الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ب) العثمانيون
(1)
مكث السلطان سليم فى مصر بعد فتحه لها نحو ثمانية أشهر، ذاق فيها المصريون ألوانا كثيرة من الظلم والمحن ومصادرة الأموال وأيضا مصادرة العلماء ورجال المهن والفنون والصناعات ونقلهم فى السفن إلى القسطنطينية، وقد نقل كثير من التحف والآثار الرائعة من المساجد ومن قصور المماليك حتى الرخام كانوا ينزعونه. وكأنما وضع سليم خطة أن يحرم مصر من كل ما كان بها من تراث فنى غير ما حمله من كتب لا تزال تزخر بها مكتبات القسطنطينية إلى اليوم. وهكذا جرّدت مصر من علمائها وفنّانيها وتراثها الفكرى والفنى، وعاشت حقبا سوداء امتدت إلى نحو مائتين وتسعين عاما، وحتى الخلافة الإسلامية التى كانت تتيح لها زعامة أو شيئا من الزعامة فى العالم الإسلامى سلبها منها سليم، إذ دفع المتوكل على الله آخر خلفاء بنى العباس فى مصر إلى أن يتنازل له عن الخلافة، ويقال إنه تقلدها فى مصر، ويقال بل بعد ذهابه معه إلى القسطنطينية.
وجعل سليم على مصر نائبا له أو واليا، كان يلقب بالباشا، ويتخذ القلعة مقرّا له طوال حكم العثمانيين لمصر، ولم ينفرد بالحكم، فقد أشرك معه سليم-وظل ذلك ساريا بعده-قادة الجند العثمانيين الذين تركهم بعده فى مصر، وأيضا أشرك معه حكام مديريات القطر أو أقاليمه، وقد اختارهم سليم جميعا من المماليك، وكأنه رأى أن يشركهم فى الحكم، للإشراف على شئون الأقاليم. ولم يلبث أن توفى سليم، وخلفه أخوه سليمان سنة 926 وفى أيامه استقر نظام حكم العثمانيين السياسى لمصر بحيث كان بها وال له الإشراف العام على شئونها المختلفة، ومعه ديوانان:
ديوان كبير مؤلف من السردار ورئيس الفرق العسكرية والدفتردار (مدير الخزانة) والروزنامجى (حافظ السجلات) وأمير الحج وقاضى القضاة أو رئيسهم ونقيب الأشراف ورؤساء المذاهب الأربعة وبعض رؤساء المماليك أو كبيرهم. وبجانب هذا الديوان ديوان صغير كان يتألف من الكتخدا (نائب الوالى) والدفتردار والروزنامجى ومندوب عن كل فرقة من الفرق العسكرية.
(1) انظر فى العثمانيين آخرة المماليك لابن زنبل وبدائع الزهور لابن إياس وأخبار الأول فيمن تصرف فى مصر من الدول للإسحاقى وتاريخ الجبرتى والبلاد العربية والدولة العثمانية لساطع الحصرى والحملة الفرنسية وظهور محمد على لمحمد فؤاد شكرى والجزء الأول من تاريخ الحركة القومية فى مصر وظهور محمد على لعبد الرحمن الرافعى ومقدمة تاريخ العرب الحديث لعبد الكريم غرابية والخطط التوفيقية لعلى مبارك (طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب) 1/ 146 وما بعدها وتاريخ الشعوب الإسلامية لبروكلمان ص 448.
وكان الديوان الصغير ينعقد كل يوم ويبلغ قراراته إلى الوالى، وبالمثل كانت قرارات الديوان الكبير تبلّغ إلى الوالى ويعمل على تنفيذها جميعا.
وظل المماليك-منذ سليم-يمثلون فى البلاد سلطة ثالثة بجانب سلطتى الجند والوالى، إذ جعلوا حكاما للأقاليم، وكان كل منهم يسمى سنجقا: اسما تركيا، كان فى الأصل يعنى البيرق، إذ كان السنجق عادة يتسلم بيرقا فسمّى باسمه وسميت مديريته باسم السنجقية، وأعطوا أيضا لقب بك، فكان هناك الوالى الباشا والسناجقة المماليك البكوات، وكانوا يشرفون على مديرياتهم من الناحيتين الإدارية والمالية، وكان لهم نواب يسمون الكشّاف جمع كاشف. وكان يتبع الكشاف الملتزمون وهم من التزموا بدفع ضرائب معينة عن قرية أو قرى، وكانت للملتزمين سلطة واسعة على الفلاحين فهم يعتصرونهم اعتصارا دون شفقة أو رحمة، والفلاحون يتصبّبون عرقا لكى ينعم الملتزم والكاشف والسنجق، وما يزالون يثقلون عليهم بالضرائب والإتاوات ويرهقونهم من أمرهم عسرا، حتى أصبحوا يعانون ما لا يطاق من البؤس والفاقة. وبذلك كسدت الزراعة، كما كسدت التجارة منذ استولى العثمانيون على مصر وكشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح وتحولت تجارة أوربا والهند إليه. وزاد الأمور سوءا أن العثمانيين اتبعوا سياسة مستمرة أن لا يظل الوالى فى مصر إلا مدة قليلة قد تكون عاما وقد تكون أقل من عام، فلم يشعر الولاة بشئ من الاستقرار، وكأنهم كانوا يجيئون ليدخروا لأنفسهم شيئا من مال، وكانوا يذهبون دون أن يفكروا فى أى إصلاح، ويكفى أن نعرف أنه حكم مصر حتى مجئ نابليون مائة وخمسون واليا عثمانيا.
وكانت الدولة العثمانية قد أخذت تضعف منذ القرن الثانى عشر الهجرى أو السابع عشر الميلادى ضعفا شديدا فأخذ سلطان السناجق المماليك يقوى، وخاصة أنه كانت بيدهم أزمّة الشئون الإدارية والمالية فى البلاد، وأيضا فإن العثمانيين كانوا يتخذون منهم فى القاهرة زعيما لهم يسمونه شيخ البلد، فأخذت مشيخته أو سلطته تقوى، حتى غدا مناظرا أو مماثلا للوالى العثمانى.
وبلغ من سلطان شيخ البلد ومماليكه أن كانوا أحيانا يعزلون الولاة، وربما جاءهم وال لا يرضونه، فكانوا يمتنعون عن تهنئته، ولا يحضرون قراءة المرسوم بتوليته، حينذ لا يجد بدّا من حمل حقائبه والعودة إلى القسطنطينية فكان طبيعيّا أن يفكر بعض شيوخ البلد من زعماء المماليك فى الاستقلال بمصر، وتولى على بك الكبير مشيخة البلد، وصمم على الاستقلال، ولم يلبث أن خلع الوالى التركى سنة 1183 هـ/1769 م وأعلن استقلال مصر عن الدولة العثمانية وضرب السكة
باسمه، وفتحت جيوشه معظم جزيرة العرب ونادى به شريف مكة: سلطان مصر وخاقان البحرين. وأرسل قائدا من قواده وهو محمد بك أبو الذهب لفتح سوريا، وفتحت له دمشق وغيرها من مدن الشام أبوابها. غير أن الباب العالى العثمانى لم يلبث أن استغواه بما وعده به من الولاية على مصر فانقلب على سلطانه على بك الكبير، ونشبت بينهما الحرب وسقط فى ميدانها على بك سنة 1187 هـ/1773 م. وبذلك أضاع محمد بك أبو الذهب على مصر فرصة ذهبية: أن يردّ لها استقلالها وحريتها، وظل شيخا للبلد، يولّى عليها من العثمانيين من يختاره إلى أن توفى بعد سنتين فى عام 1189 هـ. وخلفه على مشيخة البلد إبراهيم بك ومراد بك شريكين فيها، وخرجت المشيخة من أيديهما فترة إلى إسماعيل بك، وتوفى فعادت إليهما ولإبراهيم الرياسة، وأصبح شيخا للبلد إلى أن جاءت الحملة الفرنسية سنة 1213 هـ/1798 م. وتنزل الحملة مصر وتظل تجاهدها جهادا عنيفا مريرا ثلاث سنوات، ولم ينفع نابليون قائدها ما أنشأه من مجالس شورى ألفها من بعض شيوخ الأزهر ومن كبار التجار والأعيان، وجعل لها النظر فى الضرائب وشئون الحكم.
لم يغرّ هذا الخداع المصريين فقد عرفوا أنها مجالس صورية لتنفيذ مطامعه الاستعمارية، ومازالوا يقاومون الحملة مقاومة باسلة، حتى اضطروها إلى مبارحة البلاد سريعا.
وأولى أن تدرس هذه الحملة وآثارها بمصر مع عصرها الحديث، إذ أذكت فى المصريين الشعور القومى. فلما خرجت إلى البحر المتوسط وما وراءه وعاد المصريون إلى الحكم العثمانى رأوا أن من واجبهم التخلص من نيره الظالم البغيض وأن يختاروا حاكمهم واختاروا محمد على سنة 1219 هـ/1805 م وبدءوا بقوة نهضتهم الحديثة.