الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القلقشندى
(1)
هو شهاب الدين أحمد بن على ولد بقلقشندة بالقرب من قليوب سنة 756 وإليها ينسب، وهو من أصل عربى صميم إذ ينتمى إلى عشائر فزارة التى استوطنت مصر عقب الفتح الإسلامى.
ويبدو أنه نشأ فى القاهرة، وأخذ فيها ينهل من حلقات علماء الشافعية وغيرهم فى زمنه، وهو مع ذلك يعنى بالأدب والعلوم اللغوية. وفى نحو العشرين من عمره بارحها إلى الإسكندرية ونرى العالم الشافعى الكبير المعروف بابن الملقن يجيزه فيها سنة 778 بالفتيا والتدريس على مذهب الإمام الشافعى كما يجيزه برواية مؤلفاته فى الفقه والحديث وكل ما كان يرويه من الصّحاح الستة ومسند الشافعى ومسند ابن حنبل. وسرعان ما تصدر للإفادة وهو فى الحادية والعشرين من عمره، وأقبل عليه كثير من التلاميذ يأخذون عنه الفقه والأصول وعلوم العربية. وظل فى ذلك نحو ثلاثة عشر عاما، ألف فى أثنائها شرحا فى الفقه الشافعى على كتاب جامع المختصرات ومختصرات الجوامع سمّاه الغيوث الهوامع. كما ألف فى أنساب القبائل العربية كتابين هما:«نهاية الأرب فى معرفة قبائل العرب» و «قبائل الجمان فى التعريف بقبائل عرب الزمان» . ونراه فى سنة 791 يترك مهنة التدريس للعمل بديوان الإنشاء، وكان يرأسه بدر الدين بن علاء الدين بن يحيى بن فضل الله العمرى، وهو آخر من وليه من هذا البيت كما مر فى ترجمة عمه ابن فصل الله العمرى. واعترافا بفضله أنشأ القلقشندى مقامة طويلة فى تقريظه صوّر فيها صناعة الإنشاء وأصولها وعكف توّا على تأليف كتابه «صبح الأعشى فى صناعة الإنشا» . وهو موسوعة ضخمة فى أربعة عشر مجلدا ظل يعنى بتأليفها فى نحو ربع قرن من الزمان حتى سنة 814 وظل يراجعها ويزيد عليها حتى حين وفاته سنة 821 للهجرة.
ويبتدئ القلقشندى صبح الأعشى بمقدمة تتناول فضل الكتابة ومدلولها وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وصفات الكتّاب وآدابهم والتعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وقوانينه ووظائفه، ثم تتوالى عشر مقالات أو أقسام كبيرة، والمقالة الأولى تتحدث عما يحتاج إليه كاتب
(1) انظر فى القلقشندى الضوء اللامع للسخاوى 2/ 8 وشذرات الذهب 7/ 149 والمنهل الصافى لابن تغرى بردى 1/ 330 ومقدمة الجزء الأول من صبح الأعشى وتاريخ الأدب الجغرافى لكراتشكوفسكى 1/ 416. وراجع فى مقامات القلقشندى ومفاخراته صبح الأعشى 14/ 112، 204، 231. وصبح الأعشى مطبوع من قديم بدار الكتب المصرية فى 14 مجلدا.
الإنشاء من المعارف والأدوات المتعلقة بصناعته كالخط واللغة والنحو والبلاغة وغير ذلك من مختلف العلوم، يشغل ذلك من الكتاب الجزء الأول بعد المقدمة والجزء الثانى وشطرا غير قليل من الجزء الثالث. والمقالة الثانية تبدأ بالمسالك والممالك وبمعلومات تاريخية عن الخلافة الأموية والعباسية وبمعلومات جغرافية وتاريخية مهمة عن مصر من أول دخولها فى الإسلام إلى زمن القلقشندى، ويترك مصر إلى الشام وجميع الدول التى كان لها أدنى صلة بمصر من أقصى الشرق إلى السودان وأقصى الغرب والبلدان الأوربية. ويمتد حديث القلقشندى فى ذلك إلى الشطر الأكبر من الجزء الخامس. والمقالة الثالثة فى أنواع المكاتبات وأسماء الكنى وألقاب أرباب السيوف والأقلام وأصحاب الوظائف من النصارى واليهود والخلفاء العباسيين والأمويين فى الأندلس والفاطميين والموحدين بالمغرب وألقاب الملوك الأقدمين فى اليمن وإيران ومصر والروم والحبشة وملوك فرغانة وأوروبا والحبشة مع التفصيل فى الألقاب الإسلامية. ويعود إلى الحديث عن الورق والكتابة ويشغل ذلك كله بقية الجزء الخامس والجزء السادس. ويتحدث القلقشندى فى المقالة الرابعة عن المكاتبات الصادرة عن ملوك مصر وغيرهم ومصطلحات الكتابة السلطانية والإخوانية ويمتد ذلك فى الكتاب إلى شطر من الجزء التاسع، والمقالة الخامسة يوضح فيها القلقشندى الولايات ووظائف الدولة الكبرى ويقدم طائفة كبيرة من البيعات والعهود والتقاليد والمراسيم والتفاويض والتواقيع وخاصة ما يتصل بزمن المماليك. وتحمل هذه المقالة كثيرا من الوثائق التاريخية والاجتماعية المهمة، وهى تشغل بقية الجزء التاسع حتى نهاية الجزء الثانى عشر. والمقالة السادسة فى متنوعات من الوصايا الدينية والإطلاقات والمراسيم السلطانية والإقطاعات والأيمان وعقود الصلح والأمانات والهدن. وتشغل هذه الوثائق الجزء الثالث عشر من الكتاب وشطرا من الجزء الرابع عشر. وتعرض بقية هذا الجزء طرائف من المقامات والرسائل والمفاخرات والإجازات والتقريظات والتقاليد، وتلحق بالجزء خاتمة عن البريد وشئون المواصلات والاتصالات بين مصر وغيرها من البلدان الإسلامية.
ونعود إلى مقامته التى أشرنا إليها والتى وصف فيها صناعة الإنشاء وقرّظ بها صاحب ديوانها بدر الدين العمرى وقد سماها: «الكواكب الدرّية فى المناقب البدرية» وهى محكية أو مروية على لسان الناثر بن نظام ويلقانا فى فواتحها قوله:
«لم أزل من قبل أن يبلغ بريد عمرى مركز التكليف، ويتفرق جمع خاطرى بالكلف بعد التأليف، أنصب لاقتناص العلم أشراك التحصيل، وأنزّه توحيد الاشتغال عن إشراك التعطيل. .
أونس من شوارد العقول وحشيّها، وأشرّد عن روابض المنقول حوشيّها، وألتقط ضالّة الحكمة حيث وجدتها، وأقيّد نادرة العلم حيث أصبتها، مقدّما من العلوم أشرفها، ومؤثرا من الفنون ألطفها، معتمدا من ذلك ما تألفه النّفس ويقبله الطبع، مقبلا منه على ما يستجلى حسنه النظر ويستحلى ذكره السمع. . عارفا لكل عالم حقّه، وموفيا لكل علم مستحقّه، قد استغنيت بكتابى عن خلّى ورفيقى، وآثرت بيت خلوتى على شفيقى وشقيقى. . إلى أن أتيح لى من الفتح ما أفاضته النعمة وحصلت من الغنيمة على ما اقتضته القسمة».
وأكبر الظن أن قد اتضح لنا صوت القلقشندى وما يعمد إليه من حسن الجرس فى انتخاب ألفاظه وقوافى أسجاعه، بحيث لا نكاد نشعر بتكلف عنده، والجناس يرصّع كلامه على نحو ما نرى فى التكليف والكلف، وأشراك (حبالات) الصائد، والإشراك، وشوارد وأشرّد، والوحشى والحوشى، ويستجلى ويستحلى، وحقه ومستحقه، ورفيقى وشفيقى وشقيقى، وكل ذلك يمر على اللسان والسمع دون أى إحساس بنبو أو كلفة غير مستحبة، وبالمثل يرصّع كلامه بطباقات كثيرة من مثل التفرق والجمع والتوحيد والتعطيل وشوارد العقول وروابض المنقول. وفى أثناء ذلك يوشّى كلامه بالتورية إذ يقول:«أنزّه توحيد الاشتغال عن إشراك التعطيل» والتعطيل رفض التوحيد والشريعة، وهو المعنى القريب لسبق التعطيل بالإشراك والتوحيد، وهو لا يريده، وإنما يريد التعطل عن الاشتغال بالعلم والانصراف عنه. وبالمثل لا يريد بالإشراك الكفر الذى قد يفهم من اقترانه بالتعطيل إنما يريد الشركة أو المشاركة، وأيضا لا يريد بالتوحيد توحيد الله لاقترانه بالتنزيه وإنما يريد الوحدة. والتعبير لذلك كله ملئ بتوريات متعاقبة. وبالمثل قوله فى نهاية كلامه:«الفتح» وقد تلاه بالغنيمة والقسمة موريا بذلك عن الفتوح العلمى لا كما يظن من السياق الفتح الحربى. وبالمثل كلمة القسمة فهو لا يريد بها المعنى القريب الملائم للغنيمة وهو القسمة فى الحرب وإنما يريد بها المعنى البعيد وهو الحظ من قولهم قسمة ونصيب.
ولعل خصائص صوت القلقشندى ولغته قد اتضحت لنا تماما فهو كمعاصريه يستخدم السجع ويوشيه بمحسنات البديع وفى مقدمتها، الجناس والطباق والتورية، ونحس عنده بطواعية العبارات المسجوعة ومرانه على استخدام ألوان البديع دون أن نشعر بأى ثقل أو أى عبارة أو كلمة مستكرهة. وإذا مضينا فى قراءة المقامة وجدناه يذكر على لسان الناثرين نظام أنه لا بد لكل إنسان من حرفة يكتسب بها معاشه وأن الكتابة هى خير الحرف، وأفضل أنواعها الديوانية كتابة الإنشاء، إذ لها الذروة المنيفة والرتبة الشريفة، وأصحابها-كما يقول-أسّ الملك وعماده،
وأركان الملك وأطواده. ولسان المملكة الناطق، وسهمها المفوّق الراشق. ويحاور الناثر بن نظام فى كتابة الإنشاء والخراج أيهما أفضل؟ ويجيبه أنّى لكتّاب الأموال التأثير فى فلّ الجيوش من غير قتال، وفتح الحصون من غير نزال. وكأن القلم فى يد كاتب الإنشاء ينال من الأعادى مالا تناله السيوف والرماح. ويأخذ القلقشندى على لسان الناثر بن نظام فى بيان ما يلزم كاتب الإنشاء من حفظ كتاب الله وأحاديث رسوله وجوامع كلمه والعلم بالأحكام السلطانية واستظهار أشعار العرب على مر الأزمنة وأمثالهم وأقوال فصحائهم وخطبهم ورسائلهم مع سعة الباع فى اللغة والنحو والتصريف وفى علوم المعانى والبيان والبديع، ومع معرفة الخط وقوانينه وأصوله وقواعده، ومع ما تتم به الصناعة من الوقوف على علم الكلام وأصول الفقه والأحكام الشرعية والمنطق والجدل وأحوال الفرق والنّحل وعلم العروض والقوافى والرياضيات والهندسة وعلم الطب والبيطرة وعلمى الأخلاق والسياسة وعلم تدبير المنزل والفراسة. وأيضا لا بد من المعرفة بكل ما ذكره القلقشندى بعد ذلك مفصلا فى صبحه من شئون الولايات وألوان المكاتبات والبيعات والعهود والتقاليد والمراسيم والتواقيع والمناشير والأيمان والهدن وطرق البلدان ومسالكها. ويتساءل القلقشندى عمن يضم هذه الرتبة الرئيسة والمنقبة الشريفة؟ ويجيبه الناثر بن نظام إن ذلك قاصر على آل فضل الله العمرى ومنحصر فى سليلة البدر، الذى تدور عليه، فهو ابن بجدتها الذى ترجع فى علومها ورسومها وسائر أمورها إليه.
وللقلقشندى مقامة فى المفاضلة بين العلوم. وهى تنزع منزع المقامة الحصيبية للرشيد بن الزبير التى ألممنا بها فيما مر من حديثنا وفيها يعقد القلقشندى مفاخرة بين نحو سبعين علما ابتدأها بعلم اللغة واختتمها بفن التاريخ ذاكرا فخر كل علم على ما سبقه، محتجا عليه بفضائل موجودة فيه دون سابقه. استهلّها ببيان منافع العلوم بعامة، وذكر أنها اجتمعت يوما فتجادلت وتفاخرت، وكل منها ينتصر لنفسه بالحجج والبراهين الدامغة. وقد تلا فخر علم اللغة بفخر علم الصرف ثم بفخر علم النحو عليه قائلا:
«هل أنت إلا بضعة (1) منى، تسند إلىّ وتنقل عنى، لم يزل علمك بابا من أبوابى، وجملتك داخلة فى حسابى، حتى ميّزك المازنى فأفردك بالتصنيف، وتلاه ابن جنّىّ فتبعه فى التأليف. . وأنت مع ذلك كله مطوىّ ضمن كتبى، نسبتك متصلة بنسبتى، وحسبك لا حق بحسبى. أنا ملح الكلام، ومسك الختام، لا يستغنى عنى متكلم، ولا يليق جهلى بعالم ولا متعلم،
(1) بضعة: قطعة