويضرع إليه، فهو وحده كاشف الغم ومفرّج المحن.

ونلتقى بتبتلات وأدعية كثيرة عند الشيوخ، من ذلك قول قاضى القضاة ابن التنسى المالكى المتوفى سنة 852 للهجرة (2):

إله الخلق قد عظمت ذنوبى

فسامح ما لعفوك من مشارك

أغث يا سيدى عبدا فقيرا

أناخ ببابك العالى ودارك

فهو يتضرع لربه أن يعفو عن ذنوبه، ويستغيث به، فهو عبد فقير من عباده، ألقى عصاه ببابه، آملا فى قبول تضرعه، ويورّى تورية واضحة فى قوله:«دارك» فمعناه القريب الدار الحقيقية بدلالة كلمة الباب قبلها، والمعنى البعيد المقصود أن يدركه قبل أن ييأس من عفوه ورحمته.

ويلقانا زهد كثير فى الحقبة العثمانية من مثل قول محمد بن أحمد الحتادى فى الدعوة إلى القناعة

(1) السبكى 9/ 93

(2)

النجوم الزاهرة 15/ 539

ص: 346

وأن لا يفكر الإنسان فى رزق الغد (1):

تأنّ ولا تجزع لأمر تحاوله

فخير اختيار المرء ما الله فاعله

تفيّأ بظلّ الله من روض قوله

ألست بكاف تلحقنك فواضله (2)

وعزّ تهن دنياك واغن بتركها

ولا تحفلن بالرزق فالله كافله

فهو يدعو إلى الصبر فى طلب الرزق وأن لا ييأس الإنسان، بل يدع شأنه لربه فإنه ضامن رزقه ولن ينساه، وحرى بالإنسان أن يستظل بمثل قوله:(أليس الله بكاف عبده) مؤمنا بأنه يتكفل بعباده ولا يترك ظامئا إلا سقاه ولا عاريا إلا كساه، وما العز الحقيقى إلا رفض الدنيا وما الغنى الحقيقى إلا تركها وعدم التعلق بها وأن لا يشغل الإنسان نفسه برزق الغد، فالله كافله وضامنه.

وقد تحدثنا فى الفصل الأول عن نشأة التصوف بمصر وأنه أخذ طريقه فيها إلى الظهور منذ سنة 200 للهجرة ولم يلبث ذو النون المصرى المتوفى سنة 245 للهجرة أن رفع صرحه سامقا، إذ يعد المؤسس الحقيقى للتصوف الإسلامى وترتيب أحواله ومقاماته، وقد ذكرنا أطرافا من آرائه الصوفية وبعض تلاميذه من أعلام الصوفية بعده فى الشام والعراق وإيران، وكأن مصر التى يرجع إليها الفضل فى قيام نظام الرهبنة فى المسيحية يرجع الفضل إليها أيضا فى قيام التصوف فى أركان العالم الإسلامى، أو قل بعبارة أدق يرجع الفضل فى قيامه إلى أحد أبنائها وهو ذو النون المصرى، ومرّ بنا تصوير ذلك من بعض الوجوه وكيف أنه كان أول من وضع تعريفا للوجد الصوفى وأول من ذكر كأس المحبة الربانية التى هى جوهر التصوف وقوامه، ومن ضيائها استمد فى قوله مخاطبا ربه (3):

لك من قلبى المكان المصون

كلّ لوم علىّ فيك يهون

لك عزم بأن أكون قتيلا

فيك والصبر عنك ما لا يكون

وكأنه أول قتيل بل أول شهيد فى الحب الإلهى، فقد سبح فى بحاره وغرق بين أمواجه، غرق فى مياه عميقة، مادّا بصره إلى القاع وأعمق الأعماق، يريد أن يرتوى وأن يحظى بأمانيه من الوصال، محتملا فى ذلك جهودا مضنية، وفى ذلك يقول (4):

(1) سلافة العصر لابن معصوم (طبع القاهرة) ص 418

(2)

تفيأ: استظل.

(3)

ابن خلكان 1/ 316

(4)

طبقات الصوفية للسلمى ص 27.

ص: 347

أموت وما ماتت إليك صبابتى

ولا قضيت من صدق حبّك أوطارى

تحمّل قلبى فيك مالا أبثّه

وإن طال سقمى فيك أو طال إضرارى

فصباباته بالحب الإلهى لا تنقضى، إنه لا يزال يريد أن يكون حبه لربه لا يدانيه حب، ولا يزال يجد فيه نصبا وشقاء، ولذته التى لا تحد إنما هى فى هذا الشقاء والنصب الذى لا يشبهه نصب. وتناول كأس هذه المحبة منه كثيرون فى العالم الإسلامى. ويدور الزمن بمصر دورات وندخل فى هذا العصر: عصر الدول والإمارات، وسرعان ما تنشأ بمصر الدولة الفاطمية الإسماعيلية، وكانت تعارض التصوف حتى لا يطفى على عقيدتها التى صورناها فى غير هذا الموضع وبصرف المصريين عنها، ومن هنا تراجعت موجته فى عهدها، ومع ذلك فينبغى أن لا نظن أنه تلاشى، فقد ظل حبله ممدودا بعد ذى النون. ومرّ بنا من متصوفتها بعده أبو بكر الدقاق الكبير المتوفى سنة 290 وبنان الحمّال المتوفى سنة 316 وأبو على الروذبارى المتوفى سنة 322 ويعد السيوطى بعض أسماء لمتصوفة ظهروا فى عهد الدولة الفاطمية (1) مثل ابن الترجمان المتوفى سنة 448 ويقول عنه: كان شيخ الصوفية بديار مصر. ونلتقى بأخرة من أيام الفاطميين بصوفى كبير هو ابن الكيزانى وسنترجم له عما قليل. ومرّ بنا أنه أخذ يتضح فى التصوف منذ قيام الدولة الأيوبية اتجاهان، اتجاه فردى فلسفى واتجاه جماعى سنى، ومثّل الاتجاه الأول ابن الفارض وسنخصه بترجمة، ومن تلاميذه ابن الخيمى محمد بن عبد المنعم المتوفى سنة 685 ولم يتجه بتصوفه اتجاه ابن الفارض الفلسفى، بل وقف به عند الوجد والحديث عن الشوق وأكثر من ذكر معاهد الحب على طريقة العذريين، واشتهر بأنه تنازع مع محمد بن إسرائيل صوفى الشام فى قصيدة صوفية واحتكما إلى ابن الفارض، فشهد لابن الخيمى أنها من نظمه، وفى فوات الوفيات قطعة من شعره، ومن قوله فى الذات الإلهية (2):

وحجّب عنا حسنه نور حسنه

فمن ذلك الحسن الضلالة والهدى

فيا نار قلبى حبّذا أنت مصطلى

ويا دمع عينى حبّذا أنت موردا

وشعره الصوفى يهبط عن شعر ابن الفارض كثيرا. وكان يعاصره كتاكت المصرى الواعظ

(1) حسن المحاضرة 1/ 515

(2)

الفوات 2/ 465

ص: 348

المقرئ المتوفى سنة 684 ونحس عنده قبسا من ابن الفارض فى مثل قوله (1):

حضروا فمذ نظروا جمالك غابوا

والكلّ مذ سمعوا خطابك طابوا

فكأنهم فى جنّة وعليهم

من خمر حبّك طافت الأكواب

أنت الذى ناولتنى كأس الهوى

فإذا سكرت فما علىّ عتاب

ويقول ابن تغرى بردى إنها قصيدة مشهورة عند الفقراء يريد الصوفية، وواضح أنه يصور فى هذه الأبيات الغيبة التى طالما صورها ابن الفارض والتى تعنى عنده السكر وفقدان الوعى، فقد غاب عن وعيه حين أحس بمشاهدته للجمال الربانى وكأنما طافت أكواب الخمر الإلهية، وتناول منها كوبا، جعله يغيب عن الوجود شاعرا بوجد لا يشبهه وجد، وجد بالجمال الإلهى المطلق الذى يسرى فى كل كائن جميل مستمدا منه حسنه وجماله، يقول (2).

من أنت محبوبه ماذا يغيّره

ومن صفوت له ماذا يكدّره

هيهات عنك ملاح الكون تشغلنى

والكلّ أعراض حسن أنت جوهره

وكأن الله يشاهد فى كل جميل بالكون، أو قل كأن كل جميل يستمد منه جماله، أو يشاهد فيه جماله، وفكرة الشهود سنعرض لها عند ابن الفارض عرضا أكثر سعة. وبدون ريب أثر ابن الفارض فى صوفية مصر وغير مصر بعده آثارا تضيق وتتسع حسب مواجد الصوفى.

ويلقانا صوفى من أتباع ابن عربى، مر بنا ذكره فى الفصل الأول، وهو عبد العزيز بن عبد الغنى الحسنى المتوفى سنة 703 وفى شعره ما يدل على تلمذته لابن عربى إذ يقول (3):

وجدت بقائى عند فقد وجودى

فلم يبق حدّ جامع لحدودى

وألقيت سرّى عن ضميرى ملوّحا

برمز إشاراتى وفكّ قيودى

فأصبحت منى دانيا بمعارفى

وقد كنت عنّى نائيا بجمودى

ويقول ابن حجر معلقا على الأبيات: «وهذا نفس الاتحادية لا شك فيه» . يريد أن الأبيات تصدر عن فكرة الاتحاد بالذات العلية التى كان يؤمن بها ابن عربى، وكان له ديوان

(1) انظر ترجمة كتاكت فى الفوات 1/ 108 والنجوم الزاهرة 7/ 364.

(2)

النجوم الزاهرة 7/ 365

(3)

الدرر لابن حجر 2/ 484

ص: 349

كبير، ويذكر له قصيدة نونية طويلة اسماها اليعسوب وهى ملكة النحل.

ومن المؤكد أن النزعة الفلسفية فى التصوف بمصر كادت تنحسر بعده إلا قليلا، إذ مضت مصر تؤثر التصوف السنى وما أشاعه من الطرق الصوفية الكثيرة، وقد أفضنا فى بيان ذلك بالفصل الأول، وكان من أهم الطرق التى تأسست بها الطريقة الشاذلية، ومن أهم أصحابها ابن عطاء الله السكندرىّ الصوفى الواعظ تلميذ مؤسسيها أبى الحسن الشاذلى وأبى العباس المرسى، ومن شعره قصيدة يقول فيها (1):

ويا صاح إن الركب قد سار مسرعا

ونحن قعود ما الذى أنت صانع

أترضى بأن تبقى المخلّف بعدهم

صريع الأمانى والغرام ينازع

وهذا لسان الكون ينطق جهرة

بأنّ جميع الكائنات قواطع

فهو يهتف بصاحبه أن يتبع ركب المحبوب ولا يتخلف، حتى لا يفقد أمانيه ويضيع منه حبه، بل إن الكون كله ليهتف به أن يرحل وراءه ويهاجر له، فجيمع الكائنات ما تزال مهاجرة تتبعه.

وكثير من شعر هؤلاء الصوفية كانوا ينظمونه ليردده المنشدون فى الذكر بين صفوف الذاكرين الله كثيرا ليملئوهم حماسة وإمعانا فى ذكر الله وتسبيحه، من مثل قول عبد الغفار بن أحمد بن نوح القوصى الصوفى المتوفى سنة 708 للهجرة:

أنا أفتى أنّ ترك الحبّ ذنب

آثم فى مذهبى من لم يحب

ذق على أمرى مرارات الهوى

فهو عذب وعذاب الحبّ عذب

كل قلب ليس فيه ساكن

صبوة عذريّة ماذاك قلب

ويكثر هؤلاء الشعراء من الصوفية فى أيام المماليك، ومن أشهرهم برهان الدين بن زقّاعه، المتوفى سنة 859 عن سن عالية، وكان يتبرك به السلطان برقوق وابنه السلطان فرج، وله فى الحب الصوفى ومواجده أشعار كثيرة من مثل قوله (2):

رأى عقلى ولبّى فيه حارا

فأضرم فى صميم القلب نارا

ألا يالائمى دعنى فإنى

رأيت الموت حجّا واعتمارا

وأهل الحب قد سكروا ولكن

صحا كلّ وفرقتنا سكارى

(1) النجوم الزاهرة 8/ 280

(2)

المنهل الصافى 1/ 154 والنجوم الزاهرة 14/ 126.

ص: 350

وهى نار كانت لا تزال مشتعلة فى قلوب الصوفية، نار حبهم للذات العلية، نار لا تنطفئ أبدا فى أثناء حبهم بل جهادهم الشاق العنيف فى هذا الحب، الذى كانوا لا يزالون يرحلون إليه رحلتهم الصوفية المجهدة حجّا وعمرة، وما يزالون راحلين هائمين مفضين إلى سكر لا يدانيه سكر، متجردين عن كل رغبة فى النفس، حتى لكأنما تتعطل إرادتهم ويموت كل شئ إلا رغبتهم الجامحة فى الوجد الربانى.

ويلقانا شعراء صوفية كثيرون فى كل طريقة من طرق الصوفية بل إن كثيرين من أصحاب هذه الطرق التى كان يرثها الأبناء عن الآباء كانوا شعراء ويجرى الشعر على ألسنتهم على نحو ما نقرأ عند السادة الوفائية الشاذلية، والسادة البكرية فى أيام الماليك وأيام العثمانيين من مثل قول على بن وفا:

تغيبت عن عينى فغيبك شاهدى

ووجهك مشهودى وما عنك عائق

فإن غبت فالأشباح منى مغارب

وإن لحت فالأرواح منّى مشارق

ويتلو الشهاب الخفاجى البيتين بطائفة من أشعار أبنائه ويقول لهم أنفس قدسية أفيضت عليها العلوم اللدنية (1). ونشأ للصوفية وطرقهم من قديم مريدون كثيرون كانوا لا يزالون ينوّهون بأصحاب طرقهم وأساتذتهم، وقد يبالغون فى ذلك، فيطلبون منهم الهداية إلى طريق التقوى والصلاح (2).

وكان المديح النبوى يقترن بشعر التصوف من قديم، ومنذ حسان بن ثابت وكعب بن زهير والشعراء يمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم. وأخذت هذه المدائح تتكاثر منذ القرن الرابع الهجرى، تكاثرت على ألسنة أهل السنة مجسدين فى الرسول المثل الكامل للمسلم فى نسكه وجهاده فى سبيل نشر دعوته ورسالته النبوية، وكذلك على ألسنة الشيعة ذاهبين إلى أن نوره المحمدى يتجسّد فى أئمتهم من بعده. وبالمثل على ألسنة المتصوفة وقد أخذوا منذ الحلاج يشيعون فكرة الحقيقة المحمدية وأن الرسول مبدأ الوجود الروحى للحياة الإنسانية، بل مبدأ النور فى الكون، منه يستمد ضياءه. وقد مضى كل هؤلاء المادحين ينوهون بصحابة الرسول وبمعجزاته المادية ومعجزته الكبرى القرآنية، مع التوسل إليه بطلب الشفاعة يوم العرض وأن يكون دائما معينا لهم ونورا هاديا. ومازال الشعراء المصريون-مثلهم مثل شعراء العالم الإسلامى يتغنون بمديح الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا نشبت

(1) ريحانة الألبا 2/ 208 وما بعدها

(2)

تاريخ الجبرتى 2/ 212

ص: 351

الحروب الصليبية، وكانت حربا دينية، أخذ حملة الصليب يهاجمون رسول الإسلام برسائل منكرة، واندلعت الحروب بين المسلمين وبينهم فكان طبيعيا أن يزدهر المديح النبوى للرد على أعداء الإسلام من جهة، ومن جهة ثانية لرفع سيرته العطرة وجهاده فى نشر رسالته شعارا يتخذ منه الذائدون عن حمى الإسلام القدوة الحسنة دالعا فيهم الحماسة لدق أعناق الصليبيين وسحقهم سحقا ذريعا. وكاد لا يخلو ديوان شاعر مصرى حينئذ من مدحة أو مدائح نبوية، وخاصة منذ ظهور البوصيرى أنبه مادح مصرى للرسول، بل أنبه مادح عربى له على الإطلاق، وسنخصه بكلمة، ولكثيرين من معاصريه مدائح نبوية طنانة، ونكتفى بأن نشير من بينهم إلى شيخ الإسلام تقى الدين محمد بن على المشهور باسم ابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 وله أكثر من مدحة نبوية، ومن قوله فى مديحه صلى الله عليه وسلم (1):

لم يبق لى أمل سواك فإن يفت

ودّعت أيام الحياة وداعا

لا أستلذّ لغير وجهك منظرا

وسوى حديثك لا أريد سماعا

وكان العزازى معاصره المار ذكره بين الوشاحين يكثر من المديح النبوى، ومن قوله فى بعض مديحه للرسول الكريم (2):

أفى النبيّين برهانا ومعجزة

وخير من جاءه بالوحى جبريل

سلّ الإله به سيفا لملّته

وذلك السيف-حتى الحشر-مسلول

ويل لمن جحدوا برهانه وثنى

عنان رشدهم غىّ وتضليل

ولابن سيد الناس صاحب السيرة النبوية المتوفى سنة 734 للهجرة ديوان خصّه بمديح الرسول عليه السلام سماه «بشرى اللبيب بذكر الحبيب» مخطوط بدار الكتب المصرية. ولابن نياته وبرهان الدين القيراطى مدائح نبوية مختلفة، ويظل الشعراء يمدحون الرسول الكريم مدائح كثيرة ويطرد ذلك فى الحقبة العثمانية عند الشهاب الخفاجى وغيره (3)، كما يطرد التوسل به وطلب الشفاعة، على نحو ما نجد عند عبد الله الإدكاوى من مثل قوله متوسلا (4):

(1) الفوات 2/ 487.

(2)

المنهل الصافى 1/ 343.

(3)

وانظر نفحة الريحانة للمحبى (طبعة عيسى البابى الحلبى) 4/ 413 وما بعدها، وقد أنشد المحبى فى كتابه قطعا كثيرة من المدائح النبوية.

(4)

تاريخ الجبرتى 1/ 353.

ص: 352