المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - المجتمع - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٧

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - فتح العرب لمصر والحقب الأولى

- ‌(ا) فتح العرب لمصر

- ‌(ب) زمن الولاة

- ‌(ج) الطولونيون

- ‌(د) الإخشيديون

- ‌2 - الفاطميون-الأيوبيون

- ‌(ا) الفاطميون

- ‌3 - المماليك-العثمانيون

- ‌(ا) المماليك

- ‌(ب) العثمانيون

- ‌4 - المجتمع

- ‌الفصل الثانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علم الجغرافيا

- ‌(ا) علوم الأوائل

- ‌(ب) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب مصر

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعر دورى ورباعيات وموشحات وبديعيات

- ‌(ا) الشعر الدورى

- ‌(ب) الرباعيات

- ‌(ج) الموشحات

- ‌ العزازى

- ‌ابن الوكيل

- ‌(د) البديعيات

- ‌4 - شعراء المديح

- ‌«المهذب بن الزبير

- ‌ابن قلاقس

- ‌ ابن سناء الملك

- ‌ابن نباتة

- ‌5 - شعراء المراثى والشكوى

- ‌على بن النّضر

- ‌على بن عرّام

- ‌6 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن هانئ

- ‌ظافر الحداد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن النبيه

- ‌ البهاء زهير

- ‌ ابن مطروح

- ‌2 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ تميم بن المعز

- ‌ ابن الذروى

- ‌ أحمد بن عبد الدائم

- ‌ حسن البدرى الحجازى الأزهرى

- ‌3 - شعراء الطبيعة ومجالس اللهو

- ‌ الشريف العقيلى

- ‌ ابن قادوس

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن الكيزانى

- ‌ ابن الفارض

- ‌البوصيرىّ

- ‌5 - شعراء الفكاهة

- ‌ ابن مكنسة

- ‌الجزّار

- ‌ السراج الوراق

- ‌ ابن دانيال

- ‌ عامر الأنبوطى

- ‌6 - شعراء شعبيون

- ‌الغبارى

- ‌ ابن سودون

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ ابن الصيرفى

- ‌ القاضى الفاضل

- ‌ محيى الدين بن عبد الظاهر

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌ ابن أبى الشخباء

- ‌ ابن مماتى

- ‌3 - المقامات

- ‌ ابن أبى حجلة

- ‌القلقشندى

- ‌السيوطى

- ‌ الشهاب الخفاجى

- ‌4 - المواعظ والابتهالات

- ‌أبو الحسن الشاذلى

- ‌5 - كتب النوادر والسير والقصص الشعبية

- ‌(ا) كتب النوادر

- ‌كتاب المكافأة

- ‌أخبار سيبويه المصرى

- ‌كتاب الفاشوش فى حكم قراقوش

- ‌«هز القحوف»

- ‌(ب) كتب السير والقصص الشعبية

- ‌ سيرة عنترة

- ‌ السيرة الهلالية

- ‌سيرة الظاهر بيبرس

- ‌سيرة سيف بن ذى يزن

- ‌ ألف ليلة وليلة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌4 - المجتمع

‌4 - المجتمع

(1)

مصر-كما وصفها الذكر الحكيم-جنات وعيون وزروع ومقام كريم. وفى جنات هذه الزروع وجنباتها عاش سكانها من القبط ومن نزل بها من العرب، ومع الزمن يزداد اختلاط العرب بسكانها وخاصة منذ أسقطهم الخليفة العباسى المعتصم من دواوين الجيش فى نهاية الربع الأول من القرن الثالث الهجرى، فقد مضوا يخالطون سكانها لا فى مدنهم فحسب، بل أيضا فى قراهم وزروعهم مؤلفين جميعا شعبها المصرى. وكانت تتوزعه-كغيره من الشعوب العربية- ثلاث طبقات عليا ووسطى ودنيا. وتشمل الطبقة الأولى الوالى وصاحب الخراج والقاضى وكبار أصحاب المناصب وقواد الجند ومعهم الأشراف من بيتى العباسيين والعلويين وكبار التجار والإقطاعيين من المماليك. والطبقة الوسطى تشمل العلماء والجند وأوساط الزراع أصحاب الملكيات الصغيرة والقائمين على الصناعات. أما الطبقة الدنيا فتشمل الفلاحين والصناع وصغار التجار. وبجوار هذه الطبقات كان هناك رقيق يجلب من أواسط إفريقيا ومن بيزنطة وأرمينية وثغور البحر المتوسط، وكان كثير منه يحرّر ويصل إلى أرفع المناصب على نحو ما هو معروف عن فاتك الرومى وكافور الحبشىّ القائدين فى زمن الإخشيد. وكان هناك أهل الذمة من الأقباط.

ويمد النيل مصر من قديم برخاء لا مقطوع ولا ممنوع، ومعروف أن أرضها قبيل الفتح العربى كانت موزعة بين الدولة والكنيسة وكبار الإقطاعيين، وقد ترك العرب الفاتحون للكنيسة وللإقطاعيين ما لهم من الأراضى على أن يؤدوا عنها الخراج أو كما نقول الآن الضرائب، وبالمثل كان يؤدّيها أصحاب الملكيات الصغيرة من الأرض وكل فالح لها أو زارع. وترك للقبط الإشراف

(1) انظر فى المجتمع الولاة والقضاة للكندى والمغرب لابن سعيد بقسميه عن الفسطاط والقاهرة ومروج الذهب للمسعودى ومصر عند المقدسى وابن حوقل وناصر خسرو والإشارة إلى من نال الوزارة لابن ميسر وترجمة يعقوب ابن كلس والأفضل بن بدر الجمالى فى ابن حلكان والخطط للمقريزى والجزءين الثالث والرابع من صبح الأعشى والنجوم الزاهرة لابن تغرى بردى وبدائع الزهور لابن إياس وكتاب قوانين الدواوين لابن مماتى وسيرة صلاح الدين لابن شداد ورحلة ابن جبير ومعيد النعم ومبيد النقم للسيكى والمدخل لابن الحاج ونظم الحكم بمصر فى عصر الفاطميين لعطية مصطفى مشرفة والمجتمع المصرى فى عصر السلاطين المماليك لسعيد عبد الفتاح عاشور والحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى لآدم ميتز وقصة القاهرة وتاريخ مصر فى العصور الوسطى لستانلى لين بول وتاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان.

ص: 44

المالى على شئون الخراج أو ضرائب الأرض، وظل لهم ذلك وحدهم طوال الأزمنة الإسلامية حتى الثلاثينيات من القرن الحاضر. وكان أهل الذمة من القبط وغيرهم يؤدون الجزية، وهى تتراوح بين دينار ودينارين سنويا، يؤديها القادر بمقدار قدرته، ولم يكن يؤديها راهب ولا شيخ ولا امرأة ولا صبى، وهى فى واقعها ضريبة دفاع لأنهم لم يكونوا يشتركون فى الحرب.

وكانت تؤخذ بجانب ذلك مكوس على الصناعات، ومن أهمها صناعة القراطيس من ورق البردى، وكانت هذه الصناعة رائجة جدّا حتى أواخر القرن الثانى الهجرى حين نقلت فى عهد الرشيد من الصين صناعة الورق وأنشى لها مصنع ببغداد. وأهم من هذه الصناعة صناعة النسيج والثياب، وقد ظلت مزدهرة طوال الحقب، وكان النساء والغلمان فى الوجه البحرى يشتركون فيها، واشتهرت بها المدن الشمالية: دمياط وشطا وتنيس ودبيق والإسكندرية، وكان من نسيج الأخيرة ما يباع بما يعادل وزنه من الدراهم، وكان ثمن الثوب الدبيقى مائة دينار وقد يبلغ مائتين، واشتهرت تنيس بثوب كانت تصنعه للخليفة منسوجا بالذهب وليس فيه من الغزل سوى أوقيتين، وكان يقدر بألف دينار. وكانت السجاجيد والأبسطة والستور تصنع بالفيوم والصعيد، وكانت تصنع الحصر فى أمكنة كثيرة، كما كانت تصنع بعض أنواع الجلود. وعلى كل هذه الصناعات كانت تؤخذ المكوس كما كانت تؤخذ على استخراج بعض المعادن وخاصة الشبّ والنطرون، وأيضا على بناء السفن. وكانت التجارة رائجة، وكان يتجر فيها كثير من الفرس والروم واليهود.

ومما يدل بوضوح على رخاء مصر فى عصر الولاة ومدى ما كان يتمتع به القبط من حسن المعاملة خبر رواه المقريزى وقع فى أثناء زيارة المأمون لمصر سنة 217 إذ مر بقرية يقال لها «طاء النمل» وكانت إقطاعية لقبطية عجوز تسمى مارية، فتعرضت له تسأله أن ينزل فى ضيافتها مع حاشيته ومن يرافقه من جنده، وعجب لكثرة ما قدمت من أطعمة، فلما أصبح جاءته ومعها عشر وصائف، مع كل وصيفة طبق، فظن أنها ستقدم له بعض هدايا الريف المصرى، فلما وضعت الوصائف الأطباق بين يديه إذا فى كل طبق كيس من ذهب، فشكرها وأمرها برده، فأبت إباء شديدا، وتأمّل الذهب أو الدنانير فإذا بها من ضرب عام واحد، مما يدل على أنه ربحها من عام، فقال: هذا والله أعجب. وتوسلت إليه أن يقبلها، فتمنع وقال لها: ردّى مالك بارك الله لك فيه، فأخذت قطعة من الأرض وقالت: يا أمير المؤمنين هذا الذهب من هذه الطينة التى تناولتها من الأرض ثم من عدلك يا أمير المؤمنين، وعندى من هذا الذهب شئ كثير. فأخذه المأمون لبيت المال وأقطعها عدة ضياع وأعطاها من قريتها مائتى فدان بغير خراج. ومارية إنما هى

ص: 45

إقطاعية واحدة وكان وراءها إقطاعيون كثيرون من القبط والعرب، فإن الدولة كانت قد دأبت على أن تمنح بعض الموظفين الكبار بمصر وبعض الشخصيات العربية إقطاعيات مختلفة فى القرى المصرية. ومما يدل على الرخاء حينئذ ارتفاع رواتب الولاة وأصحاب الخراج وكبار الموظفين وحتى القاضى موضع الزهد والتقشف إذ يذكر الكندى فى كتابه «الولاة والقضاة» أن عبد الله بن طاهر والى مصر للمأمون فى سنة 211 رسم لقاضى الفسطاط سبعة دنانير كل يوم. وحقّا كان يحدث أحيانا قحط أو أوبئة أو تذمّرات من كثرة الضرائب الاستثنائية التى يفرضها بعض عمال الخراج، حتى ليأخذ ذلك فى الحين الطويل بعد الحين شكل ثورة، ولكن هذا كله سرعان ما يزول، كأنه سحابة صيف سرعان ما تنقشع، ويعود إلى مصر الأمن والرخاء، فبينما مصر-كما يقول عمرو بن العاص فى رسالته المشهورة إلى عمر بن الخطاب-لؤلوة بيضاء إذا هى عنبرة سوداء.

فإذا هى زمردة خضراء، فإذا هى ديباجة رقشاء.

وكانت أسواق الفسطاط تعكس صور الرخاء فى مصر، فهى تموج بالأطعمة والحلوى والفواكه وبالطيب والمسك والعنبر وماء الورد ومختلف الأفاويه. ويبدو أن المساكن بها والغرف والحوانيت كانت تؤجّر، ويؤجّر معها الأثاث. وعرفت مصر حينئذ ضروب الملاهى من الصيد وأدواته ومن سباق الحمام وسباق الخيل، ويروى الكندى أن الوالى عليها يزيد بن عبد الله منع من حلبات السباق سنة 242 وسرعان ما عادت سنة 249. وكان الناس يحارشون أحيانا بين الكباش والكلاب. ويبدو أنه كانت هناك بعض دور للخمر، ولا بد أنها كانت قليلة، ويذكر ابن سعيد -إن صحّ ما يذكره-أن محمد بن أبى الليث الخوارزمى قاضى المعتصم بمصر كان يشرب النبيذ وله عليه ندماء. وكان الناس يهتمون بالغناء وما يصحبه من آلات الموسيقى والطرب، ويذكر ابن سعيد أيضا أنه لم يكن بمصر مغنية إلا ركب إليها القاضى لعهد الرشيد المسمى بالعمرى كى يسمع غناءها، وربما قوّم لها ما انكسر من غنائها وما دخل عليه من تحريف فى لحنه. وكان الناس يخرجون للنزهة فى جزيرة الروضة أمام الفسطاط وعلى شاطى النيل. وكانوا يحتفلون احتفالات كبيرة بفتح الخليج (وفاء النيل) وبالأعياد الإسلامية وأيضا بالأعياد القبطية وبعيد النيروز الفارسى لأول الربيع.

ويتولى مصر-كما مر بنا-أحمد بن طولون مكوّنا بها الدولة الطولونية، وتلقى مصر فى حجره وحجر ابنه خمارويه بكنوزها، وكان حازما بعيد النظر رءوفا بالرعية، فألقى عن كواهلها كثيرا من الضرائب التى كان قد فرضها عليها ابن المدبر عامل الخراج، وكان قد زاد عليها الضرائب،

ص: 46

وفرض ضريبة على النطرون وعلى المراعى وعلى المصايد فأسقط ابن طولون ذلك كله. واستقلّ بمصر، وفتحت له كنوزها، وأغدقت عليه من طيباتها، فكوّن جيشه الضخم، وأخذ فى بناء قصره خارج الفسطاط وقطائع لعساكره من الترك والسودان والروم وغيرهم وأيضا لقواده، وعمرت مدينته القطائع وتفرقت فيها الحارات والشوارع والأزقة والحوانيت والسّكك وبنيت المساجد والطواحين والحمامات والأفران. وبنى جامعه الكبير وأنفق عليه مائة وعشرين ألفا من الدنانير، وبنى بيمارستانا وأنفق عليه ستين ألف دينار، وجعل أمام قصره ميدانا كبيرا للعب كرة الصولجان، أنفق عليه خمسين ألف دينار. وكان ينفق على مطبخه فى كل يوم ألف دينار، وكان يعمل سماط عظيم، وينادى: من أحب أن يحضر سماط الأمير فليحضر، وكان الناس يأكلون ويحملون ما يشاءون. وكان ما يدخل إلى خزائنه فى كل سنة بعد نفقاته مليون دينار، وخلّف فى خزائنه من الذهب حين موته عشرة ملايين من الدنانير.

واستقر السلطان بعده لابنه خمارويه وعظم دخل الدولة، وأخذ خمارويه يغرق إلى أذنيه فى النعيم، فزاد فى عمارة قصر أبيه، وجعل الميدان الذى أمامه بستانا وزرع فيه أنواع الرياحين والورود وأصناف الشجر وكسا النخل نحاسا تخرج من عيونه المياه وتنحدر إلى فساقىّ يفيض الماء منها إلى مجار تسقى سائر البستان، وسرّح فيه طيورا حسنة الصوت وطواويس مختلفة، وجعل لنفسه مجلسا سماه دار الذهب طلا حيطانه بالذهب واللازود وجعل فيه تماثيل أو صورا بارزة لحظاياه ومغنياته وعلى رءوسهن الأكاليل من الذهب والجواهر المرصعة. وجعلت فى هذا البستان بين يدى القصر فسقية من الزئبق طولها خمسون ذراعا وكذلك عرضها، كان يرى لها فى الليالى المقمرة منظر عجيب حين يتألف نور القمر بنور الزئبق. واتخذ خمارويه بيوتا للسباع وغيرها من الوحوش سوى الإصطبلات الواسعة للخيل. وكانت حلبات السباق فى أيامه تقوم مقام الأعياد، ويقال إن عرض الخيل حينئذ كان من عجائب دار الإسلام. ومما يدل على ما وصلت إليه الدولة من ثراء جهاز ابنته قطر النّدى حين زوّجها الخليفة العباسى المعتضد، وكان من جملته دكة تتألف من أربع قطع من الذهب عليها قبة من الذهب مشبكة بها أقراط فى كل قرط حبة من جواهر لا يعرف لها قيمة، وكان فى الجهاز مائة هاون من الذهب، وبنى خمارويه-كما مرّ بنا-قصر فى كل منزل تنزل به ابنته من مصر إلى بغداد.

ومما يدل على ثراء مصر لعهد الطولونيين ثراء واسعا أن أبا بكر محمد بن الماذرائى عامل الخراج ووزير خمارويه تملك من الضياع ما بلغ دخله أربعمائة ألف دينار فى كل سنة سوى ما كان يؤدّيه من

ص: 47

الضرائب، ويقال إنه حج إحدى وعشرين حجة وكان ينفق فى كل حجة مائة ألف دينار.

وكانت مصر تحتفل بالأعياد احتفالات كبيرة: الإسلامية منها والقبطية، بل لكأنما كانت أيامها كلها فى عهد الطولونيين أعيادا. ولذلك بكت دولتهم بدموع غزار. وتخلفهم فترة تعود فيها مصر إلى عهد الولاة، وسرعان ما يتولاها الإخشيد، فيعيد إليها بهجتها ورخاءها، وبفضل ثرائها استطاع أن يعدّ لنفسه جيشا ضخما مكونا من 400 ألف مقاتل سوى ثمانية آلاف من مماليكه الأرقاء، ومازال سعده بحكم مصر يعلو إلى أن صار له حكم الشام والثغور وخطب له بالحجاز واليمن. وأصبحت مصر بعده لأبنائه ووصيّهم كافور الإخشيدى. وكانت مصر تنعم بثرائها، ويبدو أنه تكونت فيها طبقة من كبار الإقطاعيين من العمال والصناع والتجار والزراع لفتت بقوة الإخشيد، فإذا هو يكثر من مصادرة عماله وكتابه، ويقول ابن سعيد فى قسم الفسطاط من كتاب المغرب إنه «كان إذا توفى قائد من قواده أو كاتب تعرّض لورثته وأخذ منهم وصادرهم وكذلك كان يفعل مع التجار المياسير» ويقول ابن سعيد أيضا إنه لما توفى التاجر عفان بن سليمان أخذ من ميراثه مائة ألف دينار. وكان سباق الخيل فى أيامه-كما كان فى أيام خمارويه-يقوم مقام الأعياد. وكانت لوزيره ومدبر الدولة زمن أولاده جعفر بن الفضل بن الفرات المعروف بابن حنزابة دار للأفاعى والحيات والعقارب لها قيّم وحاو من الحواة ومعه مستخدمون.

وظلت مصر طوال زمن الإخشيديين تعنى ببعض اللهو والغناء، وفى ترجمة الإخشيد بكتاب المغرب أن أبا بكر الماذرائى دعاه إلى طعام وجمع له المغنين من الرجال والنساء. وكان يحاكى ابن طولون فى احتفاله بعرض الجيش ليلة عيد الفطر وفيما كان يتخذ عقب العرض من نصب السماط للناس. وكان المصريون يحتفلون بعيد الفطر وغيره من الأعياد الإسلامية احتفالات كبيرة، وبالمثل كانوا يحتفلون بالأعياد القبطية. وشهد المسعودى لعهد الإخشيد سنة 330 أحد هذه الأعياد وهو عيد الغطاس المسيحى، ويكون عادة ليلا، ويقول إن الإخشيد كان بقصره فى جزيرة الروضة، وأمر فأسرج من شاطى الفسطاط وشاطى الجزيرة ألف مشعل غير ما أسرجه أهل مصر من المشاعل والشمع. ومئات الآلاف من الناس على الشواطى وفى الزوارق وقد أحضروا المآكل والمشارب وآلات الذهب والفضة والجواهر والملاهى والعزف والقصف. ونجد بعض الشعراء يذكرون الأديرة وما فيها من خمر، كما نجدهم يذكرون الطرد والصيد ويقول ابن سعيد إنه كانت بالفسطاط بعض دور للقمار.

وتلقى مصر بكنوزها للفاطميين، ويؤسّسون بها أو يقيمون الدولة الفاطمية ويمتد سلطانها من

ص: 48

شواطى إفريقيا الشمالية إلى بلاد الموصل، وتدخل فى حوزتهم اليمن والحجاز فى أغلب أيامهم.

وينعم الفاطميون بالخراج الذى أخذ يتزايد من نحو مليون ومائتى ألف دينار حين نزل جوهر الصقلى القاهرة إلى خمسة ملايين ونصف من الدنانير لعهد الخليفة المستعلى. وكانت المكوس تفرض على كل شئ حتى قال المقريزى إنه لم يسلم منها حينئذ إلا الهواء. ويذكر المقدسى أنه كان يجبى من تنيس يوميا ألف دينار على ما تنسج من الثياب، ويقول المقريزى إنه بلغ المتأخر على تنيس فى ثلاث سنوات مليون دينار ومليونى درهم، وبالمثل كانت تجبى مكوس كثيرة على ما ينسج من الثياب فى شطا ودمياط ودبيق والإسكندرية، ويقال إنه جبى من تنيس ودمياط والأشمونين فى يوم واحد 220 ألف دينار. ومما كانت تجبى عليه المكوس الشّبّ والنّطرون. وكانت تفرض مكوس على الحمامات، وكانت تعدّ بالمئات فى الفسطاط والقاهرة، وعلى الحوانيت، ويذكر ناصر خسرو أنها كانت تبلغ فيهما نحو عشرين ألفا، وكان إيجار الحانوت يتراوح بين دينارين وعشرة دنانير شهريا. وبجانب هذه المكوس كانت هناك الجوالى التى يدفعها أهل الذمة.

وكانت-كما يقول ابن مماتى فى كتابه قوانين الدواوين-تفرض مكوس على المتاجر الصادرة والواردة تبلغ نحو عشرين فى المائة من العروض أو البضائع. وكانت هناك حبوس كثيرة أو بعبارة أخرى أوقاف محبوسة على وجوه البر، أخذت تتزايد منذ نهض الليث بن سعد فقيه الفسطاط فى القرن الثانى-لأول مرة-بهذا الصنيع. وكل ذلك كان يصبّ فى خزائن الدولة الفاطمية، حتى لتصبح مصر وكأنها فردوس العالم العربى، وفيها يقول المقدسى:«هى الإقليم الذى افتخر به فرعون على الورى. . أحد جناحى الدنيا، ومفاخره لا تحصى، مصره (يريد الفسطاط) قبة الإسلام ونهره أجل الأنهار، وبخيراته تغمر الحجاز، وبأهله يبهج موسم الحاجّ، وبرّه يعمّ الشرق والغرب، قد وضعه الله بين البحرين (الأحمر والمتوسط) وأعلى ذكره فى الخافقين، حسبك أن الشام-على جلالتها-رستاقه (قراه) والحجاز-مع أهلها-عياله» .

وطبيعى أن تتضخم-مع هذا الثراء الهائل فى مصر-الطبقة العليا: طبقة الأسرة الفاطمية ووزرائها وقوادها وكبار موظفيها وأشراف العلويين وكبار إقطاعييها وتجارها. وقد أكثر الفاطميون من الإقطاع للوزراء والقواد، وكان عندهم نظامان للإقطاع: إقطاع تمليك يورث وإقطاع استغلال يمنح حق الانتفاع لشخص بعينه ولا يورث. ويروى أن يعقوب بن كلّس أول وزرائهم بمصر كان راتبه فى العام مائة ألف دينار، وقالوا إنه لما توفى ترك من الجواهر ما قيمته أربعمائة ألف دينار ومن المصوغات ما قيمته نصف مليون دينار. وذكر ابن خلكان أن وزيرهم فى أوائل القرن

ص: 49

السادس الهجرى الأفضل بن بدر الجمالى ترك ستمائة مليون دينار ومائتين وخمسين إردبا دراهم وخمسة وسبعين ألف ثوب ديباج وثلاثين راحلة حقاق ذهب، ودواة ذهب محلاة بجوهر قيمته اثنا عشر ألف دينار ومائة مسمار من ذهب وزن كل مسمار مائة مثقال فى عشرة محابس فى كل محبس عشرة مسامير على كل مسمار منديل مشدود مذهب بلون من الألوان وخمسمائة صندوق كسوة لخاصته من نسج تنيس ودمياط، وخلّف من الرقيق والخيل والبغال والجواميس والبقر ما لا يعلم قدره إلا الله. وكأنما حوّل كل أموال مصر فى عهده إلى خزائنه، وأى خزائن إن أكبر مليونير أمريكى فى عصرنا لا يبلغ من الثراء مبلغه. وحتما كانت تحدث بمصر أحيانا مجاعات بسبب نقص النّيل والقحط، كما مر بنا فى عهد المستنصر، وقد تحدث أوبئة، ولكن مصر كانت تنفض عنها ذلك دائما وتعود سريعا إلى رخائها الذى أتاح للوزيرين السالفين كل هذا الثراء.

وإذا كان هذا حال وزيرين فما بالنا بأحوال الخلفاء وما كانوا يغرقون فيه من ثراء وترف، ويكفى لبيان ذلك أن نعرف أنه بعد أن تقوّضت الدولة واستولى صلاح الدين على مقاليد الحكم كشف حاصل الخزائن الخاصة بالقصر الفاطمى، فإذا به من الكنوز ما لا يكاد يخطر ببال، حتى ليقول المقريزى:«خرج من القصر ما بين دينار ودرهم ومصاغ وجوهر ونحاس وملبوس وأثاث وقماش وسلاح ما لا يفى به ملك الأكاسرة ولا تتصوره الخواطر الحاضرة ولا يشتمل على مثله الممالك العامرة ولا يقدر على حسابه إلا من يقدر على حسابات الخلق فى الآخرة» .

ولعل فى كل ذلك ما يدل على الثراء والترف والبذخ فى أيام الدولة الفاطمية، ويزخر حديث المقريزى وغيره بملابس الخلفاء وعمائمهم المرصعة بالجواهر وما كانوا يتخذون من زينة فى أثاثهم وأوانى طعامهم وفى قصورهم وبساتينها وأروقتها وأفنيتها وأعمدتها وأرضها المفروشة بالرخام المتعدد الأولان، مما بهر ناصر خسرو فى القرن الخامس، كما بهر غليوم رئيس أساقفة صور فى نهاية أيام الفاطميين سنة 562 على نحو ما يلقانا فى كتاب كنوز الفاطميين. ويقول ناصر خسرو إن أهل القاهرة كانوا يعنون بزراعة الأزهار فى سطوح منازلهم حتى لترى كأنها حدائق، ومما يدل على سعة الرخاء لعهده ما ذكره عن سيدة بمصر كانت تملك خمسة آلاف قدر، تؤجّر كل قدر منها بدرهم. ولعل فيما ذكرنا من هذا الرخاء والترف ما يدل على أن الصناعة كانت مزدهرة بمصر، وكان العائد منها على الصناع عظيما وبالمثل كانت التجارة وأيضا الزراعة. وكل شئ يؤكد أن الفلاحين كانوا يتعاملون مع الملاك بنظام المزارعة الموجود حتى الآن، فللمالك نصف المحصول وللزارع أو الفلاح النصف الآخر، وتلقانا فى النصوص كلمات الخولى والسائس والحرّاث والجناينى

ص: 50

والأجير والأعوان وعاصر النبيذ.

ويبدو أن مصر أخذت تعنى عناية واسعة بالغناء منذ هذا العصر، حتى لنجد ابن الطحان يؤلف فى الغناء والمغنين كتابا. وشاع النبيذ والشراب بأكثر مما كانا يشيعان فى الأزمنة السابقة لكثرة الوافدين على مصر من الشرق للدعوة الفاطمية، وكأنما حملوا إلى مصر شغف بيئاتهم-وخاصة إيران-به.

واتسع الفاطميون بالأعياد الإسلامية، وهى-كما يقول المقريزى-موسم رأس السنة، ويوم عاشوراء، ومولد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومولد على، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد فاطمة الزهراء، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان أو غرّة رمضان، وسماط رمضان من اليوم الرابع حتى اليوم السادس والعشرين، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد الأضحى، وعيد الغدير (الذى يؤمن الشيعة بأن الرسول عهد فيه بالخلافة إلى على بن أبى طالب) وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج (وفاء النيل) وعيد النيروز (أول الربيع) وهو عيد فارسى كان الناس يوقدون فيه النار ويرشون الماء. ومن أعياد النصارى عيد الغطاس وعيد ميلاد المسيح وخميس العدس قبل عيد الفصح بثلاثة أيام وفيه يأكل القبط العدس، وعيد الزيتونة وهو يوم أحد الشعانين، وكانت الكنائس تزيّن فيه بأغصان الزيتون وقلوب النخل. وبعض هذه الأعياد كانت تتحول كرنقالات كبيرة، إذ يقول المقريزى:«كان الناس بمصر يخرجون فى بعض الأعياد ويطوفون الشوارع بالخيال والتماثيل والسماجات» والخيال هو لعبة خيال الظل المضحكة التى تحولت مع الزمن إلى لعبة الأراجوز المعروفة، ولعل التماثيل هى نفس أشباح الأراجوز، أما السماجات فأشخاص يتراءون فى صور منكرة مضحكة، وقد يحاكى نفر منهم شعوبا أجنبية وكأن ظاهرة ضحك المصريين من أصحاب الرطانات فى العربية وغيرها قديمة. وكانوا يتسلّون بنطاح الكباش ومهارشة الكلاب والديكة. وبينما كان الفاطميون وأهل القاهرة مقبلين على هذه الملاهى كان الصليبيون-كما مر بنا-قد نزلوا بالشام واحتلوا بيت المقدس وأنطاكية وأكثر ثغورها، وكان لا بد من منقذ ينقذ مصر والبلاد الشامية مما أصابهما من فساد شديد فى أداة الحكم.

وانتقل الحكم والسلطان إلى صلاح الدين وأسرته الأيوبية، وفى عهده وعهد الأسرة جميعا تحولت مصر إلى ثكنة عسكرية ضخمة، وسرعان ما أخذت تباشير النصر على الصليبيين تلوح، بل سرعان ما تهاوت قلاعهم تحت أقدام المصريين، وتهاوى معها بيت المقدس، وردّت الديار

ص: 51

إلى أصحابها إلا قليلا. وكان المفروض أن يثقل صلاح الدين كواهل المصريين بالضرائب الباهظة من أجل السلاح والإنفاق على جيوشه، غير أن الذى حدث كان عكس ذلك تماما، فقد خفّف الضرائب عن المصريين ورفع عنهم أكثر المكوس إن لم يكن كلها، حتى ليقول المقريزى إنه أسقط منها ما يزيد عن مليونى دينار ومليونى أردب وبالمثل أسقط عن أهل الذمة ضرائب كثيرة حتى قالوا إن كل ما كانوا يدفعونه للدولة لم يكن يزيد عن مائة وثلاثين ألف دينار. ولعل مما يدل أكبر الدلالة على أنه لم يكن يمتص شيئا من أموال الناس وأن كل ما كان يؤول إليه من الجوالى والضرائب ينفق فى الحرب دون أن يختزن منه أى شئ لنفسه ما ذكره ابن تغرى بردى وغيره من المؤرخين مثل ابن شداد فى سيرته من أنه حين لبّى نداء ربه لم يوجد فى خزائنه من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعون درهما ناصريا ودينارا واحدا ذهبا صوريّا، ولم يخلّف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا ضيعة ولا مزرعة. ويروى ابن تغرى بردى أن ابنه العزيز كان يسير سيرته فى الرعية، ويقول إنه وهب لصياد دينارين، وتعذّر عليه أن يدفع له هذا المبلغ اليسير. وبالمثل كانت سيرة خلفائه سيرة عادلة، وكانوا دائما كأنهم مرابطون لحرب الصليبيين، وقد مات السلطان نجم الدين أيوب وهو يجاهد لويس التاسع وخلفه ابنه توران شاه-كما مر بنا فى غير هذا الموضع- فأنزل به هزيمة ساحقة، وهو آخر سلاطين هذه الدولة بمصر الذين ظلوا يجاهدون الصليبيين حتى الأنفاس الأخيرة من حياتهم.

وعنى صلاح الدين ببناء القلعة وبناء كثير من المدارس والرّباطات، وظل خلفاؤه يعنون بالعمران، مما أنعش الصناعات فى القاهرة، وكانت صناعة الثياب مزدهرة بتينّس وغيرها. وقد عنى الأيوبيون بالتجارة، وعقدوا-كما يقول بروكلمان-سلسلة من الاتفاقات التجارية مع الدول الأوربية مما عاد بفوائد كثيرة على التجار المصريين، وكانوا يعنون بالزراعة ونظم الرى عناية فائقة.

ويصف ابن جبير فى رحلته لعهد صلاح الدين ريف مصر وقراه التى لا تحصى كثرة، ويقول إن العمارة فيها متصلة، وفيها الأسواق وجميع المرافق. ولحقته صلاة الجمعة بإحدى هذه القرى فصلّى بها الإمام فى مجمع حفيل وخطب خطبة بليغة جامعة. ويشيد بالمارستان الذى بناه صلاح الدين بالقاهرة وما فيه من عناية بالمرضى، ويذكر موضعا فيه مقتطعا للنساء ومقاصير عليها نوافذ من حديد اتّخذت محابس للمجانين، كما يذكر مارستانا آخر بالفسطاط على ذلك الرسم بعينه.

ويذكر جزيرة الروضة ومبانيها المشرفة الحسان ويقول إنها مجتمع اللهو والزينة، فأهل الفسطاط والقاهرة لم ينسوا حتى فى عهد صلاح الدين وحروبه وجهاده لهوهم ومرحهم، وحقا لم يعن

ص: 52

الأيوبيون بالأعياد الكثيرة التى كان يعنى بها الفاطميون والتى بلغت فى تقدير المقريزى نحو ثلاثين عيدا، ولكن على كل حال بقيت منها بقية إسلامية كانت تمدّ فيها الأسمطة للشعب وكذلك بقيت بقية من الأعياد النصرانية. وطبيعى أن يشغل الأيوبيون عن الأعياد المصرية بحروبهم مع الصليبيين وما كانت تستنفد منهم من أموال ضخمة. ويبدو أن فنون اللهو وما يتبعها من القمار والخمر مما عرف فى عهد الفاطميين ظلت فى أيام الأيوبيين وإن خفت حدتها، ويقول ابن تغرى بردى عن السلطان العادل الأيوبى إنه طهّر جميع ولاياته-فى مصر وغير مصر-من الخمور والخواطى والقمار. وطبيعى أن لا تفارق البسمة شفاه المصريين فى أيام انتصارات سلاطينهم الأيوبيين على الصليبيين وأن لا يفارق المرح نفوسهم، ومن خير ما يصور ذلك كتاب الفاشوش فى حكم قراقوش لابن مماتى صاحب ديوان الجيش والمال لعهد صلاح الدين، وكان قد عيّن قراقوش محافظا للقاهرة وأمره ببناء القلعة، والكتاب مجموعة من النوادر المضحكة على قراقوش وأحكامه الحمقاء. وسرعان ما أصبح قراقوش شخصية خيالية لكل حاكم مخبول فيه بله وغفلة وحمق، وسمّى فى تركيا قراقوز، وعاد إلينا باسم أراجوز وبعروضه المضحكة.

ويتحول صولجان الحكم وأزمّته إلى أيدى سلاطين المماليك، ويكسبون لمصر مجد الانتصار على التتار، وتنحسر موجتهم إلى العراق وما وراءه، ويطردون نهائيا الصليبيين من ديار الشام.

ويعود التتار مع تيمورلنك إلى الشام وتنسحب جموعه إلى آسيا الصغرى، ويتوفى فتتمزق دولته.

وتعدّ أيام المماليك من أزهى أيام مصر الإسلامية إن لم تكن أزهاها، فقد ورثت عن بغداد الخلافة العباسية، كما مر بنا، وتوافد عليها العلماء والأدباء من العراق وما وراءه فارّين من وجوه التتار، وكانت الأندلس تمر بأيامها الأخيرة فوفد عليها أدباؤها وعلماؤها، كما وفد من قبل علماء صقلية وأدباؤها حين احتلها النورمان. وبذلك كله كانت مصر منذ عصر الأيوبيين موئل العروبة والإسلام. وظلت بها ثلاث طبقات متقابلة طوال زمن المماليك: طبقة الحكام، وطبقة وسطى من كبار التجار، وطبقة دنيا من الفلاحين والعامة. وكانت الطبقة العليا الأولى تعيش منفصلة عن الشعب: فى جزيرة الروضة أولا ثم فى الجبل، على نحو ما هو معروف عن المماليك البحرية والبرجية، وقد ظلوا محافظين على طبقتهم فهم لا يختلطون بالشعب، ودائما كانوا يعملون على تنمية أنفسهم بعناصر جديدة منهم، كان يستوردها لهم النخّاسون من أحداث الرقيق المجلوب غالبا من القوقاز وجنوبى روسيا وبيزنطة، وكانوا يدرّبونهم فى القلعة على الفروسية، ويعدّون لهم أساتذة يعلمونهم الكتابة والحساب وشيئا من القرآن الكريم والحديث النبوى، حتى إذا شبّوا

ص: 53

توزعهم أمراء المماليك، مكوّنين منهم فرقا عسكرية. وما يلبث جنود هذه الفرق أن يقتنوا الإقطاعات، وكانت أحيانا إقطاعات تمليك كما مر بنا فى العصر الفاطمى فهى تورث، وأحيانا كانت إقطاعات استغلال. وبمرور الزمن تكاثرت هذه الإقطاعات فى أيام المماليك تكاثرا شديدا، حتى اضطر بعض السلاطين إلى فكها ولكن سرعان ما كانت تعود.

وبذلك كان من أهم ما يميز عصر المماليك أنه عصر إقطاع، وكان الفلاح لا يزايل إقطاعه وكأنه-حياته-قنّ كما يقول المقريزى. ويعجب السبكى فى كتابه معيد النعم من هذا الرق للفلاح، ويقول: من حق الفلاح أن يكون حرا لا يد لآدمى عليه. وكأنما حرم أصحاب الأرض الحقيقيون من تملك الأرض، وتملّكها المماليك الأرقاء، وكانوا كثيرا ما يفرضون عليهم-كما يقول ابن إياس-ضرائب استثنائية غير الضرائب العادية. ومع ذلك ففى النصوص أن نظام المزارعة المعروف كان-كما أسلفنا-مستمرا فى هذه الحقب، وهو النظام الذى يجعل للفلاح نصف المحصول وللمالك نصفه الآخر، ويبدو أن أصحاب الإقطاعيات كثيرا ما كانوا يظلمون الفلاحين. على أن تسلط المماليك على الأرض والزراعة جعلهم يعنون بالجسور وبنظام الرى وبالثروة الزراعية عامة وكذلك بالثروة الحيوانية. وكانت الدولة تشترى كثيرا من المحاصيل وتعيد توزيعها على تجار التجزئة، حتى تمنع المضاربات التجارية.

وكانت الصناعة مزدهرة، فقد كانت أيام المماليك أيام ترف فى بناء القصور الباذخة وفى كل شئون الزينة، وكانت للدولة مصانع خاصة للخلع السنية التى يخلعها السلاطين على الأمراء وكبار رجال الدولة. وكانت تزدهر صناعة الملابس والفرش والأثاث والجلود والحلى والمعادن والزجاج الملون. وكانت الدولة تهتم بصناعة الأسلحة وسفن الأساطيل. وكل ذلك عمل على ازدهار الصناعات، ومما يدل على هذا الازدهار بوضوح أن نجد لكل فئة من الصناع نقابة خاصة تنظر فى شئونهم فيما بينهم وبين أنفسهم كذلك فيما بينهم وبين الشعب من جهة والحكومة من جهة ثانية.

وكانت التجارة بالمثل مزدهرة، بل كانت أكثر ازدهارا ونشاطا، فإن مصر حينئذ كانت تمسك بالشطر الأكبر من أزمة التجارة العالمية بين الشرق والغرب، وبعبارة أخرى بين الهند وشرقى آسيا وبين أوربا، مما جعلها تعقد شبكة من المعاهدات بينها وبين جمهوريات إيطاليا التجارية مثل جنوا والبندقية فضلا عن بقية ثغور البحر المتوسط وجزره. وكانت الدولة تحصل على دخل ضخم من مكوس التجارة، حتى إذا سقطت أهمية طريق مصر إلى الشرق باكتشاف فاسكودى جاما طريق رأس الرجاء الصالح سنة 903 كان ذلك إيذانا بانتهاء دولة المماليك فى مصر واستيلاء العثمانيين عليها.

ص: 54

ولعل فى هذا كله ما يدل على مبلغ الثراء، الذى كانت تحياه هذه الدولة، عن طرق مختلفة من التجارة والصناعة وخراج الأرض والجوالى، وأيضا فإن الحبوس أو أراضى الأوقاف التى أشرنا إليها فى غير هذا الموضع مضت تتزايد زيادات كبيرة، بحيث كانت مصدرا أساسيا من مصادر دخل الدولة، وكانت تضمّ إليها ضميمة أخرى من مصادرة أموال التجار أحيانا وفاء بما قد تتطلبه الحروب، وكانت مصادرة الإقطاعات مستمرة بمجرد أن يموت أصحابها. وكل هذا معناه أن دولة المماليك كانت ثرية ثراء طائلا، وهو ثراء أعدها لتنهض نهضة كبيرة بالحركة العلمية وبفن العمارة، وتكتظ القاهرة بمساجد سلاطينها وقبابها الشامخة الرائعة.

وعادت إلى مصر فى أيام هذه الدولة أعيادها الكثيرة فى العصر الفاطمى: الإسلامية والقبطية عدا الأعياد الشيعية. وأضاف المماليك عيد محمل الحج. وعادت الكرنقالات والاحتفالات الكبيرة فى هذه الأعياد ومن يتنكرون بها من أصحاب المساخر والسماجات. واتسعت فنون اللهو والتسلية، وكان الناس يخرجون للنزهة فى أمكنة كثيرة على شاطى النيل مثل الأزبكية وكان يمر بها قديما، ومثل بولاق وجزيرة الروضة. وكانوا يستأجرون القوارب والسفن الشراعية للتنزه بها فى النيل ومعهم بعض المغنين والمغنيات، واشتهر بينهم كثيرون، ويذكر ابن حجر منهم فى كتابه «الدرر الكامنة» عبد العزيز الحفنى أعجوبة زمانه فى فن الغناء و «خوبى» أعجوبة أيامها فى الضرب على العود ومحمد بن على الدهان وكان يتقن الغناء على القانون. ويذكر السخاوى منهم فى كتابه «الضوء اللامع» خديجة الرحابية. وكان هناك من يتعاطون الخمر أحيانا وكذلك الحشيش، وقد يكثر من يتورطون فى تعاطيهما فيضطر السلطان إلى الأمر بإحراق الحشيش وإراقة دنان الخمر فى كل مكان كما صنع الظاهر بيبرس. ومن ملاهيهم حينئذ النرد والشطرنج وتطيير الحمام وتهارش الديكة والصيد ورمى الطير بالبندق. وارتقى حينذاك خيال الظل وأصبح مسرحا شعبيا تاما، ويؤلف له ابن دانيال ثلاث مسرحيات ألفها فى عهد الظاهر بيبرس، وجميعها تصور مواقف ومشاهد فكاهية تثير الضحك فى المتفرجين. ويقول السخاوى إنه كان من ملاهيهم سماع سيرة عنترة وذات الهمة وأبى زيد الهلالى والظاهر بيبرس. وكأنما كتب على الشعب المصرى أن يؤدى ثمنا باهظا لمرحه ولهوه فى زمن المماليك، فإذا العثمانيون يجتاحون دياره. وتعتم سماء مصر فقد كستها سحبهم المظلمة نحو ثلاثة قرون إلا قليلا، إذ تحولت من إمبراطورية ذات سلطان وصولجان إلى ولاية عثمانية، وليس ذلك فحسب، فقد جرّدها فاتحها سليم من علمائها ورجال الفنون بها ومهرة صناعها. وتراثها الفنى وكل ما كان بها من تحف نفيسة، ويقال إنه أبطل بمصر خمسين

ص: 55

صناعة. وبذلك كان فتح العثمانيين لمصر كارثة من كل وجه، لم تكن كارثة سياسية فحسب، بل كانت أيضا كارثة علمية وفنية وصناعية، وحتى مسرح خيال الظل شاهده سليم فأنعم على صاحبه بطائفة من الدنانير، كما يقول ابن إياس، وخلع عليه قفطانا مذهبا، واصطحبه معه إلى القسطنطينية. وعلى هذا النحو انتكست مصر انتكاسة لم تستطع أن تفيق منها إلا بعد فترة طويلة.

وقد ضاعت منها حينئذ مواردها التجارية وما كان لها من مكانة فى التجارة العالمية بين الشرق والغرب، وضاعت مواردها الصناعية، فقد غادرها مهرة الصناع إلى القسطنطينية، ولم يبق لها إلا الزراعة، والعثمانيون والمماليك يعتصرون خيراتها وطيباتها من الرزق، حتى لا يبقى للفلاح سوى البؤس والضنك وشظف الحياة. وربما كان خير ما يصور تعاسة الفلاحين المصريين فى هذه الفترة كتاب «هز القحوف فى شرح قصيدة أبى شادوف» ليوسف الشربينى وهى قصيدة عامية هزلية ومثلها شرحها، وهما يحملان سخرية لاذعة بالحكم العثمانى للمصريين وما أرهق به العثمانيون والمماليك الفلاح المصرى من عسف وظلم لا يدانيه ظلم، ظلم جرّ أفظع ما يمكن من الجهل والبؤس، حتى ليصبح أفخر طعام الفلاح خبز الشعير والجين القريش (الخالى من الدهن) والبصل والعدس والبيسار ومن ورائه سياط السخرة. وهو يسوق ذلك فى أسلوب فكه يحمل كثيرا من السموم.

5 -

التشيع: الدعوة (1) الفاطمية الإسماعيلية

مرّ بنا-فى غير هذا الموضع-أن مصر دخلت فى بيعة على بن أبى طالب بالخلافة وأنه اختلف عليها ولاة من قبله، غير أن ذلك لا يعنى أنها اتخذت التشيع عقيدة، وحقا كان يحدث فيها أحيانا تحركات لبعض العلويين وبعض شيعتهم وأنصارهم، غير أنها لم تكن تحركات مذهبية، إذ لم تكن تعدو أن تكون نصرة لعلوى بعينه. وتمضى مصر معتنقة لمذهب أهل السنة بعيدة عن العقيدة الشيعية، وينزلها دعاة الدولة الفاطمية حين تأسست بالمغرب، ولم يفلح أحد منهم

(1) انظر فى هذه الدعوة رسالة افتتاح الدعوة للقاضى النعمان بن محمد (طبع بيروت) وكذلك دعائم الإسلام له (طبع دار المعارف) وراحة العقل للكرمانى (طبع القاهرة) والمجالس المستنصرية (طبع دار الفكر العربى) وكذلك الهمة فى آداب اتباع الأئمة. وانظر كتاب العقيدة والشريعة فى الإسلام لجولد تسيهر (الطبعة العربية) ص 211 وما به من مراجع وكتاب أصول الإسماعيلية لبرنارد لويس (من منشورات مكتبة المثنى) وكتاب فى أدب مصر الفاطمية للدكتور محمد كامل حسين وما به من مراجع وخاصة للمستشرق إيفانوف.

ص: 56

فى حملها على الثورة ضد العباسيين، وكأن دعوتهم لم تكن تلبث أن ترتد معهم إلى المغرب.

وما نصل إلى سنة 358 حتى يفتحها جوهر الصقلى وينشئ بها القاهرة ويتخذها الفاطميون حاضرة لهم، ويقيمون بها دولة شيعية إسماعيلية وتظل مصر متمسّكة بعقيدتها السنية. ومرّ بنا أن فرقة الشيعة الإمامية انقسمت فى زمن مبكر إلى اثنى عشرية يؤمنون بأن الإمامة انتقلت من جعفر الصادق سادس الأئمة إلى ابنه موسى الكاظم وتوالت بعده فى خمسة من الأئمة آخرهم محمد المهدى المنتظر المختفى منذ سنة 260 للهجرة. وإلى إسماعيلية يؤمنون بأن الإمامة انتقلت من جعفر الصادق إلى ابنه إسماعيل المتوفى فى حياته لأن الإمامة عندهم تنتقل إلى الابن الأكبر حتى لو مات فى عهد أبيه. ومرّ بنا كيف أن عبد الله بن ميمون القدّاح نظم الدعوة الإسماعيلية، وأن أحد دعاتها هيأ لعبيد الله الفاطمى حكم تونس فنزلها وأعلن دعوته سنة 297، وخلفه القائم فالمنصور فالمعز الذى اتسع بالدولة ومدّ حدودها شرقا إلى الشام.

ويؤمن شيعة الفاطميين الإسماعيلية بمجموعة من المبادئ أولها فكرة أن إمامة المسلمين الشرعية إنما هى لعلى وأبنائه من أئمتهم المنحدرين من السيدة فاطمة الزهراء، وكل إمام منهم وصىّ لسلفه طبقا للترتيب الإلهى فى خلافته أو ولايته الربانية على أمور الأمة. وقد بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم-فى اعتقادهم-فأوصى بخلافة على وإمامته من بعده، ورووا فى ذلك أحاديث حمّلوها هذا المعنى مثل:«على منى بمنزلة هرون من موسى» كما رووا أحاديث خاصة بهم تشير إلى تتابع الإمامة فى آل البيت، ووجهوا بعض الآيات القرآنية نفس الوجهة مثل قوله تعالى:{(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا)} .

ومبدأ ثان قرروه هو طاعة الإمام سواء دعا لنفسه سرّا أو علانية وجهرا، فطاعته جزء لا يتجزأ من إيمان الإسماعيلية، فهم كما يؤمنون بالله ورسوله يؤمنون بإمام العصر ويفوضون أمورهم إليه ويبذلون أنفسهم من دونه. فريضة مقدسة، ينضوون تحت لوائه ويبرءون من أعدائه ويوالونه أصدق الولاء.

ومبدأ ثالث هو عصمة أئمتهم، إذ يرفعونهم فوق المستوى الإنسانى بفضائل فطرية فيهم تجعلهم مبرّئين من الذنوب مطهّرين من الآثام، لا يتورطون فى معصية، ولا يقعون فى أى خطيئة مهما كانت صغيرة، لما ينتقل فى أصلابهم-حسب اعتقادهم-من نور إلهى ينقّى أرواحهم

ص: 57

ويخليها من دواعى الشر وآثامه، وهو نور ظل ينحدر من آدم وأبنائه الطاهرين حتى انتهى إلى عبد المطلب وحفيده الرسول عليه السلام، وكأنما أصاب عليا حفيده الآخر منه شعاع ما يزال ينتقل فى الأئمة جيلا بعد جيل.

ومبدأ رابع هو الاتساع بالتأويل فى القرآن الكريم وآياته، مستدلين بمثل قوله تعالى:

{(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ)} زاعمين أن للقرآن ظاهرا ووراء ظاهره باطنا لا يعلمه إلا أئمتهم، خصّوا به دون غيرهم من البشر. واشتق الدكتور محمد كامل حسين من هذا المبدأ عندهم نظرية المثل والممثول، فظاهر القرآن مثل وباطنه فى رأيهم ممثول، وجسم الإنسان مثل ونفسه ممثول. وعلى الإسماعيلى أن ينحى عن بصره الظاهر المتبادر الذى يحول بينه وبين رؤية الشريعة على حقيقتها وفى باطنها. وهم بذلك يقتربون من نظرية الأفلاطونية الحديثة التى تدعو إلى نبذ الأستار والحجب المادية حتى يفضى الإنسان إلى وطنه السماوى. وقد أوغلوا فى التأويلات الباطنة، لآى الذكر الحكيم ناسبين ذلك إلى أئمتهم، مما لا يحتمله ظاهر القرآن أى احتمال، ولذلك يسميهم أهل السنة الباطنية.

ونصل إلى المبدأ الخامس الذى يفصل العقيدة الإسماعيلية عن النظرية العامة لأهل السنة والشريعة الإسلامية فصلا تاما. وهو مبدأ تتداخل فيه نظرية الفيض الأفلاطونية، إذ يزعمون أن الأئمة منذ آدم يتوالون فى أدوار كل دور يتكون من سبعة، والسابع هو الإمام الناطق الممثل للعقل الكلى الفعال الذى انتقلت إليه قدرة الله، وعنه تصدر النفوس الكلية التى يمثلها الأئمة الستة فى الدور كما تصدر جميع المخلوقات. ويأخذ تاريخ البشرية منذ آدم هذا النظام الدورى السبعى الكونى، وكل دور يدعم عمل الناطق السابق له ويمهد لناطق الدور الجديد. ويتجلى النور الإلهى فى كل دور من هذه الأدوار ويبلغ كماله فى الإمام الناطق الحامل لرسالة نورانية باهرة. وهم يزعمون أن الرسول كان عقلا فعالا وأن عليا وصيّه-فى اعتقادهم-كان نفسا كلية، فلما رفع الرسول إلى الرفيق الأعلى أصبح علىّ عقلا فعالا. ومما زعموه أن نفوس الأئمة الستة قبل العقل الناطق تعود بعد الوفاة إلى عالم العقول وتصبح مثله عقولا كلية مدبرة للكون.

ومبدأ سادس هو إطلاقهم كل صفات الذات العلية على أئمتهم، وهم يبدءون فيقولون ان لكل إمام نسبتين: نسبة إلى عالم الطبيعة ونسبة إلى عالم القدس، بالضبط كما يعتقد النصارى فى المسيح. وزعموا أن الله-جل جلاله-ينبغى أن ينزّه عن كل الصفات والأسماء، وقالوا- بزعمهم-إن أسماءه الحسنى إنما هى أسماء العقل الأول الفعال أو العقل الكلى وأن الله أعلى من أن

ص: 58

يسمّى باسم أو يوصف بصفة. ومضوا فأضفوا صفاته وأسماءه على أئمتهم، وبذلك رفعوهم إلى مرتبة التأليه، بل لقد حسبوهم تجسدا للذات العلية، حتى ليقول الداعى شهاب الدين أبو فراس فى كتابه «مطالع الشموس فى معرفة النفوس»:«اعلم أن الإمام الموجود للأنام لا يخلو منه زمان ولا يحوزه مكان، لأنه إلهى الذات، سرمدى الحياة، ولو لم يتأنّس إلى معرفته بالحدود والصفات لما كان للخلق إلى معرفته وصول» . وكأن أبا فراس لا يصف الإمام الفاطمى وإنما يصف الله سرمدى الوجود الذى لا يحدّه الزمان ولا يحصره المكان والذى لا يعرف إلا بأسمائه وصفاته.

ولا ريب فى أن الدعاة من أمثاله هم الذين سوّلوا للحاكم بأمر الله أن يظن أو يتوهم أنه التجسد الإلهى للذات العلية، فدعا له بعض دعاته إلى عبادته. ولما طفح الكيل قتل فى ضواحى القاهرة، وأشاع أنصاره أنه اختفى وسيرجع يوما إلى الدنيا وعالمها المحسوس.

ومبدأ سابع وهو مبدأ سلبى، إذ كانوا يلغون الاجتهاد والأخذ بالقياس فى الشريعة على نحو ما هو معروف عند أهل السنة، إذ جعلوا المرجع إلى الإمام، وهو معصوم من الخطأ، والحكم إذن حكمه والفتوى فتواه دون منازع. وبذلك ألغوا حرية الفكر والرأى وما يتبعهما من الاجتهاد العقلى فى أمور الأمة والجماعة. وثبت عندهم ذلك واستقرت بسببه طاعتهم للإمام ووجوب الخضوع لأحكامه، إذ هو الوارث لعلوم أهل البيت.

وهذه هى أهم المبادئ فى العقيدة الفاطمية الإسماعيلية، ولهم فى الفقه بعض آراء خالفوا فيها الجماعة مثل المناداة فى الأذان بحىّ على خير العمل ومثل ميراث البنت لكل مال أبيها إذا لم يكن لها أخ، ومثل مسح القدمين فى الوضوء بالماء لا غسلهما. ولعل دولة عربية لم تعن بالدعاية كما عنى الفاطميون، فقد كان لهم فى كل بلد دعاة، وكانوا يقسمون العالم العربى والإسلامى إلى أقسام سموها جزائر وعينوا لكل جزيرة دعاتها، وللدعاة جميعا رئيس أعلى يسمى داعى الدعاة وباب الأبواب، ويليه الحجة وهو كبير الدعاة فى الإقليم، وصاحب التأويل الذى يعقد مجالس الحكمة ويتلو على الناس علوم أهل البيت ويأتى وراء ذلك الدعاة والنقباء من كل صنف.

ومن يحاول التعرف على دعاة هذه الدولة سيلاحظ توا أنهم كانوا غير مصريين وأنه كان بينهم المغربى والشامى والإيرانى، وكأن مصر لم تقبل على الدعوة الفاطمية، بل ظلت سنّيّة ومبتعدة عنها، وكأنها دخلتها من باب وخرجت من باب آخر، كريح مرت ولم تترك وراءها أثرا. ومعنى ذلك أن مصر لم تعتنق المذهب الإسماعيلى الفاطمى، ربما اعتنقه بعض أفراد، أما مصر الأمة والشعب فقد ظلت منصرفة عنه فى إصرار لسبب طبيعى وهو أن مصر بلد معتدل

ص: 59

المزاج لا يتطرف يمينا ولا يسارا، بل إن التطرف يخالف طبيعته ويباينها أشد المباينة. وحاول بعض الباحثين أن يجد شيئا من أثر التشيع الفاطمى، فعثر على أسماء أفراد كانوا يتشيعون أو ينسب لهم التشيع هنا وهناك، ونجزم بأنهم لم يكونوا إسماعيليين يؤمنون بالمبادئ السابقة، إنما كانوا سنّيّين محبين لأهل البيت، وكانت مصر قبل الفاطميين وإلى اليوم تحبهم، ولكن دون أن تعتنق مذهبا من مذاهب الشيعة، فضلا عن المذهب الإسماعيلى وما فى مبادئه من غلو مفرط.

6 -

الزهد (1) والتصوف

مصر-من قديم-بلد دين، تعيش به وتعيش له؛ وما أهراماتها إلا رموز ضخمة لدينها الوثنى فى عصر الفراعنة، حتى إذا اعتنقت المسيحية توغلت فيها وفيما تحمله من زهد فى حطام الدنيا ومتاعها الفانى، نافذة خلال ذلك إلى الرهبنة التى أشاعتها فى هذا الدين، حتى غدت من خصائصه، فإذا أناس من معتنقيه يعتزلون العالم وكل ما فيه من شهوات ومآرب إلى الأديرة ينفقون فيها حياتهم ناسكين متعبدين. وتدخل مصر فى الإسلام وسرعان ما تقبل على تعاليمه الزاهدة التى تحض على التقوى والنسك، ترفدها فى ذلك نوازعها الدينية الموروثة، وهى نوازع ظلت تنبض بقوة فى المجتمع المصرى الإسلامى. وحقا قد نجد أحيانا أفرادا من الشعب أو من الأمراء الحكام يمجنون، وقد نجد أسرابا من المجون فى بعض الأزمنة المتأخرة، ولكن ذلك لم يكن يعدو زبدا أو قشورا تبدو أحيانا فوق السطح، أما الأعماق فترفض المتاع الدنيوى المادى وتتعلق بما عند الله من المتاع الأخروى الروحى.

(1) انظر فى الزهد والتصوف الولاة والقضاة للكندى، والمغرب، وحسن المحاضرة للسيوطى، وطبقات الصوفية لأبى عبد الرحمن السلمى، والطبقات الكبرى للشعرانى. وكذلك كتاب لواقح الأنوار، والخطط للمقريزى فى الخانقاهات والرباطات والزوايا، والرسالة القشيرية، وكشف المحجوب للهجويرى ترجمة الدكتورة إسعاد عبد الهادى قنديل وأخبار الحكماء للقفطى وتهذيب ابن عساكر، وابن خلكان وابن شاكر فى تراجم بعض المتصوفة والزهاد وابن تغرى بردى وبدائع الزهور لابن إياس وتاريخ الجبرتى وكتاب فى التصوف الإسلامى لنيكلسون والحركة الفكرية فى مصر فى العصرين الأيوبى والمملوكى للدكتور عبد اللطيف حمزة، وإبراهيم الدسوقى وأحمد البدوى فى دائرة المعارف الإسلامية، والتصوف فى مصر إبان العصر العثمانى والشعرانى للدكتور توفيق الطويل.

ص: 60

ومنذ الفتح الإسلامى تنشأ فى مصر وتنمو جماعات من النساك العباد تتجرد عن متاع الدنيا وتنبذ طيباتها، واقرأ فى تراجم القصاص الوعاظ والفقهاء والمحدثين والقراء والقضاة، فستجد عشرات من هذه الفئات يزهدون فى متاع الدنيا، بل يفرطون فى الزهد متحملين فى ذلك مشقات عنيفة من الجوع وغير الجوع. نذكر منهم سليمان التجيبى، وهو أول من قصّ ووعظ الناس بمصر فى زمن معاوية فإن السيوطى يذكر عنه فى كتابه حسن المحاضرة أنه كان يسمى الناسك لشدة عبادته، وكان يختم القرآن فى كل ليلة زلفى وتعبدا لربه. ومنهم المزنى صاحب الشافعى وأكثر تلاميذه تصنيفا فى مذهبه، وفيه يقول ابن خلكان فى ترجمته:«كان فى غاية الورع، وبلغ من احتياطه أنه كان يشرب فى جميع فصول السنة من كوز نحاس، فقيل له فى ذلك؟ فقال: بلغنى أنهم يستعملون السّرجين (روث البهائم) فى الكيزان والنار لا تطهرها. وذكر أنه كان إذا فاتته الصلاة فى جماعة صلى منفردا خمسا وعشرين مرة أو صلاة استدراكا لفضيلة الجماعة، مستندا فى ذلك إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين درجة» .

وكان من الزهد على طريقة صعبة شديدة». ومنهم بكار بن قتيبة القاضى فى عصر ابن طولون، وفيه يقول ابن سعيد فى كتابه المغرب: قسم الفسطاط: «كان أحد البكّائين والتالين لكتاب الله، وكان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وعرض عليها قضايا جميع من تقدموا إليه وما حكم به وبكى خشية خطئه، وكان يكثر الوعظ للخصوم» . ويورد السيوطى ثبتا طويلا بمن كان بمصر من الصلحاء والزهاد والصوفية فى كتابه حسن المحاضرة، ويذكر بينهم سيدات عابدات ناسكات فى مقدمتهن السيدة نفيسة حفيدة الحسن بن على بن أبى طالب المتوفاة سنة 208، وكانت مقيمة فى موضع مسجدها اليوم بالقاهرة، وكان الناس يجتمعون إليها لسماع الحديث، ولما دخل الإمام الشافعى القاهرة حضر إليها وسمع الحديث عنها. ومن هؤلاء المتعبدات الناسكات فاطمة بنت عبد الرحمن بن أبى صالح المتوفاة سنة 312 وقد عاشت طويلا، ويقال إنها ظلت ستين سنة لا تنام إلا وهى فى مصلاّها بغير فراش.

وطبيعى ومصر دار كبيرة من دور الزهد والعبادة والنسك أن ينشأ فيها سريعا التصوف، ويذكر الكندى أنه ظهرت فى ولاية السّرىّ بن الحكم سنة 200 للهجرة بالإسكندرية طائفة يسمون الصوفية يأمرون بالمعروف ويعارضون السلطان فى امره ترأس عليهم رجل منهم يقال له أبو عبد الرحمن الصوفى. ويمكن أن نتخذ هذه السنة تاريخا تقريبيا لظهور التصوف فى مصر.

ويروى الكندى أنه كان فى القاهرة جماعة مماثلة لعهد المامون كانت تحيط بقاضيه عيسى بن المنكدر

ص: 61

تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وكأن التصوف عرف فى مصر بقوة منذ أوائل القرن الثالث الهجرى. وقد أورد القشيرى فى رسالته آراء مختلفة فى اشتقاق كلمة صوفى، وهل هى من الصفاء أو من الصوف لأن الصوفية كانوا يلبسونه ويتخذونه شعارا لتقشفهم، أو هى من الصّفّة وأهلها الذين كانوا ينقطعون للعبادة فى المسجد زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يرجح القشيرى رأيا على آخر، وذهب البيرونى إلى أن كلمة التصوف مشتقة أو مأخوذة من كلمة صوفيا بمعنى الحكمة عند اليونان، ونظن ظنّا أنها مشتقة من الصوف لأن لبسه شاع مبكرا بين المتصوفة.

وما نمضى طويلا فى القرن الثالث الهجرى حتى نسمع بأبى حاتم العطار المصرى أستاذ أبى تراب النخشبى المتوفى سنة 245 وأهم منه ذو النون المصرى المتوفى مع أبى تراب فى نفس السنة، واسمه ثوبان بن إبراهيم، وقيل الفيض بن أحمد الإخميمى. كان أوحد وقته زهدا وورعا وعبادة ونسكا، طلب الفقه فى أول حياته فتتلمذ لليث بن سعد فقيه الفسطاط، ثم رحل إلى الإمام مالك فى المدينة المتوفى سنة 179 فروى عنه الموطّأ، ثم نزع إلى التصوف والنسك فتتلمذ لشقران العابد. ويذهب نيكلسون إلى أنه المؤسس الحقيقى للتصوف الإسلامى مستندا فى ذلك إلى قول ابن تغرى بردى «إنه أول من تكلم ببلده فى ترتيب الأحوال والمقامات» وبذلك يجعله نيكلسون أستاذ المتصوفة جميعا-غير منازع-فى العالم الإسلامى. وينقل عن تذكرة الأولياء للجامى أنه أول من وضع تعريفات للوجد والسماع، وأنه ذكر كأس المحبة الذى يسقى به الله المحبين وأنه كان يقسم المعرفة ثلاثة أقسام: قسما عاما للمسلمين جميعا وقسما خاصا بالفلاسفة والعلماء وقسما خاصا بالصوفية الذين يرون الله بقلوبهم. وبذلك ميّز المعرفة الصوفية من المعرفة العلمية والفلسفية، فالأولى قلبية تعتمد على البصيرة والحدس، والثانية عقلية تعتمد على التفكر والمنطق، ومعنى ذلك أن التصوف ليس فلسفة ولا علما ولا فكرا وإنما هو أحوال ومقامات وهو-بذلك-إن صح أن يسمى علما، علم باطن مقصور على الخواص. ودائما كان يفرّق بين الخواص وهم المتصوفة وبين العوام أو عامة المسلمين بمثل قوله:«توبة العوام تكون من الذنوب وتوبة الخواص تكون من الغفلة» وكان يقول: «ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة كمن احتجب عن الله بالغفلة» . وكان يقول أيضا: «الصوفى من إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق» . وكان يكثر من الحديث عن مبدأ التوكل الصوفى على الله قائلا: علامة التوكل انقطاع المطامع. وكان يقول: «من علامات المحب لله متابعة حبيب الله (أى رسوله) فى أخلاقه وأفعاله وأوامره وسننه» . وفى هذا القول ما يدل

ص: 62

بوضوح على أن التصوف عنده لم يحدث بينه وبين الشريعة أىّ انفصام وأن ما ذكره الهجويرى فى كشف المحجوب من أنه كان من الملامتية الذين يتظاهرون بالاستخفاف بأمور الشريعة عار عن الصحة، فالتصوف عنده لا يقوم بدون الشريعة، والحياة الصوفية لا تتحقق بدون الفرائض والسنن الشرعية. واستحضره الخليفة المتوكل من مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكل وردّه مكّرما، وكان المتوكل إذا ذكر أهل الورع يبكى ويقول: حىّ هلا بذى النون. ويقال إنه كان على معرفة بعلم الكيمياء.

ويذكر القشيرى فى رسالته والهجويرى فى كتابه كشف المحجوب وغيرهما طائفة من تلاميذه الصوفية من أعلام القرن الثالث، منهم ابن الجلاّء شيخ مشايخ الشام ويوسف بن الحسين الرازى شيخ مشايخ إيران والجنيد شيخ مشايخ بغداد وزميله الخرّاز وهو أول صوفى تكلم فى الفناء وسهل بن عبد الله التّسترى شيخ الحلاج الصوفى المشهور. وفى ذلك ما يشهد بأن أثر ذى النون ومصر فى التصوف وتاريخه كان أثرا بعيدا وعميقا إلى أقصى حد. ويشتهر بعده غير صوفى بمصر، ويفد عليهم كثيرون من متصوفة البلدان الأخرى طوال القرن الثالث، ونذكر من متصوفتها حينئذ أبا بكر الدقاق المتوفى سنة 290 واشتهر أحد صوفّيتها وهو بنان الحمّال المتوفى سنة 316 بكثرة كراماته، ومن صوفيّتها أبو على الروذبارى المتوفى سنة 322. ويقول ابن سعيد فى المغرب قسم الفسطاط: كان الإخشيد يحب الصالحين ويركب إليهم ويطلب دعاءهم، وأنه ركب إلى رجل صالح بالقرافة يسمى ابن المسيّب وسأله الدعاء، وأنه كثيرا ما كان يلم بأبى سهل بن يونس ويطلب منه الدعاء فى خشوع متبرّكا به.

وتدخل مصر فى أيام الفاطميين، ويبدو أنهم لم يكونوا يهتمون بالصوفية لسبب مهم وهو أن كلا منهم كان يزعم لنفسه علم الباطن، وكان الصوفية يقولون بحق إن علمهم ينبع من القلب ومن التأمل الباطنى، وزعم الفاطميون لأئمتهم أنهم أصحاب علم لا يشركهم أحد فيه، فأدى ذلك إلى شئ من التعارض بين الطرفين، وبذلك انصرف الفاطميون عن الاهتمام بالتصوف وأهله.

وفى هذه الأثناء حدث صدع كبير بين الفقهاء والمتصوفة وخاصة فى المشرق: فى العراق وإيران إذ رفع المتصوفة أنفسهم فوق الفقهاء درجات، وقالوا إن الأهم فى الحياة الدينية عمل القلب لا عمل الجوارح والنهوض بالفرائض الدينية، بل إن منهم من أهمل هذه الفرائض، مما جعل الفقهاء يحملون عليهم حملات عنيفة. وتنبه القشيرى والغزالى إلى خطورة هذا الصّدع فى بنيان الحياة الدينية وحياة الأمة، فعملا بقوة على رأبه، بحيث لا يكون المتصوف متصوفا حقا إلا إذا

ص: 63

أدّى الفرائض والسنن الدينية، ولا بد للفقيه فى هذه السنن والفرائض من الإخلاص وصفاء القلب وصدق الشعور الباطنى.

وبذلك عادت إلى صفوف المتصوفة والفقهاء-بل إلى صفوف الأمة-الوحدة، ودعمها ووثقها حدث خطير هو اجتياح حملة الصليب لديار الإسلام فى الشام والموصل منذ أواخر القرن الخامس الهجرى، فوقفت الأمة جميعها بنيانا مرصوصا ضد أعداء الإسلام، حتى يذيقوهم وبال عدوانهم ويسحقوا جموعهم سحقا. وحمل المتصوفة والفقهاء السلاح وتقدموا صفوف المجاهدين، وبذلك نفهم عناية صلاح الدين بهم جميعا، فقد أخذ يقيم المدارس للفقهاء، كما أخذ يعنى بإقامة الزوايا للمتصوفة، واتخذ لهم فى القاهرة دارا كبيرة من دور الفاطميين كانت تسمى دار سعيد السعداء، جعلها لهم «خانقاه» ومعناها بالفارسية دار عبادة، يعبدون فيها الله وينسكون.

وفتح أبوابها للصوفية الواردين على القاهرة من العالم الإسلامى منذ أنشأها فى سنة 569 وهى أول خانقاه أقيمت للصوفية بمصر، ووقف عليها بستانا وعقارات تكفل نفقاتها عن سعة، وجعل لها شيخا سمّى شيخ الشيوخ، ورتّب للصوفية فيها كل يوم طعاما ولحما وخبزا، وبنى لهم حماما وأجرى عليهم الجرايات، ورسم لهم رسما: أن من ترك منهم عشرين دينارا فما دونها كانت لمتصوفتها وأن من أراد منهم السفر يعطى ما يكفل له سفره، وكانوا يخرجون منها كل يوم جمعة للصلاة فى الجامع الحاكمى فى مشهد مهيب، فشيخهم يتقدمهم وبين يديه خدام المصحف الشريف، وقد حمل المصحف على رأس أكبرهم والصوفية وراءه ماشون بسكون وخفر، حتى إذا صلوا الجمعة عادوا إلى الخانقاه بنفس المشهد الرائع.

وأخذ التصوف من حينئذ يزدهر فى مصر، واتضح فيه اتجاهان: اتجاه فردى فلسفى، واتجاه جماعى سنّى، ويمثل الاتجاه الأول ابن الفارض سلطان العاشقين للذات الإلهية، وهو يصور فى شعره وجده وهيامه بربّه وأحواله فيه ومقاماته ومدى ما نعم به فى شهوده، مع مدحه للرسول الكريم، وقد رفع حقيقته المحمدية لواء يتجمع حوله المسلمون ليسددوا للصليبيين الضربة القاضية.

وكان يقابل هذا المنزع الصوفى الفلسفى الفردى المنزع الصوفى الجمعى، وقد هيأت له خانقاه صلاح الدين السالفة الذكر، وكان كثيرون منهم قد أقبلوا من العراق والشرق يحملون مبادئ طريقتين من طرق التصوف السنى، هما الطريقة القادرية للشيخ عبد القادر الجيلانى البغدادى المتوفى سنة 561 والطريقة الرفاعية لمواطنه ومعاصره الشيخ أحمد الرفاعى المتوفى سنة 578، وأخذت الطريقتان تشيعان بين المتصوفة المصريين، وما نمضى فى القرن السابع طويلا حتى ينزل

ص: 64

بالإسكندرية من شاذلة فى الجزائر الشيخ أبو الحسن الشاذلى المتوفى سنة 656 ويؤسس بها الطريقة الشاذلية، ويتبعه خلق كثير فى الإسكندرية والقاهرة، ونراه هو وأتباعه ومريديه فى مقدمة الصفوف التى دمّرت فى موقعة المنصورة سنة 647 حملة لويس التاسع، بفضل ما أذكوه فى المجاهدين لأعداء الله من حماسة ملتهبة.

وتدول دولة الأيوبيين بمصر وتخلفهم دولة المماليك، وتعظم رعايتها للمتصوفة، فتبنى لهم كثيرا من الخوانق والرباطات والزوايا، ويعدّ المقريزى من الخوانق اثنتين وعشرين كان من أهمها الخانقاه البيبرسية، ويقول المقريزى: بناها ركن الدين بيبرس سنة 707 وهى أجمل خانقاه بالقاهرة بنيانا، وكان بها أربعمائة صوفى، وكانت فيها دروس منظمة للحديث النبوى وقراءة الذكر الحكيم. ثم خانقاه سر ياقوس بناها الناصر محمد بن قلاوون سنة 723 وكان بها مائة خلوة لمائة صوفى وبنى لها مسجدا وحماما ومطبخا، وأيضا كان ملحقا بها حمام للنساء مما يدل على أنه كان لبعض المتصوفات فيها خلوات خاصة. وخانقاه شيخون بناها سنة 757 ورتب فيها دروسا لفقهاء المذاهب الأربعة ودرسا للقراءات ودرسا للحديث ومشيخة لسماع صحيح البخارى وصحيح مسلم. وبجانب الخانقاهات بنى أمراء المماليك للمتصوفة اثنى عشر رباطا، وكانت ترتّب لها الجرايات ومجالس الوعظ. وأصل الرباط الثغر فى دار الحرب، ولعل فى إطلاقه على زوايا المتصوفة حينئذ ما يدل على صلتهم المستمرة بالجهاد. ومن الطريف أن أحد الرباطات كان مخصصا للمتصوفات والأرامل ممن لا يجدن من يعولهن، وكانت شيختهن صوفية وعادة تكون واعظة. وبنى المماليك ستا وعشرين زاوية للعبّاد والنساك وكانت ترتّب لكل هذه الزوايا والرباطات والخانقاهات الأطعمة والحلوى والكسوة والزيت والصابون، ومن أجل ذلك حبست عليها أوقاف كثيرة.

وكان طبيعيّا أن تكثر الطرق الصوفية فى زمن هذه الدولة التى اتسعت فى رعاية المتصوفة ونلتقى فى أوائلها بأبى الحسن الشاذلى مؤسس الطريقة الشاذلية-كما قدمنا-وقد تعددت فروعها حتى بلغت أحد عشر فرعا أهمها الطريقتان: الوفائية والخلوتية. وقد تفرعت الأخيرة بدورها إلى أربعة فروع. ونلتقى بإبراهيم الدسوقى المتوفى سنة 672 مؤسس الطريقة البرهامية، وبأحمد البدوى المتوفى بطنطا سنة 695 مؤسس الطريقة الأحمدية وقد تعددت فروعها حتى بلغت ستة عشر فرعا.

ودخلت مصر فى أوائل أيام الأيوبيين-كما قدمنا-الطريقتان القادرية الجيلانية والرفاعية،

ص: 65

ودخلتها فروع من المولوية أتباع جلال الدين الرومى المتوفى سنة 673، ومن القلندريّة وهم أتباع قلندر يوسف، وكانوا يحلقون لحاهم وحواجبهم، وقلّت أعمالهم من الصوم والصلاة إلا الفرائض وكانوا لا يتقشفون ولا يتنسكون، وكان لهم زاوية خارج باب النصر بالقاهرة بالقرب من القرافة، ويقول المقريزى إن أول ظهورهم كان بدمشق سنة 619 للهجرة. وعرفت بمصر بأخرة من أيام المماليك الطريقة النقشبندية أتباع محمد النقشبندى المتوفى سنة 791 وكذلك الطريقة البكتاشية. وشاعت أيام العثمانيين الطريقة الخلوتية المتفرعة-كما أسلفنا-من الطريقة الشاذلية، وفى مقدمة أعلامها بمصر مصطفى كمال الدين البكرى المتوفى سنة 1162 للهجرة، والشيخ الحفنى، وعنه أخذ الطريقة الشيخ أحمد الدردير، وسنعرض له فى غير هذا الموضع.

وتتميز هذه الطرق بعضها عن بعض بالأوراد، فلكل منها ورد خاص وهو مجموعة من المناجيات لله والأدعية والابتهالات، وتتميز أيضا بالأزياء، فعمائم الدسوقية وبيارقهم وأعلامهم خضراء، وعمائم القادرية بيضاء، وهى عند الأحمدية حمراء، وعند الرفاعية سوداء. وكانت لهذه الطرق تنظيمات دقيقة منتهى الدقة، فتابع الشيخ يلزمه مدة تقصر أو تطول حتى يتلقن عنه طريقته، وحتى يثبت إخلاصه الشديد له، فليحقه بمريديه أو تلاميذه ويلبسه خرقة التصوف:

شعار الطريقة، ويصبح ظلاّ له، إذ تتلاشى إرادته فى شيخه تلاشيا تاما وفى ذلك يقول الشعرانى فى كتابه:«لواقح الأنوار» نقلا عن الشيخ إبراهيم الدسوقى: «المريد مع شيخه على صورة الميت، لا حركة ولا كلام، ولا يقدر أن يتحدث بين يديه إلا بإذنه، ولا يعمل شيئا إلا بإذنه من زواج أو سفر أو خروج أو دخول أو عزلة أو مخالطة أو اشتغال بعلم أو قرآن أو ذكر أو خدمة الزاوية أو غير ذلك» . وتمضى الأيام ويصبح المريد شيخا، وكانوا يرسلون بالمريدين إلى البلدان والقرى، وبذلك يصبح للشيخ صاحب الطريقة أتباع كثيرون فى وطنه وفى الوطن الإسلامى الكبير، وإذا هو صاحب طريقة كبرى، ولكل طريقة شيوخها الكبار.

وكان مما أتاح لهذه الطرق مكانة كبيرة فى نفوس العامة أنهم كانوا يعتمدون على أوقاف محبوسة على زواياهم ورباطاتهم وخانقاهاتهم، فلم يكونوا يأخذون من الدولة رواتب مثل الفقهاء المدرسين والقضاة والمحدثين والقراء، ممن كانوا يعتمدون فى معاشاتهم على الهيئات الحاكمة، أما هم فلم يكونوا يعتمدون عليها، وبذلك كان لهم استقلال روحى واضح، جعلهم يقفون أحيانا فى وجوه الحكام، ويقاومونهم حين يتطلب الشعب هذه المقاومة بسبب ظلم أو طغيان أو زيادة فى الضرائب أو غير ذلك. وهو ما جعل العامة فى كافة البلاد الإسلامية تتعلق بهم تعلقا

ص: 66

شديدا، كما جعل الحكام من المماليك وغيرهم يخشونهم ويحسبون حسابهم. ولعلنا لم ننس ما مر بنا فى نشأة جماعة من المتصوفة بالإسكندرية والفسطاط وأنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويعارضون الحكام أحيانا. ونرى المتصوفة يستظهرون هذا كله فى أيام المماليك، فإذا ثارت العامة لفساد أو طغيان أو انحلال فى الأخلاق كان المتصوفة من وراء ثورتها، وكان سلاطين المماليك يرهبونهم وينفّذون لهم ما يريدون. ومما يدل على مكانتهم لزمانهم أن نجد طومان باى بأخرة من سلاطين المماليك لا يقبل السلطنة إلا بعد أن يأخذ له الشيخ أبو السعود الجارحى العهد على الأمراء جميعا، فقد لجأ إلى صوفى ولم يلجأ إلى شيخ الإسلام والفقهاء والقضاة فى عصره.

وقد أفضنا فى الحديث عن التصوف السنى وطرقه فى أيام المماليك، ولم نعرض للتصوف الفلسفى إلا عند ابن الفارض، وكأن مصر انصرفت عنه إلا ما قد يفد عليها مع بعض أصحابه مثل الششترى الأندلسى، وعفيف الدين التلمسانى نزيل دمشق وساكنها المتوفى سنة 690. وربما كان المصرى الوحيد الذى اعتنق التصوف الفلسفى ومذهب ابن عربى فيه عبد العزيز بن عبد الغنى الحسنى من الأسرة الحسنية بينبع، نزل أبوه مصر، وسكن هو الصعيد وشغف بالتصوف. وينقل ابن حجر فى ترجمة له بكتابه الدرر الكامنة أنه من أتباع ابن عربى، وربما لقيه حين زار مصر، أو لعله رحل إليه فى دمشق، إذ عاش نحو مائة سنة وتوفى سنة 703 وكأن مذهب ابن عربى فى الحلول والاتحاد بالذات الإلهية وجد له عن طريقه مسربا إلى مصر.

على أنه ينبغى أن نذكر أن التصوف بأخرة من أيام المماليك وفى أيام العثمانيين أخذ ينحرف عن طريقه السوى القديم، بسبب تحول خانقاهاته ورباطاته وزواياه الى تكايا وسعت كثيرين من الدجالين والمشعوذين ومن سموّا بالمجاذيب والدراويش. وكان منهم من يحلق رأسه ولحيته وشعر حاجبيه ورموش عينيه، ومن يدعى الكرامات وأنه من أولياء الله، والله براء منه، لا نحرافه عن جادّة الدين. على أنه ينبغى ان لا يبالغ الباحثون فى الحملة على المتصوفة فى الأزمنة المتأخرة، إذ مما لا شك فيه أنهم هم وأسلافهم السابقين استطاعوا دراويش وغير دراويش أن يحافظوا للإسلام طوال الأزمنة الماضية على وحدته السنية حتى فى زمن العثمانيين: أكثر الأزمنة تدهورا وتأخرا. ولعل أكبر صوفى مصرى ظهر فى زمنهم هو الشعرانى المتوفى سنة 973 وكان واسع المعرفة عميقها بالعلوم الإسلامية وكذلك بالتصوف واتجاهيه الفلسفى والسنى، إذ قرأ ابن العربى وابن الفارض كما قرأ الغزالى والقشيرى وغيرهما من أصحاب الطرق الصوفية، وآثر التصوف السنى وانتظم فى سلك الطريقة الشاذلية، وحاول أن يكوّن لنفسه طريقة متفرعة منها سماها الطريقة

ص: 67

الشعرانية. وله مصنفات كثيرة تعدّ بالعشرات، أكثرها فى التصوف، أشاع فيها إيمانه بالكرامات والخوارق لا لغيره من المتصوفة فحسب، بل أيضا لنفسه وما حدث له مع الجن والملائكة. وكان مثل كبار المتصوفة قبل زمنه يعتز بكرامته إزاء الحكام إلى أقصى حد، فهو لا يقبل منهم مالا ولا هدية. وسأله أحد الحكام العثمانيين وهو راحل إلى الآستانة ألك حاجة عند السلطان، فأجابه توّا: ألك أنت حاجة عند الله؟ فوجم الحاكم ولم ينبس ببنت شفة. ويقول الجبرتى فى الجزء الأول من تاريخه: «كان الإمام العلامة الحفنى قطب رحى الديار المصرية ولا يتم أمر من أمور الدولة إلا باطلاعه وبإذنه» . ومعنى ذلك أن الصوفية ظلوا فى أيام العثمانيين الحالكة-كما كانوا فى الأيام السالفة-يستشعرون استقلالهم الروحى والمادى إزاء الحكام، كما ظلوا يستشعرون إرادة الشعب وماله من قوة وسلطان.

ص: 68