الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والجناس واضح بين عقاب بضم العين وعقاب بكسرها، وقد استمر فى تشبيهات وتصويرات بديعة، وقال نقاده: إن قوله: «كان الهلال لها قلامة» أخذه من قول ابن المعتز فى الهلال:
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا
…
مثل القلامة قد قدّت من الظّفر
غير أن القاضى أضاف إلى القلامة إضافة بديعة بذكره الأنملة إذا خضبها الأصيل. ولعل فى ذلك ما يشير إلى قدرته على مراعاة النظير فى صياغاته، وذلك كثير فى كتاباته على نحو ما نرى الآن حين ذكر القلامة ذكر معها الأنملة والخضاب. ومن أروع رسائله رسالته، التى كتب بها إلى الخليفة الناصر يبشره فيها بانتصار صلاح الدين على حملة الصليب فى حطّين وفتحه العظيم لبيت المقدس.
وللقاضى الفاضل كثير من الرسائل الشخصية، وسنقف عندها قليلا فى غير هذا الموضع، ومرّ بنا أن مخطوطة فصوص الفصول المحفوظة بدار الكتب المصرية تجمل مراسلات كثيرة بينه وبين ابن سناء الملك، وكان يتخذه ابنا روحيّا له وذكرنا فى غير هذا الموضع أن بها ملاحظات ومراجعات نقدية كثيرة.
محيى الدين (2) بن عبد الظاهر
هو عبد الله بن عبد الظاهر المصرى من بيت علم وفقه وأدب، ولد سنة 620 وبدأ بحفظ القرآن الكريم مثل لداته ثم اختلف إلى حلقات الفقهاء والمحدثين وأصحاب التاريخ والسير، وأحس بميل شديد إلى الأدب وجرى على لسانه الشعر، وأنس فى نفسه قدرة أدبية، فالتحق بالدواوين لعهد الأيوبيين، ولم يلبث أن أظله عهد المماليك ونرى نجمه يتألق فى عهد الظاهر
(1) عقاب بضم العين طائر جارح وبكسرها جمع عقبة وهى المرقى الصعب فى الجبال.
(2)
انظر فى
محيى الدين بن عبد الظاهر
وترجمته ورسائله فوات الوفيات 1/ 451 وتاريخ ابن كثير 13/ 334 وشذرات الذهب 5/ 421 والنجوم الزاهرة 8/ 38 وحسن المحاضرة اللسيوطى 1/ 470 و 2/ 366 ونهاية الأرب: الجزء الثامن فى مواضع مختلفة وصبح الأعشى (انظر الفهرس وخاصة 1/ 156 و 1/ 176 و 7/ 356، 366، 8/ 300، 10/ 117، 163، 166 و 14/ 139 وراجع كتابه تشريف الأيام والعصور فى سيرة الملك المنصور قلاوون (نشر وزارة الثقافة).
بيبرس، إذ يصبح رئيسا لكتاب الدّست، ثم رئيسا لديوان الإنشاء، وتظل له هذه الوظيفة فى عهد السلطان قلاوون وابنه الأشرف خليل حتى يلبى نداء ربه سنة 692. وعنه كانت تصدر العهود والسجلات والتقاليد والمنشورات والتوقيعات نحو أربعين عاما، مما جعله يضع مصطلحات ديوان الإنشاء لزمنه وبقية زمن المماليك، وكان ابنه فتح الدين على غراره مهارة بيانية، ورقى إلى وظيفة كاتب السر لعهد قلاوون وابنه الأشرف خليل. وهى أكبر وظيفة فى الدولة حينئذ، وسبق أباه إلى رضوان ربه بعام فحزن عليه حزنا شديدا.
وقد أشاد بمحيى الدين وبلاغته معاصروه إشادات رائعة، من ذلك قول النويرى فى نهاية الارب:«كان محيى الدين أجلّ كتاب العصر، وفضلاء المصر، وأكابر أعيان الدّول، والذى افتخر بوجوده أبناء عصره على الأول، له من النظم الفائق ما راق صناعة وحسنا، ومن النثر الرائق مافاق بلاغة ومعنى، فقصائده مدونة مشهورة، ورسائله بأيدى الفضلاء ودفاترهم مسطورة، وكلامه كاد يكون لأهل هذه الصناعة وعليهم حجة، وطريقه فى البلاغة أسهل طريق وفى الفصاحة أوضح محجّة» ويقول ابن شاكر فى كتابه الفوات عنه: «الكاتب الناظم الناثر شيخ أهل الترسل ومن سلك الطريقة الفاضلية فى إنشائه» . وجمع بعض رسائل القاضى الفاضل فى كتاب سماه: «الدر النظيم من ترسل عبد الرحيم» .
وكان يستخدم فى كتاباته السجع، وكثيرا ما يطيل السجعة الثانية ليضمّنها ما يريد من المحسنات البديعية، وفى مقدمتها التصاوير والجناس والطباق، وكذلك ما يريد من الاقتباسات القرآنية ومن حلّ بعض الأشعار ونثرها، مع حسن الألفاظ وعذوبة الكلم. وكان يرافق الظاهر بيبرس وقلاوون والأشرف خليل فى غزواتهم، ويرسل بوصفها لملك اليمن وغيره من أصحاب السلطان وللوزراء فى مصر. ومن رسائله المهمة رسالته إلى الوزير بهاء الدين بن حنا، يصف له حروب بيبرس مع التتار وبنى سلجوق واقتلاعه مدينة قيسارية من أيديهما مع ما أخذ فى طريقة إليها من الحصون والبلاد، مصورا مسيرة الجيش المصرى فى جبال شامخة مذلّلا فيها طريقه لا يعوقه عن مقصده عائق.
والرسالة طويلة فى نحو خمس عشرة صحيفة مدّونة فى الجزء الرابع عشر من صبح الأعشى، وهى وثيقة تاريخية بحروب بيبرس للتتار والسلجوقيين فى ذى القعدة من سنة 672 وفيها يقول:
«سرنا لا يستقر بنا فى شئ من المهالك قرار، ولا يقتدح من غير سنابك الخيل نار، ولا نمرّ
على مدينة إلا مرور الرياح على الخمائل فى الأصائل والأبكار، ولا نقيم إلا بمقدار ما يتزيّد الزائرين من الأهبة، أو يتزوّد الطائر من النّغبة (1)، نسبق وفد الرّيح من حيث ننتحى، وتكاد مواطئ خيلنا بما تسحبه أذيال الصوافن (2) تمّحى، تحمل همّنا الخيل العتاق، ويكبو البرق خلفنا إذا حاول بنا اللحاق، وكلّ يقول لسلطاننا نصره الله:
أين أزمعت أيّهذا الهمام
…
نحن نبت الرّبى وأنت الغمام
وبتنا هنالك ليلة نستحقر بالنسبة إلى شدّتها ليلة الملسوع، وتتمنّى العين بها هجمة هجوع، وأخذنا فى اختراق غابات أشجار تخفى الرفيق عن رفيقه، وتشغله عن اقتفاء طريقه، ينبرى منها كل غصن يرسله المتقدم إلى وجه رفيقه، كما يخرج السهم بقوة من منجنيقه، حولها مغائر أحجار كأنها قبور بعثرت، أو جبال تفطّرت (3)، بينها مخائض لا بل مغائض ماخر جنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول وتعممت بالثلوج، وعمّيت مسالكها فلا أحد إلا هو قائل: فهل إلى خروج من سبيل أو إلى سبيل من خروج، تضيق مناهجها بمشى الواحد، وتلتفّ شجراتها التفاف الأكمام على السواعد».
وعلى هذه الشاكلة يتدفق ابن عبد الظاهر فى الرسالة دون أى عائق من لفظ غريب أو أسلوب ملتو، بل سيولة وعذوبة مع السجع الرشيق ومع ما يشاء من الجناسات والاستعارات دون أن نشعر بالكلفة أو بشئ منها، وفى صبح الأعشى رسائل وعهود له بديعة، منها عهد الظاهر بيبرس لابنه الملك السعيد وعهد قلاوون لابنه الملك الأشرف خليل، وفيه ينوه ابن عبد الظاهر بالأشرف على لسان أبيه قلاوون قائلا:
هو الذى بقواعد السلطنة أدرى وبقوانينها الأعرف، وعلى الرعايا الأعطف، وبالرعايا الأرأف، وهو الذى ما قيل لبناء ملك هذا عليّه قد وهى إلا وقيل هذا خير منه ومن أعلى بناء سعد أشرف، والذى ما برح النصر يتنسّم من مهابّ تأميله الفلاح، ويتبسّم ثغره فتتوسم الثغور من مبسمه النجاح، ويقسم نوره على البسيطة فلا مصر من الأمصار إلا وهو يشرئب إلى ملاحظة جبين عهده الوضاح. . والذى كم جلا ببهىّ جبينه من بهيم، وكم غدا الملك بحسن روائه ويمن
(1) النغبة: الجرعة.
(2)
الصوافن: جمع الصافن وهو الفرس
(3)
تفطرت: تشققت.
آرائه يهيم، وكم أبرأ مورده العذب هيم (1)، ولا ينكر الخليل إذا قيل عنه أبراهيم».
والسجعات فى هذا العهد تتوالى فى مجاميع على حرف واحد أو روىّ واحد، قد يكون الفاء أو الحاء أو الميم كما فى هذه القطعة، وقد يكون حرفا آخر كالدال أو التاء أو النون إلى غير ذلك من حروف تتعاقب فيها السجعات فى خفة. وقد ورّى فى السجعات الفائية حين ذكر فيها لفظ «أشرف» موريا به عن الأشرف خليل، ولم يكتف بهذه التورية فى اسمه فقد أضاف إليها تورية أخرى فى لفظ أبراهيم بآخر القطعة، وقدم لذلك بذكر الخليل كأنه يريد إبراهيم عليه السلام، وهو لا يريده إنما يريد بالكلمة أنه أبرأهيما أى عطاشا أشد العطش. ومن ذلك قوله فى رسالة إلى صاحب اليمن مبشرا بفتوح قلاوون لبعض حصون الصليبيين بالشام.
وواضح فى أول هذه القطعة اقتباس محيى الدين بن عبد الظاهر لآية سورة التوبة: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). ويكثر الاقتباس لآى الذكر الحكيم وألفاظه فى كتاباته كما يكثر حلّ الشعر والاستشهاد بنصوصه وأبياته. وقد ورّى فى القطعة بذكره لفظ معرة الثانية من العار مقدما لها بذكر حماة والمعرّة وهما من مدن الشام. وورّى أيضا فى قوله: «وناهيك بمدمع العاصى» وهو إنما يريد نهر حماة المعروف باسم العاصى. ودائما نحس عنده العذوبة والسلاسة وكأنه يستمد من نبع فياض لا يغيض أبدا، على نحو ما نرى فى قوله من رسالة يصف بها فتح قلاوون لطرابلس:
«صرف مولانا السلطان إلى طرابلس العنان، وسبق جيشه إليها كل خبر وليس الخبر كالعيان، وجاءها بنفسه النفيسة والسعادة قد حرسته عيونها والمخاوف كلها أمان. . وفى خدمته جنود لا تستبعد مفازة. وكم راحت وغدت وفى نفسها للأعداء حزازة، فامتطوا بخيولهم من جبال لبنان تيجانا لها صاغتها الثلوج، ومعارج لا مرافق بها غير الرّياح الهوج، وانحطت الجنود من تلك الجنادل انحطاط الأجادل (3)، واندفعوا فى تلك الأوعار اندفاع الأوعال (4)، ولم يحفل أحد
(1) هيم: جمع أهيم وهو العطشان عطشا شديدا.
(2)
الصياصى: الحصون.
(3)
الأجادل: الصقور.
(4)
الأوعال: جمع وعل وهو تيس الجبل
منهم بطريق لا صق، ولا جبل شاهق، فقال: هذا منخفض أوعال».
والكلمات والسجعات تنزلق عن اللسان فى خفة إذ كانت ملكته الأدبية خصبة، فهى ما تزال ترفده بما يريد من الألفاظ التى تروق فى السمع لا بسجعها فحسب، بل أيضا بجرسها وحسن انتخابه لها، وما يوفره لها من محاسن بديعة بقدر الحاجة دون تكثر يحيلها إلى تكلف شديد. وحقا كان يتصنع أحيانا لبعض مصطلحات النحو ولكنه لأياتى بها إلا فى الحين بعد الحين ما عدا رسالة اقترحت عليه أن تكون توقيعا لمدرس نحو استهلها بقوله مداعبا:«حرس الله نعمة مولاى، ولا زال كلم السعد من اسمه وفعله، وحرف قلمه يأتلف، ومنادى جوده لا يرخّم وأحمد عيشه لا ينصرف» ومضى فيها على هذه الشاكلة متصنعا لمصطلحات النحو، ولكن من الحق أنه أرادبها إلى الدعابة، وعلى نحو ما كان يبشر بالفتوح كان يبشر بوفاء النيل وله فى ذلك رسائل بارعة يقول فى إحداها:
والتورية واضحة فى كلمة سفح الثانية، إذ ليس معناها معنى سابقتها وهى سفح جبل المقطم إذ أراد الانصباب من قولهم سفح الماء إذا صبّه. واقتبس من القرآن الكريم قوله عز شأنه فى سورة الفتح (يعجب الزرّاع) واقتباسه من الذكر الحكيم كثير فى كتاباته كما أسلفنا. وتعليل ما يخالط النيل من الطمى بأنه نفس الحمرة التى تعرض للمسافر من طول سفره وتعرضه للشمس تعليل حسن يدل على عمق تخيله وطرافته. وتصويره لفيضان النيل وأنه سرعان ما يملأ مجرى النهر وتعلو أمواجه ويطفح عبابه ويتمادى طوفانه، فبينا يدخل سدّة باب إذا هو فى الطاق وأعلى الشرفات،
(1) يعل القطاع: يروى قطاع الأرض مرارا.
(2)
يغل الأقطاع: يجعل الضياع تعطى الغلّة والثمار
(3)
الاحتراق: قلة الماء.
(4)
السوارى: يريد الأعالى.
وبينما تكون مصر قبل فيضانه فى زمن الاحتراق والتعطش للماء إذا هو يخترق الآفاق فيها لإغراقها بمياهه العذبة، وبينا يكون فى أسافل الأرض ومجاريها إذا هو فى السوارى وأعلى الأعالى.
ولم يكن محيى الدين بن عبد الظاهر كاتبا ديوانيا فحسب، فله رسائل شخصية سنلمّ بإحداها، وأيضا كان مؤرخا، وعنه أخذ البرزالى وغيره من كبار المؤرخين لزمنه، واهتم فى التاريخ بكتابة السير، فكتب سيرة الظاهر بيبرس، وهى أحد مصادر المقريزى فى خططه، وكتب سيرة قلاوون بعنوان «تشريف الأيام والعصور فى سيرة الملك المنصور» ، وكتب أيضا سيرة الأشرف خليل بعنوان «الألطاف الخفية من السيرة الشريفة السلطانية الأشرفية» وله كتاب فى خطط القاهرة ينقل عنه كثيرا المقريزى وكذلك القلقشندى فى صبح الأعشى. ولعل فيما قدمنا من رسائله الديوانية ما يدل بوضوح على قدرته البيانية والبلاغية.
ابن (1) فضل الله العمرى
هو شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله العمرى، من سلالة أسرة مصرية تنتسب إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وليت أسرته ديوان الإنشاء بمصر ودمشق نحو قرن من الزمان هو القرن الثامن الهجرى، وقد ولد لأبيه كاتب السر بدمشق سنة 700 للهجرة وبها نشا، فحفظ القرآن الكريم، ثم أخذ يختلف إلى حلقات علمائها من أمثال ابن تيمية الفقيه الحنبلى المشهور وقاضى قضاة دمشق الشافعى شهاب الدين محمد بن المجد وشيخ الشافعية بدمشق برهان الدين بن الفركاح الفزارى وأخذ علم الأصول على الشيخ شمس الدين الأصفهانى نزيل دمشق منذ سنة 724 وبها ظل سبع سنوات وكان من أبرع علماء زمنه فى العقليات، وأذن لابن فضل الله فى الإفتاء على مذهب الشافعى. وأخذ شهاب الدين العربية عن كمال الدين بن قاضى شهبة وابن الزّملكانى، أما الأدب فأخذه عن أبيه ورفيقيه فى ديوان الإنشاء الشهاب محمود وعلاء الدين
(1) انظر فى ترجمة ابن فضل الله فوات الوفيات 1/ 12 والنجوم الزاهرة 10/ 334 والدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة لابن حجر 1/ 352 وصبح الأعشى وخاصة الجزء الحادى عشر والرابع عشر (انظر الفهرس) وخطط المقريزى 1/ 389 وحسن المحاضرة 1/ 371، 394، 2/ 234 والشذرات 6/ 160 والوافى 8/ 252 وتاريخ الأدب الجغرافى لكراتشكوفسكى 1/ 410. وطبع له الجزء الأول من موسوعته مسالك الأبصار وانظر فيها ما تقدم فى حديثنا عن النشاط الجغرافى بمصر وطبع له كتابه التعريف بالمصطلح الشريف.
الوداعى. ورحل إلى مصر فى أثناء الطلب، وأخذ العربية عن شيوخها وعلمائها مثل ابن الصائغ الحنفى ونزيلها أبى حيان الأندلسى. وسمع الحديث على علمائها كما سمعه على حفاظ الشام. ويبدو أنه نزع إلى العمل مع أبيه مبكرا فى ديوان الإنشاء بدمشق، وتخرج فيه كاتبا بارعا. وكان إلى ذلك لا يزال يأخذ عن العلماء فى زمنه بالشام ومصر، وكان أبوه يعمل أحيانا بالديوان فى دمشق وأحيانا يعطل، فكان إذا عمل لزمه، حتى إذا استدعى الناصر محمد بن قلاوون أباه لكتابة السر بالقاهرة سنة 729 تقلّد معه هذه الوظيفة فكان هو الذى يقرأ كتب البريد ورسائله على الناصر، ونقلهما إلى دمشق فى شعبان سنة 732 ثم أعادهما ثانية إلى القاهرة مسندا إليهما كتابة السر ورياسة ديوان الإنشاء سنة 733 ويبدو أنه كان حادّ الطبع، ولم يتحاش عن إظهار هذه الحدة فى مخاطبته للناصر، فتغّير عليه وصرفه، وولّى أخاه علاء الدين مكانه، وكانت منزلة أبيه عند الناصر قد عظمت، وطلب أن يرجع إلى دمشق فأجابه إلى طلبه، على أن تستمر له رياسة ديوان الإنشاء فى جميع ديار السلطنة وأن يكون جميع الموظفين فى تلك الدواوين نوابه، وسرعان مالبى نداء ربه.
وعاد الناصر فى سنة 740 فرضى عن شهاب الدين وولاه كتابة السر بدمشق، ودخلها فى المحرم سنة 741 وظل يلى وظيفته بها حتى طلب إلى القاهرة سنة 743 لكثرة الشكايات منه وشفع فيه أخوه علاء الدين، وقبلت شفاعته وعاد إلى دمشق، وبارحها فى سنة 749 لقضاء فريضة الحج، وتوفى بمكة ونقل تابوته إلى دمشق، ولم يكد يبلغ الخمسين من عمره.
وكان شاعرا كما كان كاتبا، نظم كثيرا من القصائد والأراجيز والمقطعات والدوبيت، غير أن شهرته الكتابية غطت على شهرته الشعرية، وقد أشاد بكتابته معاصروه من ذلك قول صلاح الدين الصفدى: «هو الإمام الفاضل البليغ المفوّه الحافظ حجة الكتّاب، إمام أهل الأدب، أحد رجالات الزمان كتابة وترسلا، وتوسلا إلى غايات المعانى وتوصلا، يتوقد ذكاء وفطنة ويتلهّب، وينحدر سيله مذاكرة وحفظا ويتصبّب، ويتدفق بحره بالجواهر كلاما، ويتألق إنشاؤه بالبوارق المستعرة نظاما، ويقطر كلامه فصاحة وبلاغة، وتندى عباراته انسجاما وصياغة، وينظر إلى غرر المعانى من ستر رقيق، ويغوص فى لجّة البيان فيظفر بكبار اللؤلؤ من البحر العميق، يكتب من رأس قلمه بديها، ما يعجز تروّى القاضى الفاضل أن يدانيه تشبيها. .
صرّف الزمان أمرا ونهيا، ودبّر المماليك تنفيذا ورأيا».
ولعل من الطريف ان ابن فضل الله جمع من كتاباته نماذج فى جميع صور المكاتبات الديوانية وضمنها كتابه النفيس: «التعريف بالمصطلح الشريف» وجعله فى سبعة أقسام أولها فى رتب
المكاتبات إلى الخليفة العباسى بالقاهرة وعنه مع رسوم الكتابة إلى أمراء البلدان وراء السلطنة المصرية من الهند إلى الأندلس، وأيضا إلى نواب السلطنة والحكم خارج مصر. والقسم الثانى فى العهود والتقاليد والتواقيع والمراسيم والمناشير والعهود إما من الخلفاء إلى السلاطين وإما من السلاطين إلى ولاة العهد. والتقاليد خاصة بكبار الموظفين والتواقيع لصغارهم والمراسيم لصغائر الأمور والشئون والمناشير خاصة بالأمراء والجند. والقسم الثالث خاص بنسخ الأيمان على العامة والولاة وكبار الموظفين وأهل الكتاب. والقسم الرابع فى الأمان والهدن مع الأعداء ونقض المعاهدات. والقسم الخامس فى حدود المدن والبلاد وهو جغرافى. والقسم السادس فى مراكز البريد ووسائله برا وبحرا. والقسم السابع فى الآلات وخاصة آلات الحرب من سيف وغير سيف وكذلك آلات السفر وآلات الصيد وآلات الطرب وأيضا الحيوان الأليف والوحشى والطير، ويتسع هذا القسم للحديث عن المدن والحصون وأنواعها والأزمنة وفصولها والأنواء. وواضح أن الأقسام الأربعة الأولى هى التى دفعته لإعطاء النماذج الكتابية المتصلة بموضوعاتها. أما الأقسام الثلاثة التالية فقد رأى معرفتها ضرورية لكتّاب الديوان لأنها تتصل بأعمالهما اتصالا قويا. واشتهر هذا الكتاب بعد ابن فضل الله واتخذه الكتّاب إماما لهم وجعلوه نصب أعينهم فى كتاباتهم الديوانية يحاكون نماذجه وأمثلته، واعتمد عليه القلقشندى فى بيان رسوم الكتابة الديوانية، وما يصورها من أمثلة بليغة محكمة، من ذلك قوله فى تقليد وزير ووصيته بما ينبغى عليه فى وزارته:
وواضح أن ابن فضل الله لا يتكلف فى كتابته، وكأنه-كما قال الصفدى-بحر يتدفق، وفى تضاعيف تدفقه ينثر جواهر المحسنات، وهى تواتيه طيعة، تارة يطابق وتارة يجانس فى يسر دون أن نحس عنده بتصنع أو ما يشبه التصنع. ومن طريف وصفه للسيف فى كتابه التعريف قوله:
وهى كلمات قصار ولكنها مليئة بالاستعارات والتشخيصات المتلاحقة، وفيها الجناس والطباق وكأنهما غير ملحوظين، لما تجريان فيه من سهولة اللفظ وعذوبته. وله فى وصف قدح أو كاس:
والقطعة مثل سابقتها زاخرة بالاستعارات والصور الطريفة. مع جناسات وطباقات بديعة ومع جمال الجرس والمهارة فى انتخاب اللفظ، وقد ختمها بكلمة قدح والتورية واضحة، فهو لا يريد ما يتبادر من أنه يريد القدح الذى يصفه، إنما يريد الفعل الماضى قدح أى قدح الشرر وأذكاه من قولهم قدح النار من الزند.
ولابن فضل الله العمرى بجانب رسائله الديوانية رسائل شخصية قليلة وذكر له مترجموه نحو عشرة كتب، منها التعريف بالمصطلح الشريف الذى وصفناه. ومنها فواصل السمر فى فضائل آل عمر، ومنها صبابة المشتاق فى مجلد فى مدح النبى صلى الله عليه وسلم. وأهم كتبه دون ريب كتابه «مسالك الأبصار» وقد نشر الجزء الأول منه وهو خاص بالديارات، وهو فى أكثر من عشرين مجلدا، وهو مقسوم إلى قسمين كبيرين: قسم للأرض وأقاليمها وبحارها وطرقها أو مسالكها، وقسم للممالك فى العالم الإسلامى وغيره وسكان المعمورة، وبه فصول طويلة عن الكتاب والشعراء فى العالم العربى بمختلف أقطاره، وعادة يضع مقدمة مسجوعة لكل كاتب وشاعر ثم يختار للكاتب نماذج من رسائله وللشاعر نماذج من شعره، وبه مقتبسات من كتب سقطت من يد الزمن، ومن خير ما احتفظ به تراجمه لشعراء صقلية، وكذلك معلوماته الجغرافية والتاريخية عنها. وبالكتاب مفاخرة طريفة بين المشرق والمغرب تمس حضارتيهما ومن كان بهما من أفذاذ العلماء والأدباء.
(1) إهابه: جلده.
(2)
غرار السيف: حده.
(3)
تناوب الأمر: قام به مرة بعد مرة.
(4)
الخدر: البيت. ابنة العنب: الخمر.