الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عفو الله وغفرانه، وهو يكرر هذه النغمة كثيرا فى خمرياته؛ ويقول له: انظر إلى ما حولك من جمال الطبيعة الساحر وما فيها من بدائع النور والزهر وما ينتشر فيها من نواح الطير الذى يستثير حزنه كما يستثير فيه السرور والفرح. ويدعوه إلى شرب الخمر ذكية الرائحة وسط مباهج الطبيعة على ألحان مغن حاذق يجيد العزف حتى ليحرك فى السامع كل عضو ساكن منه تحريكه لسواكن أوتاره. وفى كتاب اليتيمة قطعة كبيرة من شعر ابن وكيع. وكان له ديوان رآه ابن خلكان سقط من يد الزمن، ولو وصلنا لعرفنا بوضوح مدى تأثيره فى الشعراء المصريين بعده وفيما نظموه من شعر الخمر والطبيعة، ومع ذلك ففى رأينا أن هذه القطعة كافية فى بيان أثره فيمن خلفوه. وهذه هى أول مرة نلتقى فيها بشاعر فى إقليم عربى يعيش للخمر والطبيعة ولا يعنى أى عناية بالمديح.
الشريف (1) العقيلىّ
هو على بن الحسين بن حيدرة ينتهى نسبه إلى عقيل بن أبى طالب، وتاريخ مولده غير معروف وكذلك تاريخ وفاته، غير أن الثعالبى ترجم له فى اليتيمة باسم أبى الحسن العقيلى وأردف الاسم بكلمة رحمه الله والثعالبى ترجم لشعراء أواخر القرن الرابع وأوائل الخامس، وقد يفهم من قوله رحمه الله، أن العقيلى لا بد أن يكون قد توفى قبل وفاته ومعروف أن الثعالبى توفّى سنة 429، ويقول ابن سعيد فى المغرب:«سألت عن العقيلى جماعة من أهل مصر فلم أر فيهم من يتحقق أمره، وقال لى أحد الشرفاء المعنيين بأنساب الشرف: كان فى المائة الرابعة» . وقد يشهد لذلك أننا نجد فى ديوانه أبياتا ينوه فيها بالحسين بن جوهر وزير الحاكم، وكان من بين من قتلهم سنة 401. ويبدو أن كلمة «رحمه الله» فى اليتيمة وضعها الثعالبى-إن كان هو الذى وضعها- خطأ أو سهوا فقد جاء فى خطط المقريزى ما يشير إلى أن العقيلى امتدت حياته حتى سنة 448 إذ ذكر أنه أنشد المستنصر الفاطمى صبيحة يوم عرفة فى هذه السنة:
قم فانحر الراح يوم النّحر بالماء
…
ولا تضحّ ضحّى إلا بصهباء (2)
أدرك حجيج النّدامى قبل نفرهم
…
إلى منى قصفهم مع كلّ هيفاء
(1) انظر فى
الشريف العقيلى
وترجمته وأشعاره اليتيمة 1/ 415 والمغرب (قسم الفسطاط) ص 205 وقد أنشد ابن سعيد قطعة كبيرة من شعره وراجع الفوات 2/ 99 والفن ومذاهبه فى الشعر العربى ص 483 ومقدمة ديوانه (طبع الحلبى). بتحقيق د. زكى المحاسنى.
(2)
انحر: اذبح. يوم النحر: يوم الأضحى. تضحى تذبح الأضحية. الصهباء الخمر.
فخرج المستنصر فى ساعته بروايا الخمر تزجى بنغمات حداة الملاهى وتساق، حتى أناخ بعين شمس (بجوار القاهرة) فى كبكبة من الفسّاق فأقام بها سوق الفسوق على ساق، يقول:«وفى ذلك العام أخذه الله وأخذ أهل مصر بالسنين (1)» وكأن ذلك كان فى أول عام من أعوام المجاعة المشهورة لعهد المستنصر التى بدأت سنة 442 وظلت سبع سنوات، حتى هلك الحرث والنسل.
والخبر يدل على أن الشريف العقيلى عاش على الأقل حتى هذه السنة، ويستدرك صاحب المغرب على من ذكر له أنه كان فى المائة الرابعة قائلا:«وقفت فى الخريدة (للعماد الأصبهانى» على ترجمته فدلّ على أنه متأخر العصر عن المائة الرابعة». ولعل فى ذلك كله ما يشهد بأنه عاش مطالع شبابه فى القرن الرابع، وامتدت به الحياة فعاش دهرا فى القرن الخامس.
وهو من أهل الفسطاط، وكان ثريا ثراء مفرطا حتى قال ابن سعيد: كان له بها متنزهات، وهو فى ذلك مثل تميم بن المعز، فهما جميعا من سكانها وأصحاب البساتين والقصور بها، غير أن تميما شغل فى ديوانه بمديح أبيه وأخيه العزيز، أما العقيلى فكما يقول ابن سعيد «لم يكن يشتغل بخدمة سلطان ولا مدح أحد» ويشهد بذلك ديوانه فليس فيه مديح لخليفة من الخلفاء الفاطميين، فيه فقط بعض إخوانيات قليلة، وكذلك بعض فخر وهجاء، ولا نبالغ إذا قلنا إنه استغرقه شعر الطبيعة والخمر والحب وكأنه امتداد لابن وكيع التنيسى. . ينظم أشعاره لنفسه ويتغنى لها بالطبيعة ومفاتنها مازجا بينها وبين الخمر فى نشوة وفرح ومسرة. ونشعر كأنما ينتفض أمامها انتفاضا يعم كيانه كله، وهو يشاهد جداولها ومياهها ورياضها وأشجارها وأزهارها وبركها، حتى لتتحول أمامه معبدا ما يزال يقدم إليه تراتيله مصحوبة ببخور الخمر وشذاها، وكأن حياته وعبادته إنما تأتلف من الطبيعة والخمر وكثوسهما المترعة، وهو يدعو دائما إلى احتساء هذه الكئوس، وكأنه يعب من الطبيعة ما يعب من فتنها، ثم يعب من الخمر ما يعب من دنانها، مع القدرة البارعة على التصوير والتحول بالمناظر الواسعة فى الطبيعة إلى مناظر مركزة، كالكّوة تتجمع فيها الأشعة فتتحول إلى ما يشبه قوس قزح رائع بديع، يقول داعيا إلى المتاع بجمال الطبيعة وشرب الخمر العتيقة:
الغيم ممدود السّرادق
…
والزّهر مفروش النّمارق (2)
والقاش قد نقشت لنا
…
منه المجالس والمرافق
(1) خطط المقريزى 2/ 583. والسنين: الجدب.
(2)
النمارق: الوسائد.
أشجاره وثماره
…
مثل الترائب والمخانق (1)
قد غنّت الأطيار فى
…
طرقاته كلّ الطرائق
فاعتق فؤادك فيه من
…
رقّ الهموم بشرب عاتق (2)
فالأقحوان غصونه
…
بيض النّواصى والمفارق
ومراود الأمطار قد
…
كحلت بها حدق الحدائق
والطبيعة من حوله قد تجمعت فى حفل بسرادق بهيج وسائده من الزهر الملون، وكذلك مجالسه ومتكآته كأنما قد قطّعت وفصّلت من القاش أو من نسيج حريرى متعدد الأصباغ، بينما تطلّ عليه من الأشجار والثمار الترائب والقلائد. والطير تشدو وتغنى، منظر فاتن ومغنى ساحر، جدير بالشراب المزيل للهموم، والأقحوان يتمايل على أغصانه وكل ما فى الحدائق آخذ زينته وزخرفه، حتى العيون لم تنس كحلها، عيون الأزهار البديعة، فقد ناولتها الأمطار مراود تتمم بها زينتها وحسنها الفاتن. ومن قوله فى مطلع الربيع.
قد بيّضت قبّة السماء
…
وزوّقت قاعة الفضاء
فالسماء بسحبها البيضاء الممتدة على الأفق من كل جانب كأنها قبّة بيّضت، والربيع بأزهاره وأنواره كأنه قاعة متألقة نقشت ونمّقت بمنمنمات الربيع وزخارفه البديعة. وعلى نحو ما تتجسد الطبيعة فى مناظر يتمثل فيها التجميع والحشد والتركيز يكثر عنده التشخيص وبث الحياة فى عناصر الطبيعة من مثل قوله:
قد حبا طفل الصباح
…
بين دايات الرياح
وقوله:
السّحب ترضع من بنات الأرض ما
…
جعل الربيع لها الغصون مهودا
وقوله:
أمهات الثمار بين الرّوابى
…
تائهات بلبس خضر الثياب
وبنات الكروم تجلى بما قد
…
صاغه الماء من عقود الحباب
(1) المخانق: القلائد.
(2)
العاتق: الخمر.