الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحو ما هو معروف عن الجزار والوراق وابن دانيال، وسنترجم لهم فى حديثنا عن شعراء الفكاهة.
ويأخذ هذا الحديث صورة عابسة جادة عند نفر من الشعراء، وفى مقدمتهم ابن نباتة الذى أكثر -كما أسلفنا-عن الحديث عن كثرة عياله كقوله لأحد ممدوحيه:
يا سيّدى دعوة ذى حالة
…
أحالها الدهر وعدوانه
تفليسه فى الشام بعد الغنى
…
يقضى بأن القلب حرّانه
فارق أولادا وأهلا وما
…
تحمّلت للبين أظعانه
فهو يستعطف ممدوحه لما أصابه الدهر به من البؤس والضنك وضيق العيش، وقد فارق أولاده وأهله يبتغى أن يجد لهم ما يقوتهم وأن يعود لهم غنيا ثريا أوتى بسطة من الرزق. ويردد ابن نباتة ذلك كثيرا فى أشعاره. ووراءه كثيرون فى زمن المماليك كانوا يشكون مما يتجرعون من مرارة الحياة وعيشها البائس المضنى. وساعد على ذلك أن المماليك لم يرعوا الشعراء فى زمنهم رعاية الحكام من قبلهم، وأنهم قلما كانوا يسبغون عليها عطاياهم، وحتى ما كانوا يعطونه لهم أحيانا كان نزرا قليلا، فكان طبيعيا أن يستشعروا الحرمان والبؤس وأن يندبوا حظهم العاثر، وأن يصبّوا نقمتهم على الدهر والزمان. ثم حلت الحقبة العثمانية، فزادتهم إيغالا فى البؤس واليأس والشكوى المريرة. ولعل من الخير أن نقف قليلا عند بعض شعراء الرثاء والشكوى فى المراحل المختلفة لهذا العصر.
على بن النّضر
(1)
من أهل الصعيد كان نحويا أديبا روى عنه ابن برّى وغيره ويقال إنه كان يحفظ كتاب سيبويه، وكان متصرفا فى علوم كثيرة، وهو أحد قضاة الصعيد النابهين، تولى قضاء الصعيد وإخميم فى زمن الأفضل بن بدر الجمالى (487 - 515 هـ.) ويبدو أن موهبته الشعرية استيقظت مبكرة، مما جعله يقبل على شعر المديح محاكيا شعراء عصره. فمدح كثيرين من أعيان الصعيد وفى مقدمتهم بنو الكنز أعيان أسوان. ثم قصد بمديحه الأفضل فرفع منزلته وعينه قاضيا للصعيد، وفيه يقول أبو الصلت فى رسالته المصرية التى كتبها عن شعراء مصر وأدبائها، وقد
(1) انظر فى ترجمة ابن النضر وأشعاره رسالة أبى الصلت أمية فى نوادر المخطوطات لعبد السلام هرون (المجموعة الأولى) ص 40 وما بعدها وخريدة القصر (قسم شعراء مصر) للعماد الأصبهانى 2/ 90 والطالع السعيد ص 220 والبغية للسيوطى ص 353.
افتتحها بذكره قائلا: «من الأفاضل الأعيان، المعدودين من حسنات الزمان، ذو الأدب الجم والعلم الواسع، والفضل الباهر والنثر الرائع، والنظم البارع، وله فى سائر أجزاء الحكمة اليد الطولى، والرتبة الأولى» ويبدو أنه كان واسع الثقافة. ويقول الأدفوىّ صاحب الطالع السعيد:
«أكثر شعره فى تشكى الزمان والإخوان» . وكان قد قصد الأفضل فى أول الأمر راجيا خدمة عنده أو ولاية فخاب أمله فيه وضاع رجاؤه، فقال من قصيدة يعاتب فيها الزمان ويشكو الخيبة والحرمان:
بين التعزّز والتذلل مسلك
…
بادى المنار لعين كل موفّق
فاسلكه فى كل المواطن واجتنب
…
كبر الأبىّ وذلّة المتملّق
ولقد جلبت من البضائع خيرها
…
لأجلّ مختار وأكرم متّق
ورجوت خفض العيش تحت رواقه
…
لابدّ إن نفقت وإن لم تنفق
ظنّا شبيها باليقين ولم أخل
…
أن الزمان بما سقانى مشرقى (1)
لأقارعنّ الدهر دون مروءتى
…
وجرمت عزّ النّصر إن لم أصدق
وهو ينصح غيره من الشعراء أن لا يصعّروا خدهم كبرا، وأهم من ذلك أن لا يسيموا أنفسهم ذل الملق والهوان، وليتخذوا منه ومما صنع به الأفضل عبرة وعظة، إذ قدم له بين يدى ما أمّله منه قصيدة بديعة من قصائده، فكان جزاؤه خيبة ما بعدها خيبة، ومع ذلك فهو يمسك نفسه، إذ هى أكبر من أن تنكسر، بل إنه ليهدد بمقارعة الدهر ونزاله دون مروءته وعزة نفسه.
وفزع إلى غير قليل من الزهد والقناعة يحض عليهما ويذم الضراعة، متأسفا على امتهان نفسه وإراقة ماء وجهه للأفضل دون طائل بمثل قوله:
لهفى لملك قناعة لو أننى
…
متّعت فيه بعزّة المتملّك
ولكنز يأس كنت قد أحرزته
…
لو لم تعث فيه الخطوب وتفتك
آليت أجعل ماء وجهى بعده
…
كدم يهلّ به الحجيج بمنسك
لا أنشأتنى الحادثات لمثلها
…
ورميت قبل وقوعها بالمهلك
لقد أضاع ملك قناعة كان هنيئا به متمتعا فيه بعز سلطانه، وأضاع معه كنز يأس من الوزراء والحكام أمثال الأفضل كان مغتبطا به سعيدا، ويقسم أن لا يريق ماء وجهه لأحد بعد الأفضل
(1) مشرقى: جاعلنى أغصّ بما سقانى.
وما صنعه، ويدعو على نفسه بالموت إن هو فكر أن يعود إلى المديح وهوان الاستجداء وذله، ويتجه إلى ربه داعيا ضارعا بمثل قوله:
يا مستجيب دعاء المستجير به
…
ويا مفرّج ليل الكربة الدّاجى
قد أرتجت دوننا الأبواب وامتنعت
…
وجلّ بابك عن منع وإرتاج
نخاف عدلك أن يجرى القضاء به
…
ونرتجيك فكن للخائف الراجى
فقد أغلقت أبواب الرجاء من دونه، وأظلمت الدنيا من حوله، وغرق فى كرب وغمّ، وأخذه اليأس من كل جانب، فلا أمل، بل قنوط مقيم، حتى ليخشى على نفسه من أن يغلق الله عنه بابه، وإنه ليمتلى خوفا ورجاء. ويعزى نفسه ويدعوها إلى الصبر الجميل:
يا نفس صبرا واحتسابا إنها
…
غمرات أيام تمرّ وتنجلى
لا تيأسى من روح ربّك واحذرى
…
أن تستقرّى بالقنوط فتحذلى
إنه يتمنى لنفسه أن تخلص من محنة اليأس الذى يملؤها شقاء وعناء ومسرة ولوعة، فيخفف عنها ذلك كله أو يحاول أن يخففه بما يدعوها إليه من الصبر على البلاء وأن لا تيأس من روح ربها فإنه لا ييأس من روحه إلا الظالمون لأنفسهم المستسلمون للقنوط وأهواله.
وكان على بن النضر يجيد الرثاء كما يجيد الشكوى من الزمان وأهله، وله مرثية بديعة فى إبراهيم ابن الزبير حاكم قوص لسنة 472 للهجرة وهو جد المهذب بن الزبير الشاعر المار ذكره، استهلها بقوله:
يا مزن ذا جدث الرّشيد فقف معى
…
نسفح بساحته مزاد الأدمع (1)
وامسح بأردان الصّبا أركانه
…
كى لا يلمّ به شحوب البلقع
وبودّ نفسى لو سقيت ترابه
…
دم مهجتى ووقيته بالأضلع
وهو يتجه إلى المزن أو السحاب الممطر محاولا أن يستوقفه ليسفح أمطاره معه على قبر صاحبه، بل ليسفحا معا عليه قربانا من الدموع، ويتوسل إليه أن يمسح بأكمام الصّبا أركانه، حتى يظل ناضرا لا يلم به شئ من شحوب البلقع أو القفر من حول جدثه، وكان بود نفسه لو فداه بروحه وسقى ترابه دم مهجته ووقاه بأضلعه، ويخاطب قبره ملتاعا بقوله:
(1) مزاد: جمع مزادة وهى القرية.