المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ البهاء زهير - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٧

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - فتح العرب لمصر والحقب الأولى

- ‌(ا) فتح العرب لمصر

- ‌(ب) زمن الولاة

- ‌(ج) الطولونيون

- ‌(د) الإخشيديون

- ‌2 - الفاطميون-الأيوبيون

- ‌(ا) الفاطميون

- ‌3 - المماليك-العثمانيون

- ‌(ا) المماليك

- ‌(ب) العثمانيون

- ‌4 - المجتمع

- ‌الفصل الثانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علم الجغرافيا

- ‌(ا) علوم الأوائل

- ‌(ب) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب مصر

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعر دورى ورباعيات وموشحات وبديعيات

- ‌(ا) الشعر الدورى

- ‌(ب) الرباعيات

- ‌(ج) الموشحات

- ‌ العزازى

- ‌ابن الوكيل

- ‌(د) البديعيات

- ‌4 - شعراء المديح

- ‌«المهذب بن الزبير

- ‌ابن قلاقس

- ‌ ابن سناء الملك

- ‌ابن نباتة

- ‌5 - شعراء المراثى والشكوى

- ‌على بن النّضر

- ‌على بن عرّام

- ‌6 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن هانئ

- ‌ظافر الحداد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن النبيه

- ‌ البهاء زهير

- ‌ ابن مطروح

- ‌2 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ تميم بن المعز

- ‌ ابن الذروى

- ‌ أحمد بن عبد الدائم

- ‌ حسن البدرى الحجازى الأزهرى

- ‌3 - شعراء الطبيعة ومجالس اللهو

- ‌ الشريف العقيلى

- ‌ ابن قادوس

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن الكيزانى

- ‌ ابن الفارض

- ‌البوصيرىّ

- ‌5 - شعراء الفكاهة

- ‌ ابن مكنسة

- ‌الجزّار

- ‌ السراج الوراق

- ‌ ابن دانيال

- ‌ عامر الأنبوطى

- ‌6 - شعراء شعبيون

- ‌الغبارى

- ‌ ابن سودون

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ ابن الصيرفى

- ‌ القاضى الفاضل

- ‌ محيى الدين بن عبد الظاهر

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌ ابن أبى الشخباء

- ‌ ابن مماتى

- ‌3 - المقامات

- ‌ ابن أبى حجلة

- ‌القلقشندى

- ‌السيوطى

- ‌ الشهاب الخفاجى

- ‌4 - المواعظ والابتهالات

- ‌أبو الحسن الشاذلى

- ‌5 - كتب النوادر والسير والقصص الشعبية

- ‌(ا) كتب النوادر

- ‌كتاب المكافأة

- ‌أخبار سيبويه المصرى

- ‌كتاب الفاشوش فى حكم قراقوش

- ‌«هز القحوف»

- ‌(ب) كتب السير والقصص الشعبية

- ‌ سيرة عنترة

- ‌ السيرة الهلالية

- ‌سيرة الظاهر بيبرس

- ‌سيرة سيف بن ذى يزن

- ‌ ألف ليلة وليلة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ البهاء زهير

الوجدانية، وإذا كان شرر هذا النغم قد تطاير عن طريق ابن النبيه إلى الموصل فإنه تطاير عن طريقه وطريق‌

‌ البهاء زهير

إلى الشام وإلى بيئات عربية مختلفة.

البهاء (1) زهير

هو بهاء الدين زهير بن محمد، ينتهى نسبه إلى المهلب بن أبى صفرة القائد المشهور فى العراق وإيران زمن بنى أمية، ولد لأبويه المصريين فى وادى نخلة بالقرب من مكة فى أثناء حجّهما خامس ذى الحجة سنة 581. وكان أبوه رجلا صالحا يشهد بذلك وصفه على نسخة خطية من الديوان بدار الكتب المصرية بأنه:«العارف محمد قدس الله روحه» (2) وقد تؤذن كلمة العارف بأنه كان صوفيا أو على صلة بالصوفية والتصوف، ويبدو أنه أقام مع ابنه وزوجه فى مكة ناسكا بضع سنوات، إذ يشير البهاء فى بعض أشعاره إلى ذكريات له فيها أيام طفولته، بمثل قوله:

تذكرت عهدا بالمحصّب من منّى

ومادونه من أبطح وحجون (3)

منازل كانت لى بهن منازل

وكان الصّبا إلفى بها وقرينى

وعاد العارف محمد بزوجه وابنه إلى بلدته بالصعيد: قوص، وكانت حينئذ عاصمة الصعيد وباب المسافرين من مصر والمغرب والأندلس فى البحر الأحمر من سواكن وعيذاب إلى الحجاز، وكانت بها حركة تجارية واسعة ونهضة علمية وأدبية ناشطة، وهى منشأ البهاء ومرباه، فيها تلقن العلم والأدب والشعر. وتعرف فى أثناء ذلك على خدنه ورفيقه ابن مطروح، وانعقدت بينهما صداقة حتى الممات. وفى ديوانه قصيدة قصيرة مدح بها الملك المنصور حفيد صلاح الدين وكان قد ولى شئون مصر بعد أبيه العزيز فترة قصيرة سنة 595 وأغلب الظن أنه أرسل بها إليه من قوص وهو لا يزال فى الرابعة عشرة مما يدل على أن ملكته الشعرية تفتحت فى سن مبكرة.

وينشد ابن خلكان له أبياتا من قصيدة مدح بها جلدك التقوى والى دمياط سنة 605 وأكبر الظن أنه أرسل أيضا بها إليه من قوص. ونراه فى سنة 607 يقدم مدحه لوالى بلدته قوص: مجد

(1) انظر فى ترجمة البهاء زهير وشعره ابن خلكان 2/ 332 والنجوم الزاهرة 7/ 62 وحسن المحاضرة 1/ 567، 2/ 233 وشذرات الذهب 5/ 276. و «البهاء زهير»: بحث بقلم الشيخ مصطفى عبد الرزاق. وقد طبع ديوانه بكمبردج سنة 1876 بتحقيق يلمر مع مقدمة وتعليقات، وطبع فى القاهرة مرارا وفى بيروت.

(2)

انظر فى ذلك البهاء زهير للشيخ مصطفى عبد الرازق ص 5.

(3)

المحصب: موضع رمى الجمار بمنى. والأبطح: أبطح مكة وهو واديها. والحجون: جبل بها.

ص: 278

الدين إسماعيل اللمطى يهنئه فيها بولايته على أعمالها، وأعجب به اللمطى فاتخذه كاتبا له، وظل يعمل معه نحو عشر سنوات، ثم أخذت العلاقة تفتر بينهما، ويبدو من استعطافاته له فى بعض أشعاره أنه عزله من منصبه فهاجر من بلدته إلى القاهرة. ويظن بعض الباحثين أن هذه الهجرة حدثت فى سنة 619 وفى رأينا أنها تسبق هذا التاريخ بسنة أو أكثر إذ نراه يهنئ السلطان الكامل الأيوبى فى انتصاره العظيم سنة 618 على الصليبيين وطردهم من دمياط أو طرد فلولهم إلى البحر المتوسط وما وراءه. ويأخذ فى دعم صلته بأبناء السلطان الكامل منذ هذا التاريخ، ويحاول الاتصال بابنه الملك المسعود صاحب اليمن حين قدم إلى القاهرة سنة 621 ويقدم له مدحتين، ويخف على قلب أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب ويلحقه بخدمته، ويلبيّيه منشدا فيه قصيدة بديعة يقول فيها:

لبّيك يامن لا مردّ لأمره

وإذا دعا العيّوق لا يتعوّق (1)

الصالح الملك الذى لزمانه

حسن يتيه به الزمان ورونق

سجدت له حتى العيون مهابة

أو ما تراها حين يقبل تطرق

ويصحبه معه حين أصبح فى سنة 629 نائبا عن أبيه فى حكم بعض البلدان الشرقية فى نواحى الفرات. وعاش البهاء مع الملك الصالح فى رغد، ينعم بالحياة ويهنأ بها. وينتقل معه فى بلدان إمارته، غير أنه لم ينس موطنه، فقد ظل يذكره وظل لا ينسى أيامه فيه وأصدقاءه، ولا ينسى نيله الغدق ورياضه ومراكبه المصعدات المنحدرات، ويتلهف على العودة إلى واديه والعمل بجماله واكتحال عينيه بحسنه وبساكنيه وكل ما فيه، بمثل قوله:

سقى واديا بين العريش وبرقة

من الغيث هطّال الشآبيب هتّان (2)

بلاد إذا ما جئتها جئت جنّة

لعينك منها كلما شئت رضوان

تمثّل لى الأشواق أنّ ترابها

وحصباءها مسك يفوح وعقيان (3)

فيا ساكنى مصر تراكم علمتم

بأنى مالى عنكم الدهر سلوان

عسى الله يطوى شقّة البعد بيننا

فتهدأ أحشاء وترقأ أجفان

(1) العيوق: نجم فى طرف المجرة يتلو الثريا.

(2)

الشآبيب: جمع شؤبوب وهو دفعة المطر، وهتان: كثير المطر.

(3)

حصباءها: حصاها. العقيان: الذهب الخالص.

ص: 279

فهو يدعو للوادى من شرقيه إلى غربيه أن يظل يسقيه من الغيث هطال مدرار، ويتصور الوادى جميعه فردوسا لا يشبهه فردوس وترابه وحصباءه مسكا وذهبا خالصا، وهو لا يسلو أهله ولا ينساهم أبدا ويتمنى لو قصرت المسافة وعاد إلى موطنه ينظر ما شاهده، حتى تجف دموعه المنهلة، وتهدأ أحشاؤه الموجعة.

ويستولى الملك الصالح فى سنة 636 على دمشق فيتحول معه إليها ويتملّى بغوطتها ورياضها، ولا يلبث الملك الصالح أن يفكر فى الاستيلاء على أملاك داود ابن عمه صاحب الكرك فى جنوبى الأردن وينزل نابلس، غير أن مؤامرت تحاك له، ويعتقل بسببها عند ابن عمه داود فى الكرك، ويظل البهاء زهير بنابلس حافظا لعهده. وتردّ إليه حريته، ويتجه إلى مصر فيستولى من أخيه الصغير العادل على مقاليد الحكم بها سنة 637 ويولى البهاء زهير ديوان الإنشاء، والبهاء يكاد يطير فرحا برجوعه إلى موطنه وتعظم منزلته عند الملك الصالح ويصبح مستشاره الأعلى وأمين سره، وكان خيّرا نبيلا فنفع-كما يقول ابن خلكان-خلقا كثيرا بحسن وساطته عنده وجميل سفارته.

ومن حين إلى حين كان يرحل مع الملك الصالح إلى دمشق، وفى آخر رحلة لهما هناك جاءهما خبر الحملة الصليبية على دمياط بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وتصادف أن كان الملك الصالح مريضا، فصمّم على منازلة لويس وجيشه فى أقرب فرصة، وحمل من هناك فى محفّة حتى نزل بطناح بالقرب من المنصورة فى شهر المحرم سنة 647 ومضى يستعدّ للقاء الصليبيين وهو يجاهد المرض جهادا عنيفا حتى شهر شعبان إذ لبّى نداء ربه. وقبيل وفاته بقليل عزل البهاء زهير من منصبه، ويذكر المؤرخون أن ذلك كان بسبب تقصيره فى الالتفات إلى إشارة كان قد كتبها الملك الصالح على كتاب كان مرسلا لابن عمه داود صاحب الكرك، مما أغضب الملك الصالح.

ونظن أنه رجع ذلك السهو إلى تقدمه فى السّنّ، فأعفاه من منصبه وأسنده إلى نائبه فخر الدين ابن لقمان. ويقال إنه حاول بعد وفاة الملك الصالح إعادته إلى منصبه، وكأنما عزّ ذلك على البهاء فلم يقبل تقلّده، وقيل: قبله فترة ثم استعفى منه. وفى ديوانه مدائح مختلفة أرسل بها إلى الناصر الأيوبى حين استولى على دمشق، وأكبر الظن أنه أرسل بها إليه انتظارا لبعض رفده، ولزم بيته نحو ثمانى سنوات عرف فيها شظف العيش بعد رغده ومرّه بعد حلوه إلى أن فارق دنياه سنة 656 فى وباء حدث بالفسطاط والقاهرة.

ويدلّ شعر البهاء على أنه كان صاحب نفس كريمة كبيرة، ويقول ابن خلكان فى ترجمته:

«كنت أود لو اجتمعت به لما كنت أسمعه عنه فلما اجتمعت به رأيته فوق ما سمعت عنه من مكارم

ص: 280

الأخلاق ودماثة السجايا». وما مرّ من حديثنا عنه يدل على أن حياته ظلت، حتى أعفاه الملك الصالح من منصبه وهو فى نحو السابعة والستين من عمره، حياة سهلة ليس فيها حرمان ولا شئ من بؤس، بل فيها غير قليل من النعيم، وفى شعره وصف كثير لمجالس أنس مع الرفاق والأصدقاء، وفيه ما يدل أيضا على شغفه بالطبيعة ومجاليها الفاتنة. وله مراسلات شعرية رقيقة مع ابن مطروح خدن صباه وشبابه فى قوص. وشعره يكتظ بالمرح والتفاؤل والدعوة إلى الفرحة بمتع الحياة وطرح الهموم عن عاتق الإنسان، يقول:

أيها الحامل همّا

إن هذا لا يدوم

مثل ما تفنى المسرّا

ت كذا تفنى الهموم

والغزل هو الموضوع الأساسى فى ديوانه، وهو غزل وجدانى من نفس المعين الذى كان يستمد منه ابن النبيه، بل ربما كان يتقدم خطوة أو خطوات نحو السهولة، مما جعل ابن خلكان يقول:

«شعره كله لطيف، وهو-كما يقال-السهل الممتنع» . وليس كل ما يلاحظ عليه السهولة فحسب، فهو يتميز فيه حتى من ابن النبيه بالأوزان القصيرة والمجزوءة. وهو مثله يتغنّى بالحب وتباريحه فى تدفق وانطلاق، وقلما نجد عندهما معا رواسب تصويرية من تقليد القدماء، وما يجئ من ذلك يعرض عرضا جديدا، وأيضا ما يجئ أحيانا من جناس وغير جناس من المحسنات البديعية يجئ فى خفة ورشاقة. فالشعر-وخاصة الغزل-ليس محسنات ولا تصاوير محفوظة مما يتردد على الألسنة، وإنما هو مشاعر وانفعالات وعواطف. وقد يكون ذلك غريبا على أذواق الباحثين الذين طالما رددوا أنه لم يبق عند الشعراء منذ أيام الدولة الايوبية سوى الأخيلة والتصاوير المتجمدة، وسوى المحسنات البديعية التى استحالت إلى أصداف ينقصها البريق واللمعان.

وينبغى أن لا نجعل ذلك خاصة فريدة من خصائص البهاء زهير وحده، فهذا الغزل الوجدانى لم يكن خاصا بالبهاء زهير، فقد كان يشركه فيه-كما أسلفنا-ابن النبيه وأيضا ابن سناء الملك، وله مقدمات قديمة نجدها عند المهذب بن الزبير وظافر الحداد. ولا ريب فى أنه لطبيعة مصر السهلة وطبيعة نيلها العذب السّلس أثر كبير فى ذلك، فعلى نحو ما يمتد الوادى فى مصر سهلا لا نتوء فيه، كذلك شعره وشعر أصحابه تمتد لغته سهلة دون أى صعوبات، وعلى نحو ما يجرى النيل مترقرقا متدفقا كذلك شعره وشعر أصحابه يسيل عذبا سائغا شرابه. وكما أن الوادى ينطوى على السهولة كذلك النفس المصرية نفس سهلة لطيفة لا خشونة فيها، نفس

ص: 281

طبعت على اللين والرقة والدماثة، مما انعكست آثاره عند ابن سناء الملك وابن النبيه. ومن الحق أن البهاء زهير كأنما خلق ليبلغ بتصوير هذه النفس كل ما يسمها من عذوبة وخفة ظل ورشاقة.

وربما كان من أسباب اندلاع هذا الغزل الوجدانى على لسان البهاء زهير ما أشرنا إليه فى صدر حديثنا عنه من أن أباه كان صوفيا أو على صلة بالتصوف والصوفية مما جعله يحفظ مبكرا-وتدور على لسانه-أشعارهم المليئة بالوجد الإلهى وتباريحه، وانطبع هذا الوجد فى نفسه وبثّه فى حبه.

وجعل اختلاطه بهذه البيئة يعمّق هذا الوجد وأشواقه بأكثر مما عمقه فى نفوس الشعراء من حوله، وإن كنا نستبقى بصفة عامة أثر هذا الوجد الصوفى فى غزلهم جميعا، مما دفع بقوة لظهور هذا الغزل الوجدانى الصادق. ومعروف أن صوفية مصر من أمثال ابن الكيزانى وابن الفارض ممن سنتحدث عنهم فى غير هذا الموضع بثّوا فى أشعارهم وجدا لا ضفاف له، وكأن البهاء زهير استمد جذوة من هذا الوجد المبرّح نشر شررها فى غزله. وكثيرا ما نعثر عنده على أبيات تصور تأثره بالصوفية كقوله فى بعض غزله:

أنا فى الحقيقة أنتم

هذا اعتقادى فيكم

ولو أننا لم نعرف أن البيت له وسئلنا لمن هذا البيت لقلنا إنه لأحد الصوفية يعبر فيه عن مبدأ الاتحاد المعروف عندهم: اتحاد المحب بالمحبوب. ومن ذلك قوله:

يا من إليك المشتكى

أنت العليم بحاليه

وكأنه متصوف يخاطب الذات العلية ضارعا مستعطفا، وهو إنما يخاطب صاحبته التى دلعت نار الحب فى فؤاده. وهذا الجانب من غزل البهاء زهير جعل بعض قصائده تلتبس عند الأسلاف بقصائد ابن الفارض، من ذلك رائيته المشهورة التى يقول فيها:

غيرى على السلوان قادر

وسواى فى العشاق غادر

أشكو وأشكر فعله

فاعجب لشاك منه شاكر

لا تنكروا خفقان قل

بى والحبيب لدىّ حاضر

ما القلب إلا داره

ضربت له فيها البشائر

يا ليل طل يا شوق دم

إنى على الحالين صابر

لى فيك أجر مجاهد

إن صحّ أنّ الليل كافر

ص: 282

والقصيدة فى ديوان البهاء زهير، وهى أيضا فى ديوان معاصره ابن الفارض المتصوف المشهور، وفى رأيى أن الالتباس الذى جعل الرواة يظنون أن القصيدة لابن الفارض جاءهم من أنها تحمل فكرة الغيبة والحضور التى يرددها كثيرا ابن الفارض فى غزله الربانى، على نحو ما يلاحظ فى البيت الثالث، وإن اختلف المنزعان فى الفكرة، وبالمثل البيت الرابع فقد يشير من طرف خفى كسابقه إلى فكرة الاتحاد بالمحبوب. وفى البيتين: الأول والثانى جناسات ناقصة وفى البيت الأخير تورية بالكفر بمعنى الشرك بالله والمراد الستر. على كل حال يلفتنا الالتباس بين شعر البهاء زهير وابن الفارض إلى ما قلناه من أن أصداء من الوجد الصوفى انعكست فى شعر البهاء زهير. ويبدو أن انعكاسها بدأ مبكرا، إذ نراها واضحة فى غزل قصيدة يمدح بها مجد الدين اللمطى إذ يقول:

لها خفر يوم اللقاء خفيرها

فما بالها ضنّت بما لا يضيرها (1)

أعادتها أن لا يعاد مريضها

وسيرتها أن لا يفكّ أسيرها

وها أنذا كالطّيف فيها صبابة

لعلى إذا نامت بليل أزورها

من الغيد لم توقد مع الليل نارها

ولكنها بين الضلوع تشيرها

يقاضى غريم الشّوق منى حشاشة

مروّعة لم يبق إلا يسيرها

والصور فى القطعة دقيقة فخفر صاحبته أو خجلها وحياؤها يحرسها يوم لقائه، فلماذا تبخل عليه بما لا يضيرها؟ وهل من عادتها أن لا تعود مريضها ومن سيرتها أن لا تفك قيود أسيرها؟ .

وهو تضرع وتوسل لطيف. ويقول إنه أصبح كالطيف شبحا متضائلا نحيلا. ويتسع به الخيال فيتمنى لو أصبح طيفا حقا وزارها فى المنام وتضاعيف الأحلام. وهى صورة طريفة من مبتكرات خياله. ويقول إنها لم توقد نارها ليلا كعادة الناس اكتفاء بإيقادها بين ضلوعه وجوانحه. ويقول إنه لم يبق منه إلا بقية روح مروّعة من حبها مفزّعة. وفى القطعة جناسات وتصاوير لا نحس فيها بتكلف، بل نحس كأنها جوهر الأبيات ومعانيها. ووراء هذه القطعة قطع وقصائد كثيرة تسيل رقة وخفة وعذوبة، مع مسّها للقلب بما يودعها من كلمات تشيع حتى أيامنا فى اللغة اليومية الدارجة من مثل قوله:

(1) ضنت: بخلت.

ص: 283

تعيش أنت وتبقى

أنا الذى مت عشقا

حاشاك يا نور عينى

تلقى الذى أنا ألقى

ولم أجد بين موتى

وبين هجرك فرقا

يا أنعم الناس بالا

إلى متى فيك أشقى

لم يبق منى إلاّ

بقية ليس تبقى

قد كان ما كان منى

(والله خير وأبقى)

والقطعة تفيض بالسهولة والبساطة والرقة واللطف مع جمال الجرس واتساق الكلمات، ومع ما يداخلها من ألفاظ اللغة اليومية مثل:«مت عشقا» و «يا نور عينى» و «قد كان ما كان منى» وأيضا مع ما يداخلها من الاقتباس القرآنى فى الشطر الأخير.

وكان الشعراء المصريون فى زمنه وقبل زمنه يستظهرون بعض كلمات الحياة العاملة أو اليومية، ولكنه توسع فيها وأكثر منها كثرة مفرطة، وهى كثرة تجعل غزله يمس أوتار القلوب والأفئدة، ومن طريف غزله:

من اليوم تعارفنا

ونطوى ما جرى منّا

ولا كان ولا صار

ولا قلتم ولا قلنا

وإن كان ولا بدّ

من العتب فبالحسنى

فقد قيل لنا عنكم

كما قيل لكم عنّا

وما أحسن أن نرج

ع للوصل كما كنّا

والقطعة كلها من اللغة الدارجة، وقد عرف كيف يلتقط منها هذه الكلمات والعبارات الفصيحة، وكأنها لا تفصل من لغتنا اليومية، بل تفصل من القلوب والأفئدة. والقطعة عتاب ولكنه عتاب مملوء لطفا وظرفا وتسامحا ورقّة ودماثة، ودائما تجرى فى غزله هذه الرقّة الحلوة التى تشبه ماء النيل النمير الصافى والتى تجعل القلوب تتعلق بغزله من مثل قوله:

قصّروا مدة الجفا

طوّل الله عمركم

شرّفونى بزورة

شرّف الله قدركم

قد صبرتم وليتنى

كنت أعطيت صبركم

ص: 284

لو رأيتم محلّكم

من فؤادى لسرّكم

لو وصلتم محبّكم

ما الذى كان ضرّكم

والقطعة خفيفة خفة شديدة، والدعاءان فى البيتين: الأول والثانى من الأدعية المتداولة على ألسنة المصريين فى لغتهم اليومية، وإنه ليتضرع لصاحبته مظهرا لها ما يحتمله من الصبر وجهده.

لعلها تشفق عليه وتخلصه من عذاب الهجر والحرمان. وهو لا يتحرج من إعلان تذلله فى الحب.

بل من إعلان عبادته لمحبوبته، يقول:

سأشكر حبّا زان فيك عبادتى

وإن كان فيه ذلّة وخضوع

أصلّى وعندى للصّبابة رقّة

فكلّ صلاتى فى هواك خشوع

فغزله فيها ليس شعرا فحسب، بل هو أيضا صلاة وتراتيل يقدمها لمن شغفت قلبه حبا، بل عبادة وخشوع ودين، يتعبّد لها كما يتعبد الوثنيون للوثن، ويأسى لنفسه ولهذا الحب الذى فتن به، بل الذى عبث به حتى جعله يعبد محبوبته، يقول:

لى حبيب عبدته

ويح من يعبد الوثن

وكأنه يريد أن يسترجع نفسه من محراب هذا الحب، ولكنه لم يسترجعها أبدا، فقد ظل ينشد تراتيل غزله الوجدانى البديع.

وكان البهاء زهير يعرف فى وضوح ما ينشئ من هذا الغزل الرائع، يدل على ذلك ما رواه الحموى فى خزانته من حوار (1) له مع ابن سعيد الأندلسى حين أطلعه على كتاب المغرب ورأى الأندلسيين يكثرون فى الغزل من أصداف التشبيهات والاستعارات فإنه قال له إن لنا فى الغزل طريقا آخر سماه الطريق الغرامى يقصد هذا الغزل الوجدانى. ثم لقيه مرة أخرى وأنشده:«يابان وادى الأجرع» وقال له: أشتهى أن تكمل هذا المطلع ففكر ابن سعيد قليلا وأنشد: «سقيت غيث الأدمع» فقال البهاء: والله حسن لكن الأقرب إلى الطريق الغرامى أن تقول: «هل ملت من طرب معى» . وفى ذلك ما يدل من بعض الوجوه على إحكام البهاء للغة الغزل الوجدانى ومعانيه فى عصره، وهو ما جعل معاصريه فى الديار الشرقية على شواطئ الفرات وفى دمشق والشام وفى القاهرة ومصر يشغفون بديوانه ويروونه، ويشهد بذلك ابن خلكان إذ يقول عنه:

(1) خزانة الأدب ص 10.

ص: 285