الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - الرسائل الشخصية
تموج كتب الأدب والتراجم بكثير من رسائل الأدباء والكتاب المصريين الشخصية والإخوانية فى التهنئة والتهادى والشكر والعتاب والاعتذار والاستعطاف والتعزية. وعادة معانيها محدودة، ولكن أصحابها يحاولون إظهار براعتهم بإطالتها وتحبير عباراتها ونشر زخارف البديع ومحسناته عليها حتى تروق من ترسل إليهم وتبلغ من التأثير فيهم المبلغ المنشود. وممن برعوا فى تدبيجها وكتابتها فى أيام الفاطميين عبد المجيد بن أبى الشخباء العسقلانى الكاتب الديوانى لزمن الخليفة المستنصر، وسنخصه بحديث مفرد، وكان لا يكاد يقل عنه إحسانا فى تلك الرسائل سبطه أو ابن ابنته الحسن (1) بن زيد الأنصارى الكاتب مثله فى الدواوين الفاطمية، وكان جده لأبيه شاعرا، وهو على بن إسماعيل، وكان أيضا فقيها ولى قضاء الأردن للفاطميين، ويقول السلفى فى معجمه: لم يكن له نظير فى الأدب بقطره سوى ابن أبى الشخباء، وقتلهما بدر الجمالى وزير المستنصر. والحسن بن زيد بذلك سليل قتيلين وكأنما كتب عليه أن يقتل مثلهما، وتولى إثم ذلك الحسن بن الخليفة الحافظ (524 - 543) فى أوائل خلافة أبيه لأبيات فى هجائه دسّها بعض معاصريه عليه، وكأنما أراد القدر أن يثأر له وكان الحسن قد استبدّ بتنفيذ الأمور دون أبيه فدس عليه السم فى طعامه فمات لسنة 528.
وواضح أن الحسن بن زيد-كما يقول ابن سعيد- «عريق النسب، فى صناعة الأدب، يمتّ إليها بأوفى ذمام، ويضرب فيها بأخوال وأعمام» ويقول العماد الأصبهانى: «وصفه القاضى الفاضل وأثنى على فضله، وأنه فى فنه لم يسمح الدهر بمثله» . واحتفظ العماد له فى خريدته بطائفة من رسائله الديوانية والشخصية، من ذلك قوله فى رسالة إلى صديق يهنئه بالبرء من مرضه.
«إذا قدم الوداد، وصحّ الاعتقاد، وصفت الضمائر، وخلصت السرائر، حلّ الإخاء المكتسب، محلّ أخوة النسب، وصار المتعاقدان على الإيثار، والمتحابّان على بعد الدار، متساهمين فيما ساء وسرّ، ومتشاركين فيما نفع وضرّ، وتلك حالى وحال حضرة مولاى فانى وإياها
(1) انظر فى ترجمة الحسن بن زيد الخريدة (قسم شعراء مصر) 2/ 67 وما بعدها والمغرب (قسم القاهرة) ص 237 ومعجم السلفى ص 448.
كنفس قسّمت على جسمين، وروح فرّقت بين شخصين، فأما ألمها فقد مضى وأزعجنى، وأما برؤها فقد سرّها وأبهجنى».
ومهارته فى صياغة أسجاعه واضحة فعباراتها تتوازن وتتعادل تعادلا دقيقا، وكأن كل كلمة فى السجعة الثانية تعانق أختها فى السجعة الأولى فى عذوبة ونصاعة وسلاسة وطلاقة. ومن كتاب له فى تعزية:
وتحمل القطعة نفس الصياغة السالفة بكل ما تتسم به من اكتمال الإيقاع فى الألفاظ بين السجعات وحسن الانتخاب للألفاظ والكلمات.
وكان يعاصر الحسن بن زيد الشاعر ظافر الحداد الذى مرت ترجمته بين الشعراء، وكانت قد انعقدت صداقة بينه وبين أبى الصلت أمية بن عبد العزيز نزيل الإسكندرية، وكان قد بارحها إلى المهدية بتونس سنة 506 ولم يصله من ظافر كتاب فأرسل إليه يعاتبه، ومن قوله يجيبه عن كتابه (3):
«فضضت الكتاب عن رسالته التى يبهج قشيبها (4)، ويضوع (5) طيبها، ولا ينزف قليبها (6)، فخلت أنى أختال أىّ اختيال فى حلل الشباب، وأذكر الأحباب، وأرشف الرّضاب (7)، من الثنايا العذاب، بعد الصدّ والاجتناب:
ذكرت به عهدا كأن لم أفز به
…
وعيشا كأنى كنت أقطعه وثبا
ثم نزهت ناظرى، وجلوت خاطرى، ببدائع ما تضمّنه الكتاب، من العتاب، حتى وددت أنى أجدّد كل يوم ذنبا، يوجب منه عتبا، كى أقطف منه مثل تلك الأزهار، وأجنى مثل تلك
(1) كارث: محزن.
(2)
يدرع: يلبس. الدجنة: الظلمة.
(3)
انظر الرسالة فى ديوان ظافر
(4)
قشيب: جديد
(5)
يضوع: يفوح
(6)
قليبها: معينها
(7)
الرضاب: الريق
الأثمار، فما أخصبها رياضا، وأعذبها حياضا، وأشرفها أجساما وأعراضا».
وظافر يعنى فى رسالته بسجعاته، ويوفر لها كل ما يستطيع من جمال اللفظ وحسن الجرس، حتى تقع من نفس أمية الموقع الذى يريده من بلاغة القول وروعة البيان. وإذا مضينا إلى زمن الأيوبيين لقينا القاضى الفاضل أهم كتأبهم يدبج كثيرا من الرسائل الإخوانية أو الشخصية واقتطف منها محيى الدين بن عبد الظاهر باقات كثيرة فى مختاراته من رسائله التى سماها «الدر النظيم من ترسل عبد الرحيم» ومن قوله فى إحداها يصف لأحد أصدقائه دمشق:
وأسلوب القاضى الفاضل واضح فى هذه القطعة لا بأسجاعه فحسب وما يبلغ فيها من اكتمال الجرس والإيقاع بين أوائلها وتواليها، بل أيضا بما يوشىّ به كلامه من الاستعارات البديعة وزخارف الجناسات، وكان ما يزال يضيف إلى مثل ذلك طباقاته وتورياته الرشيقة وما عرف به من العناية بمراعاة النظير. وكثرت المراسلات بينه وبين ابن سناء الملك وأبيه القاضى الرشيد، مما أتاح لابن سناء الملك أن يجمع منها كتابا يسميه «فصوص الفصول وعقود العقول» ، وتحتفظ دار الكتب المصرية بمخطوطة منه، وهو مقسوم قسمين: قسم لمراسلات القاضى الفاضل وابن سناء الملك وقسم لمراسلات القاضى الفاضل مع أبيه، وفيه مراجعات كثيرة بين الفاضل وابن سناء الملك تتصل بنظرات له ونقد لبعض أبيات من قصائده. وحرىّ بنا أن نذكر كثرة استشهاد الفاضل فى رسائله الشخصية بالشعر حتى ليروى له القلقشندى فى الجزء الأول من صبحه (5) رسالة موزعة بين كلمات نثرية تليها أبيات شعرية، ورسالة ثانية موزعة بين كلمات وشطور أبيات.
ومن كتّاب الديوان حينئذ البارعين فى تحبير الرسائل الشخصية الأسعد بن مماتى، وسنترجم له عما قليل.
(1) ضفا: سبغ.
(2)
افتر: تفتح.
(3)
الهزار: العندليب.
(4)
القمرى: ضرب من الحمام المطوق حسن الصوت
(5)
صبح الأعشى 1/ 276.
ونمضى فى زمن المماليك فنجد الأدباء من كتاب وشعراء يتبادلون رسائل شخصية كثيرة، من ذلك رسالة بعث بها محيى الدين بن عبد الظاهر سنة 653 إلى الشاعر ابن النقيب الذى مرت ترجمته، وقد بلغه أن شخصا عابه فى مجلسه وأزرى به وبقدرته الكتابية، وكان لا يزال شابا فى نحو الثلاثين من عمره، ويبدو أنه عرف أن ابن النقيب ردّ على عائبه، فكتب إليه يهجو هذا العائب ويشكره على جميل رده عليه، وهى رسالة طويلة (1)، جعل عنوانها «التواضع» وقد مضى فيها يصور حملة هذا العائب عليه ثم أخذ يعنّفه تعنيفا شديدا، وأنهاها بالدعاء لابن النقيب والدعاء على عائبه بالويل والثبور، ونلم بأطراف منها، يقول:
والرسالة على هذه الشاكلة من السجع الموقّع الملحن تلحينا حسنا، مع توشيته بزخارف الاستعارات ومحاسن الجناسات، وقد ورّى فى كلمة «قدح القادح» مع ذكر الزند الوارى فلم يرد بها قدح القادح للزند طلبا لإخراج النار منه، وإنما أراد ذم الهاجى، من قولهم: قدح فى عرض أخيه إذا عابه وثلبه.
وتكثر فى الرسائل الشخصية حينئذ تقريظات الأدباء والشعراء، ولعل شاعرا لم يكثر تقريظ شعره ومصنفاته كما قرّظ ابن نباتة. ومرّ فى ترجمته أن له كتابا سماه «سجع المطّوق» ترجم فيه لكل من قرظوا كتابه «مجمع الفوائد» . ولتلميذه برهان الدين القيراطى الذى مرّت ترجمته بين الشعراء تقريظ طريف لشعره ونثره، ومن قوله فيه (8):
(1) انظرها فى نهاية «تمام المتون فى شرح رسالة ابن زيدون» للصفدى
(2)
مفعم: ملئ
(3)
قريحه: جريحة.
(4)
أومى: أشير.
(5)
زخار: النهر الزخار: الملئ الطامى.
(6)
تفاض: تكون سابغة ضافية
(7)
الوارى: المتقد.
(8)
خزانة الأدب للحموى ص 547.
والتقريظ زاخر بالاقتباس لآى القرآن الكريم وألفاظه كقوله فى مديح أبيات ابن نباته إن بيوته المرفوعة أصبحت ذات العماد. وفى كلمة بيوت تورية إذ لا يريد بيوت الشعر من الخيام التى ترفعها الأعمدة أخذا من قوله تعالى فى سورة الفجر {(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ)} أى أنهم كانوا أهل خيام وأعمدة، وهو لا يريد ذلك كله وإنما يريد بيوت شعر ابن نباتة أو أبياته.
وأكمل فى العبارة التالية وصف القرآن فى السورة نفسها لعاد بقوله: (التى لم يخلق مثلها فى البلاد). وراعى النظير مراعاة دقيقة حين ذكر ابن سكرة فذكر معه القطر النباتى يريد شعر ابن نباتة الحلو. وحين ذكر المتنبى أشار إلى ما قيل من تنبؤه وأنه نهض عنه بأعباء كل رسالة ومعروف أنه لم يثبت تنبؤ المتنبى تاريخيا غير أن القيراطى رأى استغلال ذلك فى جلب ما يخدم غرضه من مراعاة النظير والتورية بكلمة رسالة. وربما كان أكثر من رسائل التقريظات رسائل الاستدعاءات، إذ كان الأدباء من الكتاب والشعراء يستدعى بعضهم بعضا للمشاركة فى مجالسهم وما بها من أنس ومدام ومن رفاق وصحاب. ولبدر الدين بن الصاحب المتوفى سنة 788 للهجرة رسالة (5) طويلة أرسل بها إلى فخر الدين بن مكانس يدعوه لمجلس أنس وشراب، واصفا له ما سيتمتع به معه من خمر معتقة، وكأنه كان من المدمنين عليها فى غير تحرج، وله يقول:
«هل لك-بسط الله آمالك، وضاعف نعيمك ودلالك-فى عذراء مصونة، كالدرة المكنونة، فتّانة مفتونة، كأن على خدها فوق ورده ياسمينة. . لها من ذاتها طرب يغنى عن المزامير، بلقيسية الجمال لها (صرح ممرّد من قوارير) ليلها من حسنها نهار، وضوء وجهها ليد لامسها سوار، تلثمت بالصباح، وتلطفت حتى مازجت الأرواح، أديمها كلما تعتّق يغلو،
(1) بديع الزمان: صاحب المقامات والرسائل المشهور.
(2)
المؤيدية: يريد أمداحه فى المؤيد (انظر ترجمته).
(3)
ابن سكرة: شاعر بغدادى ماجن معاصر للمتنبى.
(4)
مسكرة: مغلقة.
(5)
مطالع البدور للغزولى 1/ 152 والأدب فى العصر المملوكى للدكتور محمد زغلول سلام ص 11.
ووردها كلما مرّ يحلو، أيامها أعياد، وأوقاتها أقوات القلوب والأكباد. من «القاصرات الطّرف» فى كل قصر وهى على الإطلاق ذهبية العصر. . لا تنزل الحوادث ساحتها، ولا يعرف التعب من صافح راحتها، حمراء تخلع ثوبها على الندمان، بل تكاد تطبق عينها على الإنسان».
وهو ينثر فى الرسالة كثيرا من التصاوير مع القدرة البديعة على صياغة السجع والاقتباس فيه أحيانا من لفظ الذكر الحكيم كقوله مورّيا عن دنّ الخمر الزجاجية بما جاء فى سورة النمل من وصف الصرح فى قصر سليمان عليه السلام الذى شمرت بلقيس ملكة سبأ ثوبها حين دخلته إذ (حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرّد من قوارير) أى من زجاج شفّاف لا يحجب ما وراءه. ووصف بدر الدين بن الصاحب الخمر التى دعا ابن مكانس إليها بأنها من القاصرات الطرف اللائى لم يمسسهن أحد، أخذا للكلمة من الذكر الحكيم، ولم يلبث أن قال إنها ذهبية العصر. والتورية واضحة إذ لا يريد أن عصرها ذهبى كما يقال عصر هرون الرشيد الذهبى مثلا وإنما يريد أنها صفراء اللون حين تعصر من عنبها وكرمها. وفى السجعتين التاليتين بآخر القطعة توريتان واضحتان، فهو لا يريد. بلفظة «راحتها» كفّها كما تشهد لذلك كلمة صافح، وإنما يريد الخمر نفسها إذ تسمى راحة. وبالمثل لا يريد فى السجعة التالية بالإنسان إنسان العين وسوادها وإنما يريد الإنسان الحقيقى الذى يحتسيها.
وظلت الرسائل الشخصية تتداول بين الأدباء طوال الحقبة العثمانية، ودخلها غير قليل من التكلف والتصنع. ونسوق قطعة حينئذ من رسالة محمد بن أبى الحسن البكرى الذى مرت ترجمته، أرسل بها إلى النور العسيلى ليتسلى بمجلسه فى منتزه نضر يلتقى فى شاطئه ماء النيل وقت فيضانه بخضرة الزروع الزاهية، وفيها يقول (1):
والرسالة تجرى على هذه الصورة من التكلف الشديد كما يلاحظ فى السجعات الأخيرة، وقد تصنع فيها لذكر مصطلحات الفلك والعروض والنحو. ولمحمد الطيلونى من كتاب القرن الحادى
(1) ريحانة الألبا للخفاجى (طبعة الحلبى) 2/ 229
(2)
سيف: شاطئ.