الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان سيبويه المصرى يستخدم السجع دائما فى نقده أوقل فى هجائه للحكام، ويوشّيه بآية أو آيات قرآنية على نحو ما مرّ بنا آنفا أو بحديث نبوى. وكان يسوق مثل هذا الهجاء فى أثناء وعظه للناس، إذ كان واعظا كبيرا. والناس يضحكون لتنفيسه عنهم ما كان يقع عليهم من ظلم الحكام لزمنه فيضحكون ويغرقون فى الضحك. وكان بعض الحكام والوزراء يقرّبه ويجالسه أملا فى أن لا يكويهم أمام الشعب بسياطه. ورأى أبا الفضل جعفر بن الفرات يسير فى موكب كبير وكان قد تولى الوزارة، فقال:«ما بال أبى الفضل قد جمع كتّابه، ولفّق أصحابه، وحشد بين يديه حجّابه، وشمّر أنفه، وساق العساكر خلفه؟ أبلغه أن الإسلام طرق فخرج ينصره، او أن ركن الكعبة سرق فخرج لهذا الأمر ينكره» ؟ . ومع أن سيبويه كان يصوغ نوادره فى هذه الفصحى المسجوعة نجد عنده بعض ظواهر من عاميتنا أو لغتنا المتداولة، من ذلك أنه كان يعيد الضمير لغير العاقل مع الفعل مجموعا فى مثل:«فجاءت فراريج فلقطوا ما بين يديه» والفصيح فلقطت ما بين يديه. وكأن أسلافنا سبقونا إلى ذلك فى لغتهم اليومية منذ مثات السنين.
كتاب الفاشوش فى حكم قراقوش
ألف هذا الكتاب ابن مماتى الذى مرت ترجمته، وقد قصّ فيه طائفة من النوادر نسبها إلى قراقوش (1) التركى أحد قواد صلاح الدين الأيوبى. وكان قد أنابه عنه مدة بالديار المصرية وفوّض أمورها إليه، وهو الذى بنى السور الذى كان يحيط بالقاهرة، وبنى قلعة الجبل والقناطر فى طريق الأهرام. وكانت فيه شدة وقسوة، كما كانت فيه غفلة وغير قليل من الحمق، فانتهز ابن مماتى ذلك فيه، وألصق به طائفة من النوادر فى أحكامه جمعها فى كتابه «القاشوش (2) فى حكم قراقوش». ويدافع عنه ابن خلكان قائلا: فى الكتاب أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة فإن صلاح الدين كان معتمدا فى أحوال المملكة عليه، ولولا وثوفه بمعرفته وكفايته ما فوّضها إليه».
ويبدو أن قراقوش قسا فى تسخير المصريين فى بناء السور والقلعة والقناطر المذكورة، فانتقم لهم ابن مماتى منه بهذا الكتاب الذى وضعه عليه. وهو يستهلّه بقوله: «إننى لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش حزمة فاشوش، قد أتلف الأمة، والله يكشف عنهم كل غمّة، لا يقتدى بعالم،
(1) انظر فى قراقوش ابن خلكان 4/ 91 والنجوم الزاهرة 6/ 176 وعبر الذهبى 4/ 298.
(2)
راجع فى تحليل هذا الكتاب مقالا لنا فى مجلة الكاتب المصرى عدد نوفمبر سنة 1946 ص 361.
ولا يعرف المظلوم من الظالم والشكية عنده لمن سبق، ولا يهتدى لمن صدق، ولا يقدر أحد من عظم منزلته أن يردّ كلمه ويشتط اشتطاط الشيطان، ويحكم حكما ما أنزل الله به من سلطان، صنفت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين». ويأخذ ابن مماتى فى سرد أحكام قراقوش المضحكة. من ذلك أن سيدة سوداء شكت لقراقوش جارية مملوكة لها، فعجب أن تكون امرأة بيضاء خادمة لسيدة سوداء، فردّ شكواها مؤمنا بأنها ليست السيدة بل هى الجارية، والجارية البيضاء هى السيدة، وهمّ بحبسها لولا أن شفعت فيها جاريتها فعفا عنها. ومن ذلك أن رجلين من أصحاب اللحى الطويلة جاءاه يشكوان إليه رجلا أجرد كان يعبث بلحيتيهما، ونظر قراقوش إلى الرجل فلم يجد له لحية حينئذ صرخ فى الرجلين قائلا: إنهما اللذان اعتديا عليه بنتف لحيته، وصاح فى غلمانه أن يزجّوا بالرجلين فى غياهب السجون حتى ينبت الشعر فى ذقن الرجل وتطول لحيته. ومن ذلك أن الشرطة جاءته بحدّاد له قتل نفسا محرمة بغير حق، فأمر بشنقه فقيل له إنه حدادك الذى ينعل لك الفرس، فنظر أمام بابه فرأى رجلا قفّاصا فقال: «اشنقوا القفّاص وسيّبوا (اتركوا) الحداد. وعلى هذا النحو يصور ابن مماتى قراقوش متصرفا فى القضايا بحمق ما بعده حمق، ونضحك للتضاد بين المقدمات والنتائج، تباينا يضيع فيه المنطق، فسيدة تدخل شاكية لخادمتها، فتخرج خادمة والخادمة تصبح سيدتها، ورجل يدخل بدون لحية، فيخرج وله لحية نتفت، أو قل يدخل جانيا ويخرج مجنيا عليه، وقاتل يبرّأ وبرئ يقتل.
وما نظن أحدا فى مصر قديما بلغ من التشهير بحاكم ما بلغه ابن مماتى من التشهير بقراقوش وأحكامه بين الناس عن طريق هذه النوادر الشعبية التى اختار لها لغة المصريين الدارجة لزمنه قاصدا بذلك أن تشيع بين العامة، وهى فعلا شاعت أكبر شيوع وأوسعه فى مدن مصر وريفها، فكلما اشتكوا من حاكم وظلمه قالوا:«حكم ولا حكم قراقوش» .
وأضافت الحقب التالية إلى شخصية قراقوش نوادر مضحكة بجانب ما فى كتاب الفاشوش من نوادر كثيرة، مما جعل السيوطى يؤلف كتابا يستعير له اسم كتاب ابن مماتى، مضيفا فيه إلى قراقوش نوادر جديدة. وكأنما أصبحت شخصية قراقوش فى الأزمنة التالية شخصية خيالية لكل حاكم أحمق يخلط حمقه بظلمه. وأكبر الظن أن كلمة قراقوز التى تطلق فى تركيا والشام على خيال الظل وتصويره للحكام الظالمين الحمقى ترجع فى اشتقاقها إلى اسم قراقوش لا إلى ما يقال من أنها مؤلفة من لفظتين تركيّتين هما «قره» أى أسود و «قوز» أى عين وبذلك يكون معناها العين