الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«أجازنى رواية ديوانه وهو كثير الوجود بأيدى الناس» . ومما يدل على ذلك من بعض الوجوه ما جاء فى طبعة المستشرق بلمر لديوان البهاء من أنه اعتمد فى تحقيقه للديوان على مخطوطة بمكتبة أكسفورد كتبها شرف الدين بن الحلاوى الشاعر الموصلى الأصل الدمشقى الدار والمولد.
ونصّ ابن خلكان فى ترجمة البهاء زهير على أن هذا الشاعر لقيه ومدحه بقصيدة أحسن فيها كل الإحسان، وطبعا طلب إليه أن يجيزه رواية الديوان فأجازه له. وأنشد ابن تغرى بردى لابن الحلاوى قصيدة (1) فى نهاية الرقة، يتضح فيها تأثره بالبهاء وفيها يقول:
هلال ولكن أفق قلبى محلّه
…
غزال ولكن سفح عينى عقيقه (2)
على خدّه جمر من الحسن مضرم
…
يشبّ ولكن فى فؤادى حريقه
وشاع هذا الغزل الوجدانى فى الشام وغير الشام، وبدون ريب لمصر وشعرائها ابن سناء الملك وابن النبيه والبهاء زهير فضل شيوعه وذيوعه بعدهم فى مصر والبلدان العربية.
ابن (3) مطروح
هو جمال الدين يحيى بن عيسى بن مطروح، ولد بأسيوط سنة 592 ونشأ وأقام بقوص دار العلم والأدب والشعر حينذاك، واختلف إلى ما بها من حلقات العلماء والأدباء، وفيها تعرّف على البهاء زهير وكان يكبره بنحو عشر سنوات. وأعجب به البهاء، فاتخذه رفيقا وصديقا، واستمع إلى أشعاره وملكته الشعرية تتفتح فكان يشجعه. ويبدو أنه حين عيّن حاكم قوص مجد الدين اللمطى البهاء كاتباله، كما مرّ بنا فى ترجمته، سعى لديه ليسند عملا إلى صديقه
ابن مطروح
، يدل على ذلك ما فى ديوانه من مدائح موجهة لمجد الدين، وأكبر الظن أنه حين سخط مجد الدين على البهاء وأعفاه من منصبه سخط بالمثل على ابن مطروح وأعفاه من عمله. وحاول أن يستلّ من نفسه سخطه عليه، كما تشهد بذلك قصيدة يستعطفه بها استهلها بقوله:
لك الله إنّ العفو أقرب للتقوى
…
ومثلك أولى مثلى الصّفح والعفوا
(1) النجوم الزاهرة 7/ 60.
(2)
العقيق: اسم وديان ومواضع متعددة فى المدينة ونجد.
(3)
انظر فى ترجمة ابن مطروح وأشعاره ابن خلكان 6/ 285 ومرآة الجنان 4/ 119 وشذرات الذهب 5/ 247 والنجوم الزاهرة 6/ 370، 7/ 27 وحسن المحاضرة 1/ 567. وديوانه طبع قديما فى القسطنطينية سنة 1298 هـ وهو فى حاجة إلى نشرة محققة.
ولم يجد الصديقان بدّا من ترك قوص والاتجاه إلى القاهرة، ومرّت بنا مدحة رائعة للبهاء مدح بها السلطان الكامل عقب انتصاره الحاسم على الصليبيين سنة 618 وبالمثل نجد ابن مطروح يمدح الكامل منوها بهذا الانتصار بمثل قوله:
يا ناصر الدين الحنيف بسيفه
…
ومذلّ أهل الشّرك والطغيان
وقد يدل ذلك على هجرة الصديقين معا إلى القاهرة فى تلك السنة إن لم يكن قبلها، وكما اتجه البهاء إلى أبناء الملك الكامل يمدحهم وفى مقدمتهم الملك المسعود صاحب اليمن حين قدم منها إلى القاهرة سنة 621 كذلك مدحه ابن مطروح، ومدح أيضا عمه الأشرف موسى ممدوح ابن النبيه، وله مدائح مختلفة فى أمراء بنى أيوب. ويقول ابن خلكان فى ترجمته إنه تنقلت به الأحوال فى الخدم والولايات، ولا نعرف بالضبط ما هى هذه الخدم والولايات التى عمل بها.
ومرّ بنا أن البهاء زهير وثّق صلته بالملك الصالح نجم الدين أيوب، ونرى ابن مطروح يلتحق بخدمته، ولا ندرى أى الصديقين قدم صاحبه إليه، ويذكر ابن خلكان أن ابن مطروح كان فى خدمة الملك الصالح حين أصبح نائبا لأبيه الملك الكامل على البلاد الشرقية: الرّها والرّقة وغيرهما فى سنة 629 وظل معه هناك حتى إذا استولى الملك الصالح على مقاليد الأمور بالقاهرة سنة 637 استبقاه فى دمشق فترة ثم استقدمه إليه سنة 639 وعيّنه ناظرا فى الخزانة، ولم يزل ينعم بقربه وحظوته منه حتى سنة 643 إذ عيّنه وزيرا له فى دمشق يدير شئونها، فارتفعت منزلته. وقدم عليه الملك الصالح فى سنة 646 ولم تعجبه بعض تصرفاته فعزله من منصبه وسيّره مع جيش للاستيلاء على حمص. وسمع بحملة لويس التاسع ومن انضموا إليه من حملة الصليب وأنهم اجتمعوا بجزيرة قبرس لقصد مصر، فسحب جيشه المحاصر لحمص وعاد به إلى مصر فى شهر المحرم سنة 647 وخيّم به على المنصورة وابن مطروح فى خدمته وهو متغير عليه متنكر له إلى أن توفى فى شعبان سنة 647 وقاد ابنه توران شاه المعركة، ودمر الحملة الصليبية، وأسر لويس التاسع وسجن بدار ابن لقمان بالمنصورة والطواشى صبيح يحرسه إلى أن فدى نفسه بأربعمائة ألف دينار وعاد مهزوما مدحورا مع فلول جيشه الصليبى إلى البحر المتوسط وما وراءه. وأغلب الظن أن ابن مطروح لم يحضر المعركة فقد عاد بعد وفاة الملك الصالح إلى داره بالفسطاط وانقطع إليها، وشاع أن لويس التاسع يعدّ حملة ثانية لمصر فكتب إليه قصيدته البديعة:
قل؟ ؟ ؟ إذا جئته
…
مقال صدق من قؤول نصيح
آجرك الله على ما جرى
…
من قتل عبّاد يسوع المسيح
أتيت مصرا تبتغى ملكها
…
تحسب أن الزّمر-يا طبل-ريح
فساقك الحين إلى أدهم
…
ضاق به عن ناظريك الفسيح (1)
وكلّ أصحابك أودعتهم
…
بحسن تدبيرك بطن الضّريح
خمسون ألفا لا ترى منهم
…
إلا قتيلا أو أسيرا جريح
وفّقك الله لأمثالها
…
لعلّ عيسى منكم يستريح
وقل لهم إن أضمروا عودة
…
لأخذ ثار أو لقصد صحيح
دار ابن لقمان على حالها
…
والقيد باق والطّواشى صبيح
ويعلّق ابن تغرى بردى على القصيدة بقوله: «لله درّه! فيما أجاب عن المسلمين مع اللطف والبلاغة وحسن التركيب» . والقصيدة تمتلئ بالسخرية والتهكم، فقد ظن لويس ظنا كاذبا أن مصر قريبة المنال فإذا من دونها حزّ رقاب الكثرة من جيشه وأسر البقية فى الأغلال. ويسخر منه سخرية قاتلة حين يطلب إليه أن يعيد أمثال تلك الغزوة المشئومة حتى يستريح منهم عيسى وتحزّ رقابهم جميعا. ويسخر من البابا ودعوته لهم أن يتجهوا بحملاتهم الصليبية الخاسرة إلى الشرق، ويقول له ساخرا متهكما: لا تزال دار ابن لقمان التى سجنت فيها على حالها، ولا يزاد القيد أو الغلّ باقيا ولا يزال حارسك صبيح فى انتظارك. كلمات مسمومة وكأنها سفّود يشويه عليه، مع لطف التعبير ودقته ورهافته ومع الوخز الأليم.
وظل ابن مطروح ملازما داره إلى أن لبّى نداء ربه فى مستهل شعبان سنة 650 ونراه فى السنتين الأخيرتين من حياته طوال مقامه بمنزله يكثر من الابتهال لربه أن يغفر له، حتى إذا توفى وجد البيتان التاليان فى رقعة تحت رأسه:
أتجزع للموت هذا الجزع
…
ورحمة ربّك فيها الطّمع
ولو بذنوب الورى جئته
…
فرحمته كلّ شئ تسع
ويقول ابن خلكان: «كانت خلاله حميدة جمع بين الفضل والمروءة والأخلاق الرضية، وكانت بينى وبينه مودّة أكيدة. وله ديوان أنشدنى أكثره» . ويبدو أن ديوانه المطبوع لا يحتفظ
(1) الحين: الهلاك. أدهم: قيد.
بجميع أشعاره، ومن أكبر الأدلة على ذلك أننا لا نجد فيه شيئا من مدائحه فى الملك الصالح إلا مقطوعة ذكر فيها عرضا مع أنه ظل فى خدمته نحو عشرين سنة، بينما نجد فى الديوان غير ملك أو أمير أيوبى، وربما كان حذف مدائحه من الديوان من صنيع الشاعر نفسه، وكأنما عزّ عليه أن يعزل من منصبه، فانتقم لنفسه بحذف تلك المدائح.
ومرّ بنا آنفا أنه نشأت بينه وبين البهاء زهير مودة صافية منذ أيام صباه وشبابه فى قوص، حتى كانا كالأخوين، وامتدت بينهما هذه المودة الحلوة طوال حياتهما، وجنيا منها واقتطفا أزهارا أو ثمارا هنيئة، كما يوضح ذلك ديواناهما وما فيهما من مراسلات شعرية بينهما. وهو مثل صديقه يكثر من شعر الغزل الوجدانى غير أنه كان يميل أكثر منه إلى الرمز عن وجده باتخاذه غالبا البدويات رمزا لمحبوباته، وكأنه يريد أن يقرن وجده بوجد مجنون ليلى وأضرابه من شعراء نجد، حيث يبثّ فى وجده وحبه شذا الحنان والشوق الذى يكتظ به من قديم الغزل العذرى وما يطوى فيه من حرارة ولوعة، على شاكلة قوله:
هى رامة فخذوا يمين الوادى
…
وذروا السيوف تقرّ فى الأغماد (1)
وحذار من لحظات أعين عينها
…
فلكم صرعن بها من الآساد (2)
من كان منكم واثقا بفؤاده
…
فهناك ما أنا واثق بفؤادى
يا صاحبىّ ولى بجرعاء الحمى
…
قلب أسير ماله من فادى (3)
سلبته منى يوم بانوا مقلة
…
مكحولة أجفانها بسواد
وبحىّ من أنا فى هواه ميّت
…
عين على العشّاق بالمرصاد
كيف السبيل إلى وصال محجّب
…
ما بين بيض ظبا وسمر صعاد (4)
حرسوا مهفهف قدّه بمثقّف
…
فتشابه الميّاس بالميّاد (5)
وواضح أنه رمز لحبه والتياعه فيه برامة فى نجد وظبائها ساحرات الأعين اللائى يصرعن بهن الأسد، وقد خلف قلبه أسيرا هناك ولا من يفديه سلبته منه عين فاتنة مكحولة أجفانها بسواد
(1) رامة: موضع بالبادية.
(2)
العين: بقر الوحش.
(3)
جرعاء الحمى: أرضه ذات الحزونة
(4)
الظبى: جمع ظبة: حد السيف. الصعاد: جمع صعدة: القناة أو الرمح.
(5)
المياس: المتبختر. المياد: المتمايل، والمثفف: الرمح.
آسر، وأحد لا يستطيع أن يصل أو يلمّ بتلك الديار: ديار رامة والحبيبة، فمن دونها سيوف ورماح مسلولة مشرعة، ويعجب أن يحرس قدّها الرشيق المتبختر المختال برمح مشبه لها مياد أو اميّال. ويقول:
سفرت وجاءت فى الغلائل تنثنى
…
فأرتك حظّ المجتلى والمجتنى
ورنت فما تغنى التمائم والرّقى
…
وأبيك عن لحظات تلك الأعين
بدويّة كم دونها من ضارب
…
بالسيف مرهوب السّطا لم يؤمن
لا يخدعنّك لحظ طرف فاتر
…
أبدا ولا تأمن لعطفة ليّن
ألبستنى يا هاجرى ثوب الضّنا
…
وأخذتنى يا تاركى من مأمنى
لقد رفعت عن وجهها نقابها فشغفت قلبه حبا وافتتانا، ومدّت بصرها إليه فوقع فى حبائل أعينها مسحورا ولم تعد تغنيه التمائم والرقى، وإنها لبدوية أعرابية تحميها السيوف المرهفة. وينصح صاحبه أن لا تخدعه العيون الناعسة ولا القدود اللينة عما يسببان له من آلام وأوصاب دون أن يذوق شيئا من وصال، ويشكو لصاحته البدوية ضناه وتباريح حبه، يقول:
خذوا حذركم من طرفها فهو ساهر
…
وليس بناج من دهته المحاجر
فإن العيون السود وهى فواتر
…
تقدّ السيوف البيض وهى بواتر
ولا تخدعوا من رقّة فى كلامها
…
فإن الحميّا للعقول تخامر
من القاصرات الطّرف غارت لحسنها
…
ضرائرها والنيّرات الضّرائر
إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها
…
فياطيب ما تملى عليه الضّفائر
وهو يحذّر من طرف صاحبته، فالسهام دائمة مصوبة منه، ومن تصبه محاجرها تصمى قلبه، وياللعجب فإن العيون الفاترة الناعسة تقد السيوف الباترة القاطعة، ويحذّر من رقة كلامها المعسول فهو كالخمر يذهب بالعقول. ويقول إنها عفيفة مصونة، تغار من حسنها الفاتن قريناتها الحسناوات والكواكب النيرات. والصورة فى البيت الأخير رائعة، فضفائر شعرها تطول حتى تلمس خلخالها وكأنما تحدثه بأخبار قرطها، ومن غزله فى بواكير حياته:
خدّ توقّد إذ ترقرق ماؤه
…
لهفى على المتوقّد المترقرق
حتى الحلىّ لحسنها متوسوس
…
فاعجب لحسن للجماد منطّق
يا شمس قلبى فى هواك عطارد
…
لولا تعرّضه لها لم يحزق
لم انس ما قالت وقد لمست يدى
…
ماذا لقينا منه أو ماذا لقى
وأقول يا أخت الغزال ملاحة
…
فتقول لا عاش الغزال ولا بقى
يقول إن خد صاحبته المتوهج حمرة كأنه نار موقدة، وماء جماله ونضرته يتلألأ فيه ويترقرق، مما يملؤه فتنة به ولهفة عليه. ويقول إن حسنها ينطق حتى الجماد، وما وسوسة حليها إلا إعجاب منه بها، وها هو قلبه قد احترق من تعرضه لشمس حسنها كما احترق عطارد أقرب الكواكب السيارة للشمس من تعرضه لنورها الحار المشتعل، ويذكر رقة قلب صاحبته وأنها حين لقيته وسلمت أظهرت له عطفا وشفقة، حتى إذا شبّهها بالغزال حسنا وملاحة قالت له مدلة: لا عاش الغزال ولا بقى، فهى أكثر منه فتنة وسحرا وجمالا. ويقول:
هزّوا القدود وأرهفوا سمر القنا
…
واستبدلوا بدل السيوف الأعينا
وتقدّموا للعاشقين فكلّهم
…
أخذ الأمان لنفسه إلا أنا
لا خير فى جفن إذا لم يكتحل
…
أرقا ولا جسم تجافاه الضّنا
لما انثنى فى حلّة من سندس
…
قالت غصون البان ما أبقى لنا
شبّهته بالبدر قال: ظلمتنى
…
-يا عاشقى والله-ظلما بيّنا
وهو يتصور هؤلاء الفاتنات كأنهن يقدن معركة رماحها قدودهنّ وسيوفها عيونهنّ وكل من حوله يطلب منهن الأمان إلا هو، فقد تعلق بإحداهن، وهو لا يرى للحياة قيمة بدون الحب والسهاد فيه وضنا الجسم والنحول. ويرى صاحبته فى حلة سندسية خضراء، فيتصور كأن غصون شجر البان الذى طالما تغنى به المحبون تقول: ما أبقت لنا من الحسن والنضرة والجمال، ويشبهها بالبدر فتقول له مدلة كصاحبته السابقة: ظلمتنى ظلما بينا فهى أكثر منه جمالا وحسنا وروعة. ومن أبياته البديعة التى تتداولها كتب الأدب قوله فى بعض غزله.
لبسنا ثياب العناق
…
مزرّرة بالقبل
ولعل فى كل ما قدمت ما يصور غزل ابن مطروح الوجدانى وما أشاع فيه من الرقة واللطف والدماثة والظرف وعذوبة الروح وخفة الظل.
برهان (1) الدين القيراطى
هو إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن عسكر، ولد لأبيه سنة 726. والقيراطى نسبة إلى قيراط بلدة بمحافظة الشرقية سميت فيما بعد باسم كفر النحال وضمّت إلى مساكن مدينة الزقازيق، كان أبوه شيخا جليلا ولى القضاء بالمنوفية ودمياط وأسيوط، ودرس فى مدرسة كانت تجاور الإمام الشافعى وبمشهد السيدة نفيسة والجامع الأزهر توفى سنة 740. ونشأ برهان الدين بالقاهرة وحفظ القرآن الكريم واختلف إلى حلقات العلماء إلى أن برع فى الفقه وعلمى الأصول والعربية وأكبّ على كتب الحديث وأخذها عن أئمتها، ودرّس وحدّث بالقاهرة. واستيقظت فيه مبكرة موهبته الشعرية، فكان ينظم المدائح ويدبجها فى السلطان حسن وغيره، وسلك فى شعره طريقة ابن نباتة، وتلمذ له وراسله. وله فى وصف شعره ونثره تقريظ بديع احتفظ بفقرات منه الحموى فى باب الاقتباس بخزانته. ويقول ابن تغرى بردى فى ترجمته بالمنهل الصافى:«هو شاعر عصره بعد الشيخ جمال الدين بن نباتة وأقرب الناس إليه من دون تلامذته ومعاصريه من شعراء عصره، مع علمى بمن عاصره من الشعراء ولا حاجة لنا إلى ذكرهم فإنه أرق وأحلى وأرشق» . ويقول ابن حجر: «كان له اختصاص بالشيخ السبكى وأولاده وله فيهم مدائح ومراثى وبينهم مراسلات» ويقول ابن العماد فى الشذرات: «له فى تاج الدين السبكى غرر المدائح» واحتفظ تاج الدين فى كتابه «طبقات الشافعية» بمراسلات بينه وبين القيراطى استغرقت نحو ثمانين صحيفة، وأنشد مرثية له فى أبيه مطلعها:
أمسى ضريحك موطن الغفران
…
ومحلّ وفد ملائك الرحمن
ورأى أن يجاور بمكة مثل كثيرين من علماء عصره وقبل عصره، فرحل إليها، وأخذ عنه جماعة من علمائها والقادمين عليها ورووا عنه ديوانه. ويذكر ابن حجر بعض تلاميذه من جلّة المحدّثين فى القاهرة أمثال شيخ الحفاظ أبى الفضل العراقى والشيخ بدر الدين البشتكى، وفى مكة أمثال جمال الدين بن ظهيرة وتقى الدين الفاسى المذكور فى مصادره، وقد كتب عنه بعض شعره
(1) انظر فى ترجمة برهان الدين وأشعاره المنهل الصافى لابن تغرى بردى (طبع دار الكتب المصرية) 1/ 70 والنجوم الزاهرة 11/ 196 وطبقات الشافعية للسبكى 9/ 314 - 398 و 10/ 331 والدرر الكامنة لابن حجر 2/ 32 وشذرات الذهب لابن العماد 6/ 270 والعقد الثمين فى تاريخ البلد الأمين لتقى الدين الفاسى (طبع القاهرة) 3/ 217. وله ديوان أسماه مطلع النيرين طبع بمصر سنة 1296 هـ ومنه عدة مخطوطات بدار الكتب المصرية.
وأجاز له روايته، ومازال طلاب علمه وشعره يعكفون على حلقته بمكة حتى توفى بها سنة 781.
ولبرهان الدين غزل وجدانى كثير، أو كما يسميه البهاء زهير غزل على الطريقة الغرامية، غزل يقدمه صاحبه لمحبوبته مؤملا فى الوصال، ودائما لا وصال بل دموع وأشواق ووصف للصبابة والغرام والوجد الذى لا تنطفئ ناره فى قلوب أصحاب هذا الغزل، مع مشاعر غامرة من اللطف والرقة، ومع الألفاظ والأساليب الرشيقة من مثل قوله:
بأبى لحظ غزال
…
قائل فى الفلوات (1)
أخذت بابل عنه
…
بعض تلك النّفثات
حسنات الخدّ منه
…
قد أطالت حسراتى
أعشق الشامات منه
…
وهى أسباب مماتى
إنّ للموت بأقدا
…
ح جفونى سكرات
قلت قد مت غراما
…
قال لى مت بحياتى
والأبيات تتطاير عن الفم بخفة، وهو يشكو من لحظ غزال بدوى يقضى أوقات قيلولته فى الفلوات، غزال ينفث فى كل ما حوله السحر، بفتنته وجمال وخدوده التى ملأت قلب الشيخ حسرات، لأنه يتمنى الدنو منها ليتملّى بحسنها وما فيها من شامات تزيدها حسنا وجمالا، وإنه ليذوب-أو كما يقول-ليموت وجدا والتياعا، وتلك سكرات الموت تملأ أقداح جفونها، ويتضرع إليها قائلا إنه مات غراما، فتضحك فى خبث مدلّة عليه قائلة له:«مت بحياتى» ومن نفس هذا المعين المتدفق السلس يقول:
غرامى فيك يا قمرى غريمى
…
وذكرك فى دجى ليلى نديمى
وملّنى الحميم وصدّ عنى
…
ومالى غير دمعى من حميم
وكم سأل العواذل عن حديثى
…
فقلت لهم على العهد القديم
وعمّ يسائلون ولى دموع
…
تحدّثهم عن النّبأ العظيم
بدت فى خدّها شامات مسك
…
كحظى أو كليلى أو همومى
إذا نيران خدّيها تبدّت
…
رأيت بهنّ جنّات النّعيم
ومن شغفى بغصن القدّ منها
…
أغار على الغصون من النسيم
(1) قائل: من القيلولة وهى وسط النهار، وفعله قال يقيل.
وكأنى بصاحبته فى الأبيات هى نفس صاحبته الأولى، ويقول إن غرامها غريمه وذكرها نديمه طوال الليل، والتورية فى البيت الثانى بديعة فقد ملّه الحميم والصديق فى حب صاحبته، ولم يبق له إلا دمعه الحميم الحار يرافقه. ويسيل البيت الثالث صفاء وعذوبة مع ما فيه من الجناس وكذلك البيت الرابع وما به من اقتباس عن سورة «النبأ» وتعجب أن يتساءلوا ودموعه تجرى على خدودها، ويقول إن شامات خدودها الضاربات إلى السواد كأنها نقط مسك أو كأنها مقتطعة من حظه معها أو من ليله أو من هموم حبها المشتعل فى حنايا صدره. ويعجب أن يجمع خداها بجمرتهما المتوهجة بين نيران الجحيم حرارة وجنّات النعيم وورودها الفاتنة. ويعلن غيرته عليها حتى ليغار من النسيم إن هبّ على ما يشبه غصنها من غصون الرياض النّاضرة. ويقول:
يا من هجرت على هواهم عاذلى
…
أيحلّ فى شرع الهوى أن أهجرا
طلعت بدور التّمّ من أزراركم
…
فغدا اصطبار الصّبّ منفصم العرا
من كل هيفاء القوام كأنها
…
غصن يحرّكه النسيم إذا سرى
ذكرت فصغّرها العذول جهالة
…
حتى بدت للناظرين فكبّرا
وجهك معنى الحسن حتى أقبلت
…
فرأيته فيها يلوح مصوّرا
لما درت أنى الكليم من الهوى
…
جعلت جوابى فى المحبة لن ترى (1)
يا من إذا ما مرّ حلو حديثها
…
أغناك عن مرّ العتيق وأسكرا (2)
أرخصت يوم البين سعر مدامعى
…
وتركت قلبى بالغرام مسعّرا (3)
وهو يتضرع إلى صاحبته أن لا تذيقه ألم الهجران وأن تنقذه منه، فقد نفد صبره إذ رآها مع صواحبها الفاتنات وهن يمسن ميس الغصون حين يداعبها النسيم، ويقول إن العذول كان يحاول الغض من جمالها تسرية عن نفسه فلما رآها بهت وصاح. الله أكبر: أما هو فيرى فيها كل معانى الفتنة مصوّرة مغرية. ولما علمت مقدار وجده المبرح بها لم يأخذها عليه إشفاق أو رحمة، بل مضت تدلّ عليه، وتقول له: لن ترانى. ويعود إلى ندائها والتضرع إليها مصورا روعة حديثها وحلاوته المسكرة، ويقول لها: لقد أرخصت مدامعى وأسعرت قلبى أو أشعلته نارا موقدة. وفى البيتين الأخيرين طباق وجناس مندمجان فى هذا الأسلوب السهل السائغ، ويقول:
(1) الكليم: الجريح. لن ترى: لن ترانى.
(2)
يريد بالعتيق الخمر المعتقة.
(3)
فى مسعر تورية لأنها إما من السعر وهو المعنى المتبادر غير المراد، وإما من السعير أى الجحيم وهو المعنى المراد.
علموا بأنّى لا أحول فعذّبوا
…
ودروا بأنى عاشق فتغضّبوا (1)
قتلوا المتيّم فى الهوى وتظلّموا
…
وجنوا عليه بصدّهم وتعتّبوا
ومهفهف لولا حلاوة وجهه
…
ما كان مرّ عذابه يستعذب
إن كان يرضى أن أموت صبابة
…
فجميع ما يرضاه عندى طيّب
يا باخلا وله أجود بمهجتى
…
رفقا على صبّ عليك يعذّب
إن ملت فالأغصان يعهد ميلها
…
أو غبت فالأقمار قد تتغيّب
وهو يقول إن صاحبته عرفت أنه لا يستطيع حولا عنها فتمادت فى تعذيبه، ولم ينفعه عندها عشقه. فقد أظهرت له سخطا وغضبا، ومع أنها فتكت بمحبها تشتكى منه ظلما وجورا. وما تزال تتجنى عليه، ويقول إن جمال وجهها هو الذى جلب له هذا العذاب المرير، وإنه ليستعذبه إرضاء لها. حتى ليطيب له الموت فى سبيلها. ويقارن بينه وبينها، فهو يجود لها بروحه، وهى شحيحة شحا شديدا، لا تجود له حتى بنظرة، ويعلل نفسه قائلا: إن مالت عنه فذلك طبيعى، لأنها غصن رشيق، وطبيعة الأغصان أن تميل مع الرياح، وكذلك إن وعدته وغابت فطبيعة الأقمار أن تغيب عن الآفاق.
وكان القيراطى يكثر من التوريات، واختار له ابن حجة الحموى منها فصلا (2) طريفا أودعه خزانته، من مثل قوله:
تنفّس الصبح فجاءت لنا
…
من نحوه الأنفاس مسكيّه
وأطربت فى العود قمرية
…
وكيف لا تطرب عوديّه
وعوديّة لها معنيان: القمرية التى تطرب على عود الشجر، والمغنية الضاربة على العود، والتورية واضحة. ولعل فيما سبق ما يوضح الغزل الوجدانى أو الغرامى عند القيراطى، وكان-كما أسلفنا-شيخا من شيوخ الحديث النبوى فى عصره، وكان طلابه يختلفون إليه فى أخذه عنه بالقاهرة ومكة. ولا ريب فى أن إسهام مثله فى هذا الغزل يدل دلالة قاطعة على أن موجته بمصر فى هذا العصر كانت حادة وأنها عمت حتى شيوخ الحديث وحفاظه من أمثال القيراطى. ووراءه كثيرون من الشيوخ الفقهاء والمحدثين المصريين خلفوا دواوين تحمل سيولا من هذا الغزل الوجدانى الرقيق أمثال ابن دقيق العيد وابن الصائغ الحنفى وابن حجر
(1) أحول: أتحول.
(2)
خزانة الأدب للحموى ص 381.
نور الدين (1) على العسيلى
من علماء مصر وفضلائها وشعرائها فى القرن العاشر الهجرى توفى سنة 994 للهجرة وكان فقيها شافعيا تتلمذ لشيوخ الأزهر، وأظهر براعة فى فنه، وعكف على التأليف والتدريس، وفيه يقول الشهاب الخفاجى:«نور حدقة الزمان ونور (زهر) حديقة الحسن والإحسان وكحل عيون الفضلاء والأعيان» وعاش طويلا، وتعلق بأخرة بالسادة البكرية، فقابله الدهر-كما يقول الشهاب الخفاجى-بوجه طليق. ويبدو أن موهبته الشعرية تفتحت مبكرة، فقد غطّى اشتهاره بشعره على شهرته بالعلم والفقه والفضل، وغلب عليه الغزل من مثل قوله:
سقى الحمى ولياليه التى سلفت
…
من أدمعى ومن الوسمى هتّان (2)
لى فى الديار سقاها المزن صيّبه
…
غزال حسن بديع الخلق فتّان (3)
يا ربرب الحسن قد بالغت فى تلفى
…
أما لهجرك يالمياء هجران (4)
هلا نظرت إلى مضناك راحمة
…
فكان يشفع منك الحسن إحسان
وهو لا يمل الدعاء بأن يسقى الحمى وليالى حبه فيه أمطار الربيع ودموعه الهاطلة أبدا ففى الديار غزال سحره وخلب لبه. ويهتف بسرب الحسن أن يلتفت إليه وبصاحبته لمياء أن تصله بعد طول الهجر والعذاب، حتى ولو بنظرة عطف وإشفاق على مضناها الذى طال عناؤه وشقاؤه وحرمانه. ويقول:
كأنّ الذى أهوى على نفسه جنى
…
فمال على تلك المحاسن بالفتك
فأغرق خدّيه بماء جماله
…
وأوقع فى الظّلماء ناظره التّركى
وهاجفنه يبكى عليه من الضّنا
…
وها خصره من ثقل أردافه يشكى
وهو يجعل المحبوب التركى جانبا على نفسه، فقد أغرق خديه فى ماء جماله أو بعبارة أخرى فى رونق حسنه، وكأنما كحل ناظره الأسود بالظلام الداجى فلمع بريقه، ويتخيل كأنما جفنه يبكى
(1) انظر فى نور الدين العسيلى وترجمته ريحانة الألبا (تحقيق عبد الفتاح الحلو) 2/ 197 وما بعدها وشذرات الذهب 8/ 434
(2)
الوسمى: مطر الربيع. هتان: هطال.
(3)
المزن: السحاب. صيّبه: مطره.
(4)
الربرب: القطيع من الظباء أو البقر الوحشى والاستعارة واضحة.