الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدينية وبالسنة والحديث النبوى، فمنهما يستمد فى كل موارده الروحية. وقد أشار مرارا إلى أن لب تصوفه وما يذهب إليه من عقيدة الفناء فى الذات الربانية إنما يصدر فيه عن الرسول، يقول:
وجاء حديث فى اتحادى ثابت
…
روايته فى النّقل غير ضعيفة
يشير بحبّ الحقّ بعد تقرّب
…
إليه بنفل أو أداء فريضة
وهو يشير إلى الحديث النبوى المشهور: «ما تقرّب إلىّ عبدى بشئ أحبّ إلىّ من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدى يتقرّب إلىّ بالنوافل حتى أحببته، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها. . وإن سألنى أعطيته، ولئن استعاذنى لأعيذنّه» . وفكرة الانمحاء والفناء واضحة فى الحديث، ولعل فى ذلك ما يشير بوضوح إلى أن تصوف ابن الفارض وأمثاله إنما كان تصوفا إسلاميا خالصا. ومازال يتنسك لربه حتى وفاته سنة 632 للهجرة.
البوصيرىّ
(1)
هو أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حماد، كان أبوه من بوصير وأمه من دلاص، فكّون لنفسه من اسم بلديهما لقبا هو الدلاصيرى، غير أن اللقب الذى غلب عليه، وبه اشتهر، هو البوصيرىّ.
واختلف م ترجموا له فى تاريخ مولده كما اختلفوا فى تاريخ وفاته، والأرجح أنه ولد سنة 608 وتوفى سنة 698 وقى بل ولد سنة 598 وتوفى قبل السنة السالفة فقيل سنة 694 أو 95 أو 96 أو 97 وقيل بل سنة 681 والصحيح ما رجحناه. واختلف مثل لداته إلى الكتاتيب حتى حفظ القرآن الكريم، ثم انتظم فى حلقات الشيوخ يأخذ عنهم علوم الشريعة واللغة، ويبدو أن ميوله الأدبية اتضحت فيه مبكرة وتفتحت فى نفسه ملكاته الشعرية، مما جعله ينتظم فيمن يعملون فى الكتابة الديوانية، وعيّن فى دواوين بلبيس بالشرقية. ومرّ بنا هجاؤه للموظفين هناك وتسجيله عليهم
(1) انظر فى البوصيرى وحياته وأشعاره الفوات 2/ 412 والوافى بالوفيات للصفدى 3/ 105 وحسن المحاضرة 1/ 570 وشذرات الذهب 5/ 42 ومقدمة ابن حجر الهيثمى على شرح مدحته الهمزية النبوية ولطائف المنن لابن عطاء الله السكندرى وطبقات الصوفية للشعرانى 2/ 11 وما بعدها، والخطط الجديدة لعلى مبارك 10/ 8 وكتابنا فصول فى الشعر ونقده ص 229 - 254. وديوانه (طبعة الحلبى) بتحقيق محمد سيد كيلانى. وأورد بروكلمان فى كتابه تاريخ الأدب العربى 5/ 81 ترجمات بردته إلى اللغات الأجنبية وتخميساتها وتشطيراتها وشروحها المختلفة وكذلك الهمزية.
الخيانة للدولة وأكل أموال الناس بالباطل. ويبدو أنه زهد فى العمل معهم سريعا وعاد إلى القاهرة، محترفا إقراء القرآن للصبية وبعض الفتية فى مسجد الشيخ عبد الظاهر، وكان مسجدا مغمورا وتصادف أن أمر الملك الصالح فى أثناء توليه لمقاليد الأمور بمصر (637 - 647 هـ) بتوزيع ألف دينار على طلبة العلم. ولم يصب منها مسجده المغمور وطلابه شيئا، فنظم على لسان المسجد شكوى للملك الصالح استهلها بقوله:
ليت شعرى ما مقتضى حرمانى
…
دون غيرى والألف للرّحمن
أترانى لا أستحقّ لكونى
…
جامعا شمل قارئى القرآن
ونراه كثير الرحلة إلى البلدان المصرية والاتصال بمن فيها من الولاة، وله فيهم بعض المدائح وكذلك فى بعض وزراء الدولتين الأيوبية والمملوكية وفى بعض الأمراء والسلاطين، ويبدو أنه كان يضطر للمديح اضطرارا، ليوفر لأولاده الكثيرين الطعام والثياب، ويصرح بذلك مرارا فى مديحه بمثل قوله:
إليك نشكو حالنا إننا
…
عائلة فى غاية الكثره
وكما تلقانا فى أشعاره المبكرة أهاج مختلفة لموظفى الشرقية تلقانا عنده دعابات مختلفة تصور المزاج المصرى المعروف بالميل إلى الفكاهة والنادرة، وربما أراد بشكواه فى مدائحه من فقره وبؤسه إلى الدعابة، ويقول:
ولو أنّى وحدى لكنت مريدا
…
فى رباط أو عابدا فى مغاره
وكأنه كان يشعر فى أعماقه بأنه خلق لا ليكون إنسانا يضطرب فى الحياة ومشاغلها اليومية ومكاسبها الضرورية له ولأسرته، وإنما ليكون عابدا ناسكا فى رباط صوفى أو فى كهف يخلو فيه للنسك والعبادة. ويبدو أنه مدّ إحدى رحلاته إلى الاسكندرية وتعرف على أبى الحسن الشاذلى صاحب الطريقة الشاذلية المشهورة، وانتظم فى سلك مريديه وطريقته الصوفية، حتى إذا خلفه أبو العباس المرسى على الطريقة ظل يلزمه، حتى عدّ ثانى اثنين من تلاميذه هو وابن عطاء الله السكندرى، وفى ديوانه قصيدة دالية يمدحه بها، ويعزيه فى شيخه أبى الحسن حين توفى سنة 656 ويشيد به إشادة رائعة إذ كان من سلالة الحسن بن على بن أبى طالب، يقول:
اسلك طريق محمدىّ شريعة
…
وحقيقة ومحمّدىّ المحتد
إن الإمام الشاذلىّ طريقه
…
فى الفضل واضحة لعين المهتدى
قطب الزمان وغوثه وإمامه
…
عين الوجود لسان سرّ الموجد
فهو قطب الزمان وإمامه، وعين الوجود إذ كان يؤمن المتصوفة بأن القبس الإلهى المبثوث فى الأنبياء نقل إليهم وإلى أئمتهم، ويقول إنه من أهل الشريعة المحمدية والحقيقة الصوفية ويشير إلى أنه سليل الرسول صلى الله عليه وسلم فهو محمدى نسبا وحقيقة صوفية وشريعة إسلامية.
ويبدو أن البوصيرى منذ صلته بالطريقة الشاذلية لم يتجه بأشعاره نحو المحبة الإلهية على نحو ما اتجه ابن الفارض، بل اتجه إلى المديح النبوى، وبلغ فيه ذروة لم يبلغها أحد قبله ولا فى زمنه، فقد نظم فيه ديوانا رائعا. وكان الصليبيون، شاهت وجوههم، يكتبون رسائل ضد الدين الحنيف وصاحبه، فرد عليهم طويلا فى مديحه النبوى، وأفرد للرد عليهم وعلى اليهود قصيدة طويلة فى نجو مائتين وسبعين بيتا، داحضا افتراءاتهم على الرسول الكريم ناقضا ما ادعاه النصارى من ألوهية المسيح وصلبه وما جاء فى التوراة المحرّفة من ارتكاب الأنبياء للمعاصى، وسمى قصيدته «المخرج والمردود على النصارى واليهود» ويتحدث فى حماسة فياضة عن صفات الرسول وسيرته ومعجزاته الباهرة وانتصاراته الساحقة على أعدائه وأعداء الله. ويكثر من المديح النبوى ومن التنويه بالخلفاء الراشدين وبالصحابة وآل البيت مصورا فى الرسول أزلية النور المحمدى المعنوى لبّ الوجود وروحه، وكأن للرسول وجودين هذا الوجود المعنوى الذى يستمد منه الكون وجوده والذى تعاقب فى الأنبياء منذ آدم، ووجود ثان حسى مادى هو وجوده حين ولد ثم بعث بشيرا ونذيرا، وبذلك اتحد المعنى والصورة أو قل الحقيقة المحمدية الأزلية وصورة الإنسان، على نحو ما نقرأ فى قوله:
محمد حجّة الله التى ظهرت
…
بسنّة مالها فى الخلق تحويل
من كمّل الله معناه وصورته
…
فلم يفته على الحالين تكميل
من آدم ولحين الوضع جوهره ال
…
مكنون فى أنفس الأصداف محمول
فللنبوّة إتمام ومبتدأ
…
به وللفخر تعجيل وتأجيل
ودائما يعصف الحنين بقلبه إلى زيارة مكة والمدينة عصف الوجد الملتاع، ودائما يردد معجزات
الرسول وجهاده فى غزواته، ودائما يكرر حقيقته الأزلية، حتى لكأنه مبدأ الوجود ومبدأ النبيين وأيضا خاتمهم، يقول:
كان سرّا فى ضمير الغيب من
…
قبل أن يخلق كون أو يكونا
تشرق الأكوان من أنواره
…
كلما أودعها الله جبينا
ختم الله النبيين به
…
قبل أن يجبل من آدم طينا
فهو فى آبائهم خير أب
…
وهو فى أبنائهم خير البنينا
فهو السر الأول فى الكون أو هو العلة الأولى، خلق قبل الكون وخلق قبل أن يجبل أو يخلق آدم، وكل نور فى الكون مستمد منه، وهو مبدأ الأنبياء ومنتهاهم، وهو أبوهم المعنوى الأزلى، فيه تبدأ الحياة وإليه تنتهى. ويكثر البوصيرى فى مدائحه النبوية من الضراعة للرسول أن يقبل توبته وأن يكون شافعه يوم القيامة حتى ينال رضوان ربه وغفرانه.
ويشتهر البوصيرى بمدحته النبوية المسماة بالهمزية وقد سماها «أم القرى فى مدح خير الورى» وهى فى نحو أربعمائة وخمسين بيتا وعنى كثيرون بشرحها، وهو فيها يجمل سيرة الرسول حتى يوقد حمية الشباب المحاربين للصليبيين، ويفتتحها بفكرة الحقيقة المحمدية وأن الرسول سر الوجود ونوره الذى يفيض على الكون وعلى الأنبياء من قديم، يقول:
كيف ترقى رقيّك الأنبياء
…
يا سماء ما طاولتها سماء
إنما مثّلوا صفاتك للنّا
…
س كما مثّل النجوم الماء
أنت مصباح كلّ فضل فما تص
…
در إلا عن ضوئك الأضواء
فالرسول لا تبلغ منزلته ودرجته الرفيعة منزلة أى نبى أو رسول، إنه فى أعلى علّيين، وكل رسول إنما مثّل جانبا من صفاته الربانية، كما تمثّل النجوم المترائية على صفحة الماء النجوم على صفحة السماء. وإن كل ضوء ونور فى الكون ليستمد من مصباحه، فهو منبع كل نور ومصدره. ويتحدث عن مولده وما اقترن به من دلائل النبوة، ويفيض فى الحديث عن سيرته حتى مبعثه، ويعدد بعض معجزاته الباهرة وفى مقدمتها الإسراء، ويصور جهاده الباسل فى نشر دينه، ويرد على النصارى واليهود افتراءاتهم على الدين الحنيف، ويعرض بعض معتقداتهم الفاسدة، ويلم بعداء اليهود للإسلام وحربهم لرسوله. ويصور حجّته إلى مكة وأداء المسلمين
لمناسك الحج. وينوه بمواقف كبار الصحابة وبالصحابة جميعا وبأستاذيه الشاذلى وخليفته أبى العباس المرسى، ويتضرع فى أثناء ذلك للرسول أن يكون شفيعا له عند ربه فى محو ذنوبه.
وأروع من هذه المدحة النبوية مدحته الميمية المسماة بالبردة وقد عارضها كثيرون ويقال إنه كان قد أصابه فالج، فنظم هذه القصيدة وأتخذها شفيعا لدى الله كى يعافيه، وظل يكرر إنشادها ويبكى ويدعو ويتوسل، ونام فرأى النبى صلى الله عليه وسلم يمسح على وجهه بيده المباركة ويلقى عليه بردة، وانتبه فوجد نفسه معافى، وشاعت القصة وسميت القصيدة البردة. وهو يفتتحها متغزلا بحجازية من ذى سلم أشعلت الحب فى قلبه، وهو إنما يتخذها رمزا لوجده الملتاع بحب الرسول عليه السلام، ويلم بأصل من أصول الطريقة الشاذلية. وهو كبح جماح النفس وردها عن شهواتها.
ويتحدث عن فضائل الرسول مبتدئا بفضيلة الزهد وكيف أنه لولاه لم تخرج الدنيا من العدم ويسترسل فى تصوير الحقيقة المحمدية الأزلية قائلا:
فاق النبيين فى خلق وفى خلق
…
ولم يدانوه فى علم ولا كرم
وكلّهم من رسول الله ملتمس
…
غرفا من البحر أورشفا من الدّيم
فإنه شمس فضل هم كواكبها
…
يظهرن أنوارها للناس فى الظّلم
فهو يفوق الأنبياء صورة وخلقا وعلما وكرما وكلهم يلتمس من علمه وحكمته ويستمد من نوره، فنوره يتجلىّ فى الأنبياء جميعا ومهما تعددوا فى الأزمنة فإنهم شخصية واحدة وحقيقة واحدة هى الحقيقة المحمدية. ويفيض البوصيرى فى بيان معجزات الرسول، وخاصة القرآن معجزته الكبرى كما يفيض فى بيان جهاد الرسول وصحابته لأعداء الرسول ودينه الحنيف حتى استسلموا صاغرين. ويضرع للرسول أن يكون شفيعا له عند ربه كما يضرع لله أن يلطف به فى دنياه وآخرته. ولا تزال هذه القصيدة وأختها الهمزية تنشد إلى اليوم فى حفلات الموالد وحلقات الذكر الصوفى وله بجانبهما فى المدائح النبوية أناشيد أخرى رائعة.
محمد بن أبى الحسن (1) البكرى الصّدّيقى
من سلالة أبى بكر الصديق بمصر، ولد بها سنة 930 وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وأقبل على حفظ المتون والتلقى على شيوخ عصره يأخذ ما عندهم، وكان أستاذه الأول أباه، وجلس مكانه فى الجامع الأزهر للتدريس بعد وفاته وعمره لا يتجاوز إحدى وعشرين سنة، وكان يدرس لطلابه فقه الشافعى، وله شرح على متن أبى شجاع. وكان آية فى العلم والزهد واشتهر بتعمقه فى العلوم الشرعية واللغوية والصوفية، وورث عن أبيه مشيخة السادة البكرية وله يناجى ربه:
ربّ إنى عبد ذليل ضعيف
…
فلحالى باللطف منك تدارك
كلّ قطر أصابنى منك بحر
…
كيف والحال فىّ تجرى بحارك
كلّ جزء منى لسّرك دار
…
عمّر الله يا حبيبى ديارك
من رآنى رآك من غير شكّ
…
أىّ شكّ وقد جعلت مزارك
وتمثل فى الأبيات مثولا بينا فكرة الاتحاد بالذات الربانية المعروفة عند المتصوفة وما يتبعها من فكرة الفناء، فناء الإنسان عن صفاته البشرية، وهى فكرة رأيناها واضحة عند ابن الفارض:
وله قصائد كثيرة يصف فيها حبه ومواجده الروحية من مثل قوله:
حبيبك دان رقيب قريب
…
فماذا البكاء وماذا النّحيب
نعم هو دان ولكنّنى
…
بعيد فقيد طريد غريب
بكائى علىّ لأنى بليت
…
بداء الصّدود وعزّ الطبيب
وعلى هذا النحو دائما هو واله ملتاع يبغى الوصال، ومحبوبه قريب منه، بعيد لأنه لا ينيله أمنيته من الوصول وهو لذلك دائم القلق، ويئن والمحبوب منصرف عنه معرض. وهو يهتف
(1) انظر فى محمد بن أبى الحسن ريحانة الألبا للخفاجى 2/ 220 وأكمل الترجمة بعد ترجمته لابنه أبى المواهب ص 223 وراجع شذرات الذهب 8/ 431 والنور السافر للعيدروس (طبع بغداد) ص 414 وكتاب بيت الصديق للسيد محمد توفيق البكرى وما ذكره من مراجع.