الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بى تتبيّن أحوال الألفاظ المركبة فى دلالتها على المقاصد، ويرتفع اللّبس عن سامعها فيرجع من فهمها بالصلة والعائد».
وهذه القطعة من مفاخرة علم النحو على علم الصرف فضلا عن تصويرها لبراعة القلقشندى البيانية ترينا جانبا من ثقافته بعلمى النحو والصرف، وكانا مندمجين بعضهما ببعض فى كتاب سيبويه، وظلا على ذلك بعده حتى أفرد أبو عثمان المازنى علم الصرف بالتأليف وتبعه فى ذلك ابن جنّى. ومضى المؤلفون فى العلمين تارة يجمعون بينهما، وتارة يفصلون، مما جعل القلقشندى يصور ذلك مرارا على لسان علم النحو قائلا إن علم الصرف باب من أبوابه ينقل عنه ويسند إليه وأنه مطوىّ فى كتبه متصل بنسبه لا حق بحسبه. واستخدم فى آخر ما اقتبسناه من تلك المفاخرة مصطلحى الصلة والعائد المعروفين فى النحو وهما صلة الموصول وما تحمل من الضمير العائد فى عبارتها على الموصول، معبرا بهما عن العطية وما يعود منها بالنفع. وللقلقشندى مفاخرة ثانية بين السيف والفلم، ومن قول القلم فيها مفاخرا للسيف:
«مهلا أيها المساجل، وعلى رسلك أيها المغالب والمناضل، لقد أسأت مقالا، ونمّقت محالا. . وإنى-وإن صغر جرمى-فإنى لكبير الفعال، وإن نحف بدنى فإنى لشديد البأس عند النزال. وإن عرى جسمى فكم كسوت عاريا، وإن جرى دمعى فكم أرويت ظاميا، وإن ضاق ذرعى فإنى بسعة المجال مشهور، وإن قصر باعى فكم أطلقت أسيرا وأنا فى سجن الدواة مأسور» . ويمضى القلقشندى بمثل هذه الصياغة الموشاة بالسجع ومحسنات البديع من تصوير وغير تصوير، ودائما نشعر عنده بالطلاقة والسلاسة ونصاعة الكلم.
السيوطى
(1)
هو جلال الدين عبد الرحمن بن الكمال أبى بكر بن محمد، من سلالة شيخ صوفى أسيوطى هو همام الدين السيوطى، وكان لأسرته وجاهة ورياسة فى أسيوط، منهم من ولى الحكم فيها،
(1) انظر فى السيوطى وترجمته حسن المحاضرة 1/ 335 والضوء اللامع للسخاوى ج 4 رقم 203 والكواكب السائرة للغزى (نشر الجامعة الأمريكية ببيروت) 1/ 226 وتاريخ ابن إياس فى مواضع متفرقة وذيل الطبقات الكبرى للشعرانى ص 4 والبدر الطالع للشوكانى 1/ 328 والنور السافر للعيدروسى ص 54 ودائرة المعارف الإسلامية وبروكلمان (الطبعة الألمانية 2/ 143). وانظر فى مقاماته مجموعة خطبة بعنوان مقامات السيوطى بدار الكتب المصرية رقم 32 مجاميع وطبعت من مقاماته مجموعة بالآستانة. وانظر فى نشاط السيوطى النحوى تأليفا وآراء كتابنا المدارس النحوية ص 362.
ومنهم من ولى الحسبة، ومنهم من كان تاجرا ثريا، وأول من خدم العلم من أسرته أبوه، وقد هاجر من بلدته إلى القاهرة ونبه شأنه بين فقهاء الشافعية وأفتى ودرّس وناب فى الحكم بالقاهرة، وفى سنة 849 ولد له عبد الرحمن ولم يكد يبلغ السادسة من عمره حتى توفى الأب، ويبدو أنه ترك له ثروة أعانته على نشأة علمية طيبة، وقد ترجم لنفسه فى كتابه:«حسن المحاضرة» ترجمة ضافية، ذكر فيها طائفة من شيوخه فى مقدمتهم الشيخان: البلقينى والمناوى فى الفقه الشافعى وتقى الدين الشّبلى فى الحديث والكافيجىّ فى التفسير والأصول والعربية وعلم المعانى وسيف الدين الحنفى فى الكشاف للزمخشرى وفى بعض المصنفات البلاغية للسكاكى والقزوينى. ويقول إنه شرع فى التصنيف سنة 866 ولما يتجاوز السابعة عشرة من عمره، كما يقول إنه أفتى فى سنة 871 وعقد له مجلس لإملاء الحديث سنة 872. ويذكر أن زار بلادا كثيرة: الشام والحجاز واليمن والهند والمغرب والتكرور، كما يذكر أنه تبحّر فى سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعانى والبيان والبديع، ويقول إنه يستثنى الفقه فأستاذه كان أعلم به منه. أما العلوم الستة الباقية فلم يكن أحد يجاريه فيها، ودونها فى التعمق العلمى أصول الفقه والجدل والصرف، ودونها هى الأخرى الإنشاء والترسل وعلم الميراث والقراءات ثم الطب. ويذكر أن مشايخه فى الرواية سماعا وإجازة كثيرون إذ تبلغ عدّتهم نحو مائة وخمسين.
ويمضى السيوطى فى ترجمته لنفسه، فيذكر مؤلفاته فى العلوم والفنون المختلفة، وقد بلغت أكثر من ثلاثمائة كتاب ورسالة، منها فى الحديث النبوى نحو تسعين مصنفا وفى التفسير ومتعلقاته نحو عشرين وفى اللغة وعلوم العربية نحو خمسين وفى الأصول والبلاغة والتصوف نحو عشرين وفى الفقه نحو عشرين أيضا وفى التاريخ والأدب نحو خمسين. وعلى هذا النحو تلقانا لا مؤلفات بل سيول من المؤلفات فى كل علم وفن. وبحق يعدّ السيوطى أكثر علماء هذا العصر تأليفا وإحاطة بالعلوم العربية والشرعية الدينية. وله أكثر من كتاب طبع فى العصر الحديث وطارت شهرته، من ذلك فى الحديث النبوى كتابه «جمع الجوامع» وهو معجم واف للأحاديث النبوية، ومن ذلك فى التفسير تفسير الجلالين، ومرّ حديث عنه فى الفصل الثانى، وله لباب العقول فى أسباب النزول، وأيضا الدر المنثور فى التفسير بالمأثور، وهو مطبوع فى ستة مجلدات. وكتابه «الإتقان فى علوم القرآن» كتاب رائع. ومن مصنفاته فى التاريخ والتراجم تاريخ الخلفاء وهو مطبوع مرارا فى الغرب والشرق. وقد عرضنا لنشاطه فى هذا الجانب فى حديثنا بالفصل الثانى عن التاريخ والمؤرخين. وكان نشاطه اللغوى والنحوى خصبا إلى أبعد غاية، وصورنا ذلك من بعض الوجوه
فى حديثنا عن اللغة واللغويين والنحاة والنحويين فى الفصل الثالث.
وهذا النشاط العلمى الواسع اقترن به نشاط أدبى، فقد كان السيوطى شاعرا، كما كان كاتبا ناثرا، وعنى عناية واسعة بفن المقامة على الطريقة المصرية التى وصفناها، فالمقامة لا تدور على الصعلكة كما كانت عند الهمذانى والحريرى، وإنما تدور على المنافرة والمفاخرة، وأكثر من ذلك حتى لتبلغ مقاماته نحو الأربعين، وربما كان أطرفها ما أداره منها حول مفاخرات الأزهار والفواكه والبقول والنقل والعطور، وقد خص الأزهار بمقامته الوردية والفواكه بمقامته التفاحية والبقول الخضراء بمقامته الزمردية والنّقل بمقامته الفستقية والعطور بمقامته المسكية، وخصّ الأحجار الكريمة بمقامته الياقوتية. ونقف قليلا عند مقامته الوردية فعلى غرارها تلك المقامات جميعا، وهى مفاخرة أو مناظرة بين الأزهار والرياحين، استهلّها الورد ببيان محاسنه وأنه ملك الرياحين منعش للأرواح ومتاع إلى حين، وأنه ظاهر على أزهار البساتين منتصر منها بقوة الشوكة والصولة.
وواضح ما فى كلمة الشوكة من تورية إذ لا يريد البأس بشهادة كلمة الصولة، وإنما يريد الشوكة الحقيقية للورد واحدة أشواكه، وما يلبث الورد أن يدلّ بفوائده الطبية، ويرد عليه النرجس مفاخرا بمحاسنه محاولا أن يغض منه، قائلا:
وللسيوطى بجانب ذلك مقامات جعل محورها الذى تدور عليه مسائل علمية، إذ يورد فيها أسئلة تحمل ألفاظا غريبة ملغزا بها، ثم يذكر جوابها مفسرا لها. مزيلا عنها غرابتها، محاكيا بذلك الحريرى فى مقامته الطيبيّة نسبة إلى طيبة أى المدينة وقد ضمّنها مائة مسألة فقهية وأجوبتها كأن يقول فيها:«أيستباح ماء الضرير؟ » ويجيب أبو زيد السروجى بطل المقامات الحريرية: نعم ويجتنب ماء البصير» والضرير: حرف الوادى والبصير الكلب. ونرى السيوطى يستوحى هذه المقامة، فيكتب على غرارها مقامته المكية، ويستهلها على هذا النمط:
«حدثنا هاشم بن القاسم قال: مازلت أقتحم المهامه (1) المخيفة، وأدخل فى المسالك العنيفة
(1) المهامه: القفار والفلوات.
إلى أن نزلت بمكة الشريفة، فحططت الرّحال بعتابها (1)، وأرحت النفس من عنائها، وظللت أجوب فى مشاهدها وأجول فى معاهدها. . وأتردد فى الغدو والرّواح، وأتزوّد من تلك الآثار فى المساء والصباح، وأتمنى أديبا يسلّى بمسامرته الغربة، وأديبا ينيل بمحاضرته الإربة (2)، فبينا أنا ذات ليلة فى المطاف، وقد تسمّرت سحائب الألطاف، إذا أنا بشعبة مؤتلفين، وعصبة محتفين، وهم بين سلام وترحيب، وبكاء ونحيب. وفى صدر الحلقة، شاب نحيف الخلقة، قد تدرع بثياب البهاء. قال هاشم بن القاسم: فتساميت إلى لقائه، وتقدمت إلى تلقائه، لأستنور بباطنه على ظاهره، وأستظهر من كامنه على باهره، وأتخذه معاضدا ونصيرا، ومحاضرا وسميرا، فقلت:
وعيت ما منك رأيت، وشمت (3) ما عنك فهمت، فائت على ما ادّعيت ببرهان من الدلائل، وأجب إلى ما أقترحه عليك من مسائل، فقال: على الخبير سقطت، ومن البحر لقطت، فأوضح عن مسائلك، وأفصح عن مقالك، فقلت: ما تقول فيمن توضأ ولم يمسح أمّه؟ فقال:
لم يصحّ يا أمّة».
والأم الأولى الرأس والوضوء بدون مسحها باطل، وقد ألغز السيوطى بها، كما هو واضح.
وتوالت الأسئلة على هذا النحو مثل هل يجوز بيع الحر؟ والجواب الجواز، لان المراد بالحر الفرس الأصيل. ومثل هل تصح الصلاة على الفحل؟ والجواب تصح لأن المراد بالفحل الحصير المتخذ من فحل النخل.
وللسيوطى مقامة ثانية سماها المقامة الأسيوطية بناها على ألغاز نحوية، محاكاة لمقامة الحريرى المسماة بالمقامة القطعية وهى المقامة الرابعة والعشرون بين مقاماته. وللسيوطى مقامة فكهة سماها «رشفة الزلال من السحر الحلال كتبها على لسان عشرين عالما بينهم المقرئ والمفسر والأصولى والفقيه واللغوى والنحوى، وجعل كلا منهم يصف ليلة زفافه على عروسه بلغة علمه ومصطلحاته. ومن مقاماته مقامة تسمى الجيزية جعل موضوعها لغزا شعريا. وكأنه كان يرى المقامة صالحة لأن تعرض أى موضوع حتى لنراه يتخذ نجاة أبوى الرسول صلى الله عليه وسلم من النار موضوعا لإحدى مقاماته، وقد سماها المقامة السندسية، وهى مطبوعة، ونجاة أبوى الرسول من النار لا يشوبها أى شك. إذ هما الطاهران الطيبان الذكيان النيّران. ولعل فيما قدمنا ما يدل على الخصائص الأدبية لمقامات السيوطى وبدون ريب كانت ملكاته العلمية أخصب من ملكاته الأدبية.
(1) عتاب: جمع عتبة.
(2)
الإربة: الأمنية.
(3)
شام: نظر متطلعا أو مؤملا شيئا