الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويلمع فى رياسة ديوان الإنشاء بمصر ودمشق منذ عهد السلطان خليل المتوفى سنة 693 حتى نهاية القرن الثامن غير كاتب من أسرة فضل الله العمرى. وأول من ولى كتابة السر منها أو بعبارة أخرى رياسة الديوان عبد (1) الوهاب بن فضل الله العمرى، وظل يشغل هذه الوظيفة حتى العقد الثانى من القرن الثامن إذ نقله الناصر بن قلاوون إلى دمشق ووليها بعده من الأسرة فى سنة 729 أخوه (2) محيى الدين يحيى، وكان يشركه فى كتابة السر ابنه شهاب الدين أحمد، وفى سنة 732 نقلهما الناصر فترة قليلة إلى دمشق ولم يلبث أن أعادهما فظلا على كتابة السر حتى سنة 738 إذ تغير الناصر على شهاب الدين وأقام مقامه أخاه (3) علاء الدين، وظل فى الوظيفة حتى سنة 769 وتولاها بعده ابنه بدر الدين (4) إلى أن توفى سنة 796.
ومن الكتاب المهمين المعاصرين له ابن مكانس، وسنترجم له بين كتاب الرسائل الشخصية.
ويلمع فى أوائل عهد المماليك البرجية اسم القلقشندى صاحب صبح الأعشى، ولم يتول كتابة السر ولكنه ألمع كاتب بالدواوين فى زمنه وسنترجم له بين كتّاب المقامات. ويتولى رياسة ديوان الإنشاء غير كاتب مصرى وشامى ويتوقف النشاط فيه مع دخول العثمانيين مصر كما أسلفنا.
ونعرض طائفة من أنبه كتابه.
ابن (5) الصيرفى
هو على بن منجب بن سليمان ولد بالقاهرة سنة 463 وكان أبوه صيرفيا، بينما كان جده معدودا بين كتّاب زمنه. ولعله هو الذى وجّهه إلى اتخاذ الكتابة الديوانية حرفة له. ولا بد أنه جمع له من أسبابها وأدواتها الثقافية ما جعله يتقنها سريعا، والتحق بديوان الجيش وعنى به صاحبه صاعد بن مفرج، وعمل فى ديوان الخراج. وتنبه له وزير مصر لأيامه الأفضل بن بدر الجمالى (487 - 515 هـ) فنقله إلى ديوان الإنشاء، وأعجب به متوليه سناء الملك أبو محمد الحسنى
(1) النجوم الزاهرة 9/ 240
(2)
انظر ترجمته فى فوات الوفيات 2/ 46
(3)
النجوم الزاهرة 11/ 102
(4)
النجوم الزاهرة 12/ 140.
(5)
انظر فى
ابن الصيرفى
وترجمته ورسائله معجم الأدباء 15/ 79 وتاريخ مصر لابن ميسر فى مواضع مختلفة وحسن المحاضرة 1/ 604 وصبح الأعشى 1/ 97، 8/ 237 - 241، 316 - 321، 324، 329 وخطط المقريزى 2/ 214 والمغرب لابن سعيد (قسم القاهرة-طبع دار الكتب المصرية) ص 252 وراجع كتابيه قانون ديوان الرسائل (طبع مصر) والإشارة إلى من نال الوزارة (طبع المعهد العلمى الفرنسى بالقاهرة).
الزيدى، فأسند إليه كتابة التقاليد والمراسيم والتوقيعات، حتى إذا توفى الخليفة الفاطمى المستعلى سنة 495 وولّى الأفضل الجمالى ابنه الآمر (495 - 524 هـ) وهو فى الخامسة من عمره حينئذ نرى ابن الصيرفى هو الذى يكتب السجل بوفاة المستعلى وولاية الآمر. ويقرأ سجله على رءوس كافة الأجناد والأمراء. ويضيف إلى ذلك كتابا عن الآمر عند استقراره فى الخلافة بعد أبيه بأنه فوّض إلى الأفضل الجمالى وزيره تدبير شئون الدولة والرعية. ويكتب كتابا ثانيا إلى ولاة الأطراف بعد كتابة السجل أو العهد وتفويض الأمور إلى الأفضل مهنئا فيه بخلافة الآمر وتجديد ولايته. ويسجل القلقشندى فى صبحه طائفة أخرى من كتب ابن الصيرفى فى البشارة بسلامة الخليفة فى مواسم رمضان إذ كانت تكتب فى مواكب الجمعة الأولى والثانية والثالثة وكذلك فى عيد الفطر وعيد النحر، وحذف القلقشندى من تلك الكتب اسم الخليفة، وقد ظل يعمل فى ديوان الإنشاء لعهد الآمر برياسة الشيخ ابن أسامة، حتى إذا خلفه فيه ابنه أبو الرضا شركه فى رياسة الديوان، ثم انفرد برياسته لعهد الحافظ (524 - 543 هـ). ويبدو أنه ظل يعمل فيه حتى توفى سنة 542.
ويذكر ياقوت أنه توفى لأيام طلائع بن رزيك وزير الخليفة الفائز بعد سنة 550 ولعل التاريخ الأول لوفاته هو الصحيح.
وكان ابن الصيرفى كاتبا بليغا بل يعدّ أبلغ الكتاب المصريين زمن الفاطميين، وفيه يقول ياقوت:«أحد فضلا المصريين وبلغائهم مسلّم ذلك له غير منازع فيه. . وله رسائل أنشأها عن ملوك مصر تزيد على أربع مجلدات» ويشيد ابن سعيد فى المغرب ببلاغته قائلا: «وقعت على ترسله فى مجلدات عدة، فوجدت [القاضى] الفاضل البيسانى ينسج على منواله وينزع منزعه» وسنعرف عما قليل أن القاضى الفاضل أبرع كتاب مصر فى هذا العصر. وتتضح مهارة ابن الصيرفى البيانية فى أول كتاب احتفظ له القلقشندى به، وهو السجل الذى كتبه على لسان الآمر بوفاة الخليفة المستعلى وولايته الخلافة بعده سنة 495 وقد استهله بحمد الله والصلاة على الرسول وعلى آله الطيبين الطاهرين الأئمة المهديين، يقصد آباءه من الخلفاء الفاطميين، ويقول إن الله استرعى الأئمة هذه الأمة مشيرا بذلك إلى أن الله اصطفاه لهداية الناس، ويصلّى على جدّه لأبيه على بن أبى طالب، ويقول «إن الله أكرمه بالمنزلة العلية، وانتخبه للإمامة رأفة بالبرية، وخصّه بغوامض علم التنزيل، وجعل له مبرة التعظيم ومزية التفضيل» . وكل ذلك ترداد لما كان يبدئ الفاطميون فيه ويعيدون من تفضيل علىّ بن أبى طالب على أبى بكر وعمر وغيرهما من جلّة الصحابة، وأن الله خصه بعلم فوق العلم الدينى المعروف للأمة، به يعرف المعنى الحقيقى للقرآن أو المعنى الخفى الذى
يعلو على الفهم العادى، ويشيد ابن الصيرفى على لسان الآمر بنشر أبيه المستعلى للعدل بين الزعية، ويصور فداحة الرزء به والفجيعة فيه ثم يقول:
والسجل أو العهد كله بهذه اللغة الصافية المسجوعة، لا غرابة فى كلمة ولا نبو فى لفظ، بل ينساب الكلام فى فيض من البراعة البيانية، وفيه يقرر ابن الصيرفى على لسان الآمر أن الخلافة انتقلت إليه بالوراثة عن آبائه، وأن أباه عهد إليه بها، فهو يخلفه عن عهد أو وصية، وعند الفاطميين وجميع الشيعة أن الرسول أوصى بالخلافة لعلى وأنها تنتقل بالوصية من الأب إلى الابن.
ويقول ابن الصيرفى على لسان الآمر إن الله أطلعه من العلوم على السر المكنون ومن الحكمة على الغامض المصون، مشيرا بذلك إلى عقيدة الفاطميين فى أن الأئمة يتميزون من الناس بعلم باطنى يتوارثه إمام بعد إمام متنقلا من جيل إلى جيل، وهو عندهم علم لا يشمل أمور الدين وحقائقه فحسب، بل أيضا يتّسع ليشمل حوادث العالم حتى يوم القيامة، وهو ما يفرض لهم على الناس طاعة واجبة لا تحدها حدود، طاعة بدون قيد أو شرط.
وتتوالى كتب ابن الصيرفى فى الجزء الثامن من صبح الأعشى يكتبها فى وصف خطابة الآمر وصلاته فى جمع شهر رمضان وفى عيد الفطر وعيد النّحر أو الأضحى وفى وفاء النيل. ولا نراه يعود إلى مثل الإشارات السالفة للعقيدة الفاطمية الإسماعيلية، ويبدو أنه لم يكن غاليا فى العقيدة أو لعل القلقشندى حذف مما دوّنه من كتبه ورسائله غلوه. ولم يكن كاتبا بليغا يكتب الرسائل الديوانية فحسب، بل كان أيضا يكتب رسائل أدبية طريفة، وقد أشار إليها ابن سعيد فى المغرب حين قال:«له تصانيف مشهورة صغار ظراف» ويبدو أنه كان قد صنّفها للوزير الأفضل بن بدر الجمالى صاحب الأيادى السابغة عليه، وله فيه إشادات مختلفة سجلها فى رسائله الديوانية التى
(1) جبلنى: خلقنى.
أشرنا إليها وردّدها مرارا وتكرارا، وقد ذكر ابن سعيد من تصانيفه كتاب «لمح الملح (1)» وأورد من نثره فيه قوله:
والغطاس عيد من أعياد القبط بمصر كان يحتفل بليلته النصارى والمسلمون فى الحادى عشر من شهر طوبة أشد أشهر الشتاء برودة، وكانوا يكثرون فيه من الملاهى فى الزوارق بالنيل وعلى شاطئيه كما كانوا يكثرون من إيقاد المشاعل والفوانيس مع الاستماع إلى المغنين والمغنيات. وواضح أن ابن الصيرفى يشير إلى ما كان يتخذ فى هذا العيد من اللهو وشرب الخمر فى أوعيتها من الكاس والطاس، ويقول إن هذه الأوعية إن لم تملأ بالخمر أو الراح كانت أجساما بدون أرواح. وكأنه يطلب خمرا من صديق، فيقول له: داو بإحيائها قلبا لى جريحا، يطلب منه أن يبث فى دنانه الحياة التى عدمتها بفقدانها الراح. ويقول إنها أصبحت مثل الميت المعروف باسم عازر الذى أحياه المسيح، فأحيها وابعثها من جديد. ويذكر ابن سعيد من رسائل ابن الصيرفى الأدبية التى صنفها للأفضل الجمالى رسالة بعنوان «منائح القرائح» وينقل من صدرها قوله:
«أولى ما تقرّب به إلى الله تعالى الإكثار من تحميده، والإقرار بربوبيته وتوحيده، والصلاة على نبيه محمد الذى عضده بتأييده، وخصّه من الشرف بمالا سبيل إلى تحديده (2)، وعلى آله الممنوحين من الفضل ما يعجز الواصف عن تعديده، ثم التوسل إلى ملوك كل وقت بشكر نعمتهم ومواصلة خدمتهم، وشهر خصائصهم التى امتازوا بها عن العباد، وذكر مناقبهم التى سارت فى الأقطار ونقّبت (3) فى البلاد، والاجتهاد فيما نفقت (4) بشريف مقاماتهم سوقه، والاعتماد على ما ظهر سموقه (5) فى البلاغة وبسوقه، ولا خلاف أن سلطان هذا العصر، والمخصوص من الفضائل بمالا يدخل تحت الحصر، مالكنا السيد الأجلّ الأفضل أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الإمام» يقول ابن سعيد: وأخذ فى الاطناب على الأفضل. ويذكر أنه قال من تتمة تقدمته لتلك الرسالة:
(1) فى المغرب (قسم القاهرة): ملح الملح.
(2)
فى المغرب: تجديده
(3)
نقبت: ذهبت وشاعت.
(4)
نفق: راج.
(5)
سموقه وبسوقه: ارتفاعه
وواضح أن ابن الصيرفى كان يحسن الكتابة إحسانا بعيدا، دون أى غرابة فى لفظ، بل مع السهولة واليسر، فسجعه خفيف لا غلظ فيه ولا كزازة، وكأنه يفيض من ينبوع غدق، شرابا يمتع النفس. وكان يوشّيه أحيانا بالألفاظ القرآنية مثل قوله عن المناقب إنها «نقّبت فى البلاد» أى مضت وانتشرت أخذا من قوله تعالى:{(فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)} . واقتباسه للألفاظ والآيات القرآنية واضح فى رسائله. وكثيرا ما يوشى سجعه بالمحسنات البديعية وخاصة الاستعارة والتشبيه والجناس والطباق. وأورد ابن سعيد لغزا له فى السيف على هذا النحو: «يبالغ فى شكره إذا أقصد (3) وجرّح، وتقبل فى تزكيته شهادة المجرّح» . وفى كلمتى التزكية والمجرّح توريتان واضحتان فللتزكية معنيان. التعديل من قولهم زكى الشهود أى عدّلهم، وهو المعنى القريب للكلمة بدليل كلمة الشهادة. والمعنى الثانى بعيد، وهو الإطراء وهو المراد، وكذلك لكلمة المجرّح معنى قريب بدليل كلمة الشهادة وهو الذى لا تقبل شهادته. ومعنى ثان بعيد وهو المجرّح بالسيف فى الحرب، وهو أيضا المراد. ولعل فى هاتين التوريتين ما يدل على أن ابن الصيرفى كان يستظهر التورية فى نثره أحيانا ومرّ بنا أن شعراء القرن الخامس وفى مقدمتهم الشريف العقيلى كانوا يستخدمونها كثيرا. وتبعهم فى ذلك الكتاب كما نرى الآن عند ابن الصيرفى. وبذلك يتبين خطأ ابن حجة الحموى حين زعم أن القاضى الفاضل هو الذى ذلل من التورية الصعاب وأنزل الشعراء بساحاتها ورحابها (4) فقد نزلها شعراء الدولة الفاطمية من قبله وكتّابها، وبهديهم اهتدى القاضى الفاضل، وعن قوسهم رمى.
ولابن الصيرفى كتابان مطبوعان موجزان هما: قانون ديوان الرسائل، وكتاب الإشارة إلى من نال الوزارة. والكتاب الأول فى نظام ديوان الرسائل وبيان ما ينبغى أن يتحلى به رئيسه وموظفوه من ثقافات وصفات مميزة، وبه مقتطفات من بعض رسائله وهو كتاب نفيس. والكتاب الثانى
(1) فى المغرب: يصنفه.
(2)
فى المغرب: محله.
(3)
فى المغرب: أفسد، وأقصد السهم: أصاب
(4)
خزانة الأدب للحموى (طبعة بولاق) ص 67