الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباعونية المتوفاة سنة 922 وقد جعلت بديعتها فى مائة وثلاثين بيتا. ويلاحظ أن استخدام الشعراء المصريين طوال هذا العصر للمحسنات لم يسمج ولم يثقل ولم يتحول إلى صور من التكلف المقيت حتى أيام العثمانيين، وكأنما حالت العذوبة التى تنطوى عليها نفوسهم وأمزجتهم والتى تجرى بها مياه النيل فى أرضهم، بين كل ذلك وبين ما استخدموه من محسنات البديع وتلاوينه. وقديما لاحظ ذلك ابن سعيد صاحب كتاب المغرب حين نزل الفسطاط والقاهرة واختلط بشعرائهما، إذ لم يلبث أن أنشد (1):
أيا ساكنى مصر غدا النّيل جاركم
…
فأكسبكم تلك الحلاوة فى الشّعر
وكان بتلك الأرض سحر وما بقى
…
سوى أثر يبدو على النظم والنّثر
وسنذكر نفثات من آثار هذا السحر وما طوى فيه من حلاوة وعذوبة فى تراجم الشعراء لتلك الأزمنة
4 - شعراء المديح
يكتظ الشعر العربى فى مصر بالمديح منذ زمن الولاة المبكر أيام الدولة الأموية، وخاصة فى ولاية عبد العزيز بن مروان إذ كان جوادا ممدّحا، فانتجعه شعراء الحجاز ونجد والعراق، ويظل شعر المديح يجرى على ألسنة الشعراء أيام الدولة العباسية، ويزور أبو نواس مصر لمدح والى الخراج بها: الخصيب، ويضفى عليه مدائح رائعة، ولا يلبث أن يزورها أبو تمام، ويمدح عياش بن لهيعة الحضرمى القائم على الشرطة والخراج كما مر بنا، كما يمدح واليها عبد الله بن طاهر. ومن أهم شعراء مصر حينئذ المعلّى الطائى، وأنشدنا فى غير هذا الموضع بعض مديحه فى عبد الله بن طاهر والى مصر للمأمون. ويظلّها عهد الدولة الطولونية ويتبارى شعراؤها فى مديح أحمد بن طولون.
وأهمهم فى بواكير حكمه لمصر الحسن (2) بن عبد السلام المشهور بلقبه الجمل الأكبر المتوفى سنة 258، وله من قصيدة فى مديحه:
(1) فوات الوفيات 1/ 236
(2)
انظر فى ترجمة الجمل الأكبر معجم الأدباء لياقوت 10/ 121 والمغرب لابن سعيد (قسم الفسطاط) ص 270 والنجوم الزاهرة 3/ 30 وله فى كتاب الولاة والقضاة للكندى أشعار متفرقة.
له يد كم خلّدت من يد
…
سحابة عمّت بأنوائها
انظر إلى مصر بسلطانه
…
تر الهدى فاض بأرجائها
ومن شعراء الطولونيين المريمى (1) القاسم بن يحيى المنسوب إلى جده أبى مريم السلولى أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو شاعر أبى الجيش خمارويه اختصّ به وأسبغ عليه كثيرا من نواله، وفيه يقول:
يقولون لى ما بال رحلك دائما
…
بمصر وإنّى لست عن غيرها أرضى
وكيف رحيلى عن بلاد غدا بها
…
أبو الجيش والنّيل الذى ملأ الأوضا
وتوفى المريمى سنة 316.
وكان الشعراء قد أخذوا يتكاثرون بالفسطاط منذ الدولة الطولونية كما مرّ بنا، واطّرد تكاثرهم فى عهد الدولة الإخشيدية، وفى أيامها بدأ عصر الدول والإمارات الذى نؤرخ له فى هذا الجزء وكان الإخشيد قد ملك مصر والشام وثغور الروم وخطب له بالحجاز واليمن. ولذلك يقول شاعره سعيد (2) بن فاخر من قصيدة يمدحه بها:
يا ملك الشام ومصر إلى
…
أقصى ثغور الروم والشام
واليمن الأبعد لاوال [مل
…
ككم] رفيعا قادرا حامى
ويتوفى الإخشيد سنة 334 بعد أن أوصى لمولاه أبى المسك كافور الحبشى بتدبير الدولة لابنيه:
أو نوجور وعلى، ويتوفى أولهما سنة 349 ويخلفه أخوه على ويتوفى سنة 354 وقيل سنة 355.
ويستقلّ كافور بالملك حتى وفاته سنة 357 وكان ساعده الأيمن فى حكمه وزيره جعفر بن الفرات المعروف باسم ابن حنزابة. وكان كافور ممدّحا، فقصده الشعراء من كل فجّ وفى مقدمتهم كشاجم شاعر الشام، والمتنبى إمام الشعراء لزمنه وبعد زمنه وكان أول ما أنشده يائيته، وفيها يقول:
(1) راجع فى المريمى المغرب (قسم الفسطاط) ص 136، 271 وانظر أشعارا متفرقة له فى الولاة والقضاة للكندى فى أخبار خمارويه وفى مقالات عنه بمجلة المجلة: العدد 142 وبمجلة الكتاب العراقية سنة 1974 فى عددى آب وتشرين الثانى
(2)
انظر سعيدا (قاضى البقر) فى المغرب (قسم الفسطاط) ص 197 و 272 ولعله هو نفسه سعيد القاص المذكور فى النجوم الزاهرة 3/ 141 بين من رثوا الدولة الطولونية
قواصد كافور توارك غيره
…
ومن قصد البحر استقلّ السّواقيا
وغير كثير أن يزورك راجل
…
فيرجع ملكا للعراقين واليا
وظل المتنبى نحو أربع سنوات ينتظر أن يولّيه كافور على بعض بلدان الشام التابعة لمصر. حتى إذا نفد صبره ارتحل إلى العراق بليل وهجاه هجاء مرا.
وتستقبل مصر سريعا عهد الدولة الفاطمية، إذ ينزلها جوهر الصقلى ويؤسس بها القاهرة ومسجدها العظيم الأزهر ويتبعه المعز الخليفة الفاطمى، وتصبح القاهرة حاضرة لدولته الضخمة ودولة أبنائه وأحفاده من بعده ولا يلبث المعز أن يتوفى سنة 365 ويخلفه ابنه العزيز (365 - 386 هـ) ويتخذ يعقوب بن كلّس وزيرا له، وكانا يجزلان العطاء للشعراء، مما جعل ألسنتهم تلهج بمديحهما، على شاكلة قول عبيد الله بن أبى الجوع فى إحدى مدائحه (1):
لولا العزيز وآراء الوزير معا
…
تحيّفتنا خطوب تشعب الأمما
ولتميم بن المعز فى أبيه وأخيه العزيز مدائح طنانة، ونزل القاهرة فى عهد المعز أبو الرّقعمق الأنطاكى: أحمد بن محمد، وأقام بها زمانا طويلا حتى توفى سنة 399 ويقول ابن خلكان:
«معظم شعره فى ملوك مصر ورؤسائها: مدح بها المعز وولده العزيز والحاكم بن العزيز والقائد جوهرا والوزير يعقوب بن كلّس وغيرهم من أعيانها» (2) وينشد له قصيدة فى مديح ابن كلس.
وكان محمد بن القاسم بن عاصم الملقب بصنّاجة الدوح شاعر الحاكم، وأنشده فى زلزلة حدثت بمصر من قصيدة فى مديحه (3):
بالحاكم العدل أضحى الدين معتليا
…
نجل العلا وسليل السادة الصّلحا
ما زلزلت مصر من كيد يراد بها
…
لكنها رقصت من عدله فرحا
ويلى الحاكم ابنه الظاهر، وينزل مصر فى أول عهده صريع (4) الدلاء البغدادى، ويمدحه
(1) راجع خطط المقريزى 2/ 296 وانظر فى ابن أبى الجوع اليتيمة 1/ 395 ومر بنا حديث عنه. تشعب: تفرّق وتفسد.
(2)
ابن خلكان 1/ 131 وما بعدها وانظر فى أبى الرقعمق اليتيمة 1/ 326 والعبر 3/ 70 والشذرات 3/ 155.
(3)
المغرب (قسم القاهرة) ص 328 وانظر فى صناجة الدوح حسن المحاضرة 1/ 562
(4)
انظر صريع الدلاء فى تتمة اليتيمة 1/ 14 وفى ابن خلكان 3/ 383 والعبر 3/ 110 والشذرات 3/ 197
ويخلفه المستنصر (427 - 487.) ويعتلى الوزارة بدر الحمالى سنة 468 ويصبح الأمر والسلطان منذ هذا التاريخ بيد الوزراء. ويخلفه على الوزارة ابنه الأفضل (487 - 515 هـ). وكان شاعرا كما كان ممدحا، فبعث نهضة قوية فى الشعر، وصفها-كما مر بنا-أمية بن أبى الصلت فى رسالته المصرية، معددا فيها أسماء الشعراء فى زمنه ممن مدحوه وهجوه جميعا، ومن كبار مدّاحه ظافر الحداد وسنترجم له بين شعراء التشيع، وحسن بن زيد الأنصارى وسنترجم له بين الكتاب، وله فيه مدائح رائعة من مثل قوله (1).
أيامك الغرّ مصقول عوارضها
…
كأن آصالها من رقّة بكر
أخملت ذكر ملوك كنت خاتمهم
…
وأنجم الليل فى الإصباح تستتر
بعض الورى أنت لكن فقتهم شرفا
…
إن الحجارة منها الدرّ والمدر
تخال راحته والمشرفىّ بها
…
سحابة ظلّ فيها البرق يستعر
ولفظه جزل متين وصوره بديعة، مما يدل على شاعرية خصبة. ويلقانا بأخرة من الدولة الفاطمية الوزير طلائع بن رزّيك، وكان مثل الأفضل الجمالى راعيا لكثير من الشعراء مثل ابن قادوس والقاضى الجليس والمهذب بن الزبير وأخيه الرشيد. وتزخر الخريدة وكتب الأدب بمدائحهم لطلائع.
وكانت هناك مواسم كثيرة فى زمن الدولة الفاطمية يقدم فيها الشعراء مدائحهم للخلفاء. فى مقدمتها الأعياد وموالد الرسول صلى الله عليه وسلم والإمام على بن أبى طالب والسيدة فاطمة الزهراء وابنيهما الحسن والحسين والخليفة الذى بيده صولجان الحكم وعيد الغدير ويوم عاشوراء وليالى رمضان وأول رجب وأول شعبان وأول السنة وأعياد النصارى وليلة الغطاس وليلة النّيروز ووفاء النيل وما يقترن به من فتح الخليج. وفى كل هذه الأعياد وما يماثلها كانت تقام احتفالات ضخمة، وكان الشعراء يهنئون بها الخلفاء، وكل يحاول أن يكون له قصب السبق على أقرانه.
ويصور لنا ذلك المقريزى من بعض الوجوه فى احتفال بوفاء النيل سنة 517 لعهد الآمر (495 - 524 هـ). إذ يذكر بعض الأشعار التى أنشدت وما كان يصحبها من نقد يبديه بعض لمستمعين، من ذلك (2) أن ابن جبر أنشد فى هذا الاحتفال مدحة استهلّها بقوله:
(1) الخريدة للعماد الأصبهانى (قسم شعراء مصر) 2/ 71.
(2)
خطط المقريزى 2/ 253.
فتح الخليج فسال منه الماء
…
وعلت عليه الراية البيضاء
فصفت موارده لنا فكأنه
…
كفّ الإمام فعرفها الإعطاء
فانتقد عليه الناس قوله: «فسال منه الماء» قالوا أى شئ يخرج من النهر غير الماء. وبذلك ضيّعوا عليه ما قاله بعد هذا المطلع. وأنشد شاعر مدحة افتتحها بقوله:
لمن اجتماع الخلق فى ذا المشهد
…
للنّيل أم لك يابن بنت محمّد
فهلّل الناس لمطلعه، فأمر له الخليفة الآمر على الفور بخمسين دينارا وخلع عليه وزيد فى جاريه. ومرّ بنا حديث المنظرة التى بناها الآمر للشعراء ببركة الحبش ورفوفها وما كان عليها من صرر للشعراء وفى كل صرّة خمسون دينارا جزاء وفاقا لمديحهم، وكأن ذلك كان مكافأة معلومة لهم. ويخلفه الحافظ (524 - 544 هـ) ويبدو أن الشعراء كانوا يتمادون أيامه فى تطويل مدائحهم، فأمرهم أن يختصروها مما جعل أبا العباس أحمد بن مفرّج ينشده فى إحدى مدائحه (1):
أمرتنا أن نصوغ المدح مختصرا
…
لم لا أمرت ندى كفّيك يحتصر
والله لا بدّ أن نجرى سوابقنا
…
حتى يبين لها فى مدحك الأقر
فأمر الآمر بالعود إلى ما كانوا عليه.
وكان الصليبيون قد استولوا على بيت المقدس منذ أواخر القرن الخامس، وأسسوا به مملكة وأضافوا إليها مملكة فى طرابلس وثالثة فى أنطاكية ورابعة فى الرّها، وبلغت مصر حينئذ من الضعف مبلغا بعيدا لم تستطع خلاله أن تقاومهم إلا بعض تجريدات عسكرية وخاصة فى عهد وزيرها طلائع بن رزّيك، تجريدات لم تغن عنها شيئا. وبينما اليأس يخيم على الناس إذا بعماد الدين زنكى يخلّص الرّها من أيديهم، ويقضى على مملكتهم فيها قضاء مبرما، ويتابع جهاده ابنه نور الدين، ويستغيث به شاور فى مصر ضد ضرغام فيرسل إليه أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين، وتتطور الظروف سريعا، فينهى صلاح الدين حكم الفاطميين لمصر، ويقبض على صولجان الحكم. ويتوفّى نور الدين، فيضم الشام تحت لوائه، ويأخذ فى الانقضاض على الصليبيين، وكلما التقى بهم دمّر جموعهم تدميرا، حتى كانت الموقعة الفاصلة: موقعة حطّين التى
(1) الخريدة (قسم شعراء مصر) 2/ 64.
استولى فيها المسلمون على الصليب الأعظم: صليب الصّلبوت، وأسروا قواد الصليبيين وزعماءهم ومزقوا جموعهم شر ممزق. ويقول المؤرخون إنهم أكثروا منهم فى القتل والأسر حتى كان من يشاهد القتلى يظن أنه ليس وراءهم أسرى وكان من يشاهد الأسرى يظن أنه ليس وراءهم قتلى، ويقولون إنه بلغ من كثرة الأسرى أن كان الأسير منهم يباع فى أسواق الرقيق بثلاثة دنانير، وفى هذا النصر العظيم أنشد العماد الأصبهانى صلاح الدين مدحة رائعة يقول فيها (1):
حططت على حطّين قدر ملوكهم
…
ولم تبق من أجناس كفرهم جنسا
بطون ذئاب الأرض صارت قبورهم
…
ولم ترض أرض أن تكون لهم رمسا (2)
سبايا بلاد الله مملوءة بها
…
وقد شريت بحسا وقد عرضت نحسا (3)
يطاف بها الأسواق لا راغب لها
…
لكثرتها كم كثرة توجب الوكسا (4)
وفتحت لصلاح الدين بعد هذه المعركة أبواب مدن كثيرة فى فلسطين ولبنان مثل نابلس وبيت جبريل (بير سبع) وقيسارية وحيفا وصيداء وبيروت. وتغنى الشعراء فى مصر والشام والعراق بهذا النصر المبين. وسرعان ما تلاه صلاح الدين بفتح بيت المقدس، وعمّ الفرح بهذا الفتح جميع البقاع الإسلامية، وتغنّى به الشعراء طويلا من مثل قول محمد بن أسعد نقيب الأشراف بمصر (5):
أترى مناما ما بعينى أبصر
…
القدس يفتح والفرنجة تكسر
قد جاء نصر الله والفتح الذى
…
وعد الرسول فسبّحوا واستغفروا
فتح الشّام وطهّر القدس الذى
…
هو فى القيامة للأنام المحشر
وكان هذا تحولا واسعا فى قصيدة المديح المصرية، فإنها لم تعد-كما كانت أيام الفاطميين- قصيدة تنشد فى الأعياد والاحتفالات الرسمية: قصيدة مناسبات، بل أصبحت قصيدة أمجاد حربية مظفرة. وتنبّه لذلك أبو شامة فى الروضتين فأتبع المواقع الحربية بما نظم فيها من مدائح تصور البطولة العربية تصويرا يملأ نفس كل عربى بالفتوة والقوة والمضاء ويدفعه دفعا إلى أن يكيل لأعداء العروبة والإسلام ضربات قاصمة.
(1) الروضتين لأبى شامة 2/ 83.
(2)
رمسا: قبرا.
(3)
نخسا: من النخاسة وهى بيع الرقيق.
(4)
الوكس: البيع بالخسارة.
(5)
الروضتين 2/ 105.
ولا يكثر المديح الحماسى لصلاح الدين فحسب، بل يكثر أيضا لقواده من إخوته، وخاصة أخاه العادل، وفيه يقول القاضى الفاضل من قصيدة بديعة (1):
أهذى كفّه أم غيث غوث
…
ولا بلغ السحاب ولا كرامه
وهذا بشره أم لمع برق
…
ومن للبرق فينا بالإقامه
وهذا الجيش أم صرف الليالى
…
ولا سبقت حوادثها زحامه
وهذا الدهر أم عبد لديه
…
يصرّف عن عزيمته زمامه
وهذا التّرب أم خدّ لثمنا
…
فآثار الشفاه عليه شامه
ويعرف هذا الأسلوب فى البديع باسم تجاهل العارف مبالغة فى المديح، فالقاضى الفاضل لا يدرى أكرم ما يصيبه هو وأمثاله من العادل أم غيث سحاب منهمر، بل إن السحاب دون كرمه الفياض. ولا يدرى أبشر وجهه الذى يتلألأ أم البرق؟ غير أن البرق يعرض ويزول أما هو فمقيم لا يريم. وأيضا لا يدرى ما يقوده إلى النصر جيش أم هو صرف الليالى، بل إن الدهر عبد لديه يصدع بأمره ومشيئته، ويعجب لما يسير عليه وكأنه يسير على خدود يرى عليها آثار الشفاه التى تقبل الأرض من دونه، لكثرة الحشود المزدحمة على تقبيلها، وكأنها نفس الشامة التى نراها على الخدود.
ويظل جهاد الصليبيين الموضوع الأهم فى مدائح السلاطين الأيوبيين حتى إذا كانت سنة 615 غزا حملة الصليب دمياط لعهد السلطان الكامل، وظلوا بها نحو ثلاث سنوات، وحدّثتهم أنفسهم أن يتقدّموا إلى الجنوب نحو المنصورة واستنفر السلطان الكامل أخويه المعظم عيسى صاحب دمشق والشام والأشرف موسى صاحب الولايات الشرقية حتى الفرات. وتجمعت جيوشهم وأنزلت بحملة الصليب هزائم ساحقة ولّوا على إثرها فارين إلى البحر المتوسط وما وراءه.
وتغنّى البهاء زهير بهذا النصر المجيد فى مدحة أنشدها السلطان الكامل وفيها يقول (2):
بك اهترّ عطف الدّين فى حلل النّصر
…
وردّت على أعقابها ملّة الكفر
وما فرحت مصر بذلك وحدها
…
لقد فرحت بغداد أكثر من مصر
فمن مبلغ هذا الهناء لمكّة
…
ويترب ينهيه إلى صاحب القبر
(1) خزانة الأدب للحموى (طبع مطبعة بولاق) ص 155.
(2)
البهاء زهير للشيخ مصطفى عبد الرزاق (طبعة سنة 1354 هـ) ص 65
والبهاء زهير يصوّر تهلل الدين الحنيف باندحار الصليبيين وأن الفرحة بالنصر الباهر لم تعم مصر وحدها بل عمت أيضا بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وإنه لحرىّ أن تهنّأ به منازل الوحى فى مكة والمدينة وأن يهنّأ به الرسول فى جدثه الطاهر. وكأنما كان هذا النصر درسا ظل حملة الصليب يذكرونه نحو ثلاثين عاما، حتى كانت سنة 647 إذ تجمّعوا بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، ونزلوا دمياط واتجهوا نحو المنصورة، غير أن المصريين بقيادة توران شاه آخر السلاطين الأيوبيين عصفوا بهم سنة 648 وسحقوهم سحقا ذريعا، وأخذ لويس التاسع أسيرا وسجن بدار ابن لقمان كاتب الإنشاء وكان يحرسه الطواشى صبيح. وأذعن لشروط الصلح التى فرضها توران شاه وخرج من مصر مع فلول حملته خاسئا مدحورا. وتتطور الظروف سريعا، فيقتل توران شاه وتخلفه شجرة الدر فالسلطان أيبك. ولعل التتابع السريع لهذه الأحداث هو الذى عقد ألسنة الشعراء فلم يتغنّوا ببطولة توران شاه وجيشه الباسل وما أذاق حملة الصليب من نكال شديد.
وتظلّ مصر وشعراءها دولة المماليك، وما توافى سنة 657 حتى تكتسح سيول التتار الشام وتهبط إلى الجنوب فى فلسطين ويلتقى بها جيش المماليك فيكبح جماحها فى عين جالوت، ويردها قطز والظاهر بيبرس إلى غير مآب. ويصبح بيبرس سريعا سلطان مصر سنة 658 وكان عالى الهمة بعيد النظر، فأعاد الخلافة العباسية فى القاهرة، وبذلك أصبحت مصر حامية الخلافة والإسلام.
وعصره يعد العصر الذهبى فى زمن المماليك، وقد صورناه من بعض الوجوه وصورنا فتوحاته وحروبه المستمرة مع الصليبيين والتتار، وكيف قوّض للأولين مملكتهم فى أنطاكية، وما كان من تعقّبه الدائم للتتار فى الموصل. وسمع يوما بجموع لهم على الشاطى الشرقى للفرات، فخاضه إليهم وخاضه الجيش معه فقتل منهم مقتلة عظيمة ولم ينج منهم إلا القليل، وفى ذلك يقول ناصر الدين حسن بن النقيب الكنانى-وكان حاضر الواقعة-من قصيدة طويلة (1):
ولما ترامينا الفرات بخيلنا
…
سكرناه منا بالقوى والقوائم (2)
فأوقفت التيّار عن جريانه
…
إلى حيث عدنا بالغنى والغنائم
وكان الشعراء ينثرون على بيبرس قصائدهم فى كل معركة وكل نصر مظفر على التتار والصليبيين وفى أرمينيه وآسية الصغرى، وبالمثل حين كان ينشئ المدارس والمساجد، وفى مدرسة الظاهرية
(1) النجوم الزاهرة 7/ 160
(2)
سكرناه: سددناه
يقول السّراج الورّاق من مدحة بديعة (1):
وشيّدها للعلم مدرسة غدا
…
عراق إليها شيّق وشآم
ولا تذكرن يوما نظاميّة لها
…
فليس يضاهى ذا النظام نظام
فهى فى رأى الوراق تفوق المدرسة النظامية التى أنشأها نظام الملك فى بغداد.
ولا يلبث أن يتولى مقاليد الحكم بعد بيبرس السلطان قلاوون (678 - 689 هـ). ومرّ بنا بناؤه لمارستان ضخم وإلحاقه به مدرسته المنصورية، وفى ذلك يقول معين الدين عثمان بن سعيد بن تولو التنيسى المصرى مستهلا قصيدة فى مديحه بقوله (2):
أنشأت مدرسة ومارستانا
…
لتصحّح الأديان والأبدانا
ونازل قلاوون الصليبيين مرارا، واستولى منهم على بعض الحصون. وخلفه ابنه السلطان خليل (689 - 693) وكان بطلا مغوارا فافتتح أيامه بجهاد حملة الصليب واستطاع فى أقل من ثلاث سنوات أن يستخلص منهم عكا وصور وصيدا وبيروت وجميع سواحل الشام، فلم تبق لهم بلد ولا قلعة، ومن بقى منهم ولّى على وجهه إلى البحر المتوسط وما وراءه، وكان الشعراء ما ينون يهنئون السلطان خليل بفتوحه، ولبدر الدين المنبجى التاجر بالقاهرة قصيدة طويلة فى تهنئته بانتصاراته المجيدة أولها:
بلغت فى الملك أقصى غاية الأمل
…
وفتّ شأو ملوك الأعصر الأول
ونظم كثيرون من معاصريه قصائد وأشعارا مماثلة من ذلك قول البوصيرى شاعر المدائح النبوية المشهور (3):
قد أخذ المسلمون عكّا
…
وأشبعوا الكافرين صكّا
وساق سلطاننا إليهم
…
خيلا تدكّ الجبال دكّا
وحقا أشبعوهم صكا وقتلا ودفعا إلى البحر المتوسط فى غير رجعة ولا مآب، فقد سقطت عكا آخر حصونهم، بل لقد دمرتها مجانيق المصريين وحرقتها نيرانهم، وفى ذلك يقول أحمد
(1) الخطط للمقريزى 3/ 341
(2)
النجوم الزاهرة 7/ 327.
(3)
ديوان البوصيرى (طبع مطبعة مصطفى الحلبى) ص 231.
ابن عبد الدائم الشّار مساحى (1):
لا تعجبوا للمجانيق التى رشقت
…
عكّا بنار وهدّثها بأحجار
بل اعجبوا للسان النار قائلة
…
هذى منازل أهل النار فى النار
وتتوقف حركة الفتوح، فلم يعد فى الشام صليبيون، ويتحول شعر المديح إلى شعر مناسبات فى الأعياد، وحين يستولى سلطان على مقاليد الحكم، وخاصة إذا قرب من نفوس الشعب مثل السلطان الأشرف شعبان (765 - 778 هـ.). وكان قد استولى على صولجان السلطنة فى ربيع الثانى فقال ابن نباتة:
طلعة سلطاننا تبدّت
…
بكامل السّعد فى الطلوع
فاعجب لهاتيك كيف أبدت
…
هلال شعبان فى ربيع
وكانت أيام حكمه أيام أمن ورخاء وازدهار للآداب والفنون، وفيه يقول شهاب الدين أحمد بن العطار (2):
للملك الأشرف المنصور سيّدنا
…
مناقب بعضها يبدو به العجب
له خلائق بيض لا يغيّرها
…
صرف الزمان كما لا يصدأ الذهب
وللعطار أشعار كثيرة فى أحداث زمنه أنشد منها ابن تغرى بردى طائفة فى الجزء الحادى عشر من كتابه النجوم الزاهرة. ولما تولى مقاليد السلطنة الظاهر برقوق يوم الأربعاء التاسع عشر من رمضان سنة 784 مدحه بقوله من قصيدة:
ظهور يوم الأربعاء ابتدا
…
بالظاهر المعتزّ بالقاهر
والبشر قد تمّ وكل امرئ
…
منشرح الباطن بالظاهر
وربما كان أهم حدث يلقانا بعد ذلك فتح السلطان الأشرف برسباى لجزيرة قبرص إذ كانت موثلا لكثير من القراصنة الذين كانوا يعيثون فسادا فى البحر المتوسط وما يحمل من سفن تجارة للمصريين، كما كانوا يعيثون فسادا فى شواطى مصر والشام، وأرسل إليها برسباى حملات ثلاثا انتهت بالاستيلاء عليها سنة 829 وتغنى الشعراء بهذا النصر المجيد فى عدة قصائد، من ذلك
(1) فوات الوفيات 1/ 86.
(2)
النجوم الزاهرة 11/ 83.
قصيدة زين الدين عبد الرحمن بن الخرّاط أحد كتاب الدّست، وفيها يقول (1):
بشراك يا ملك المليك الأشرف
…
بفتوح قبرس بالحسام المشرفى (2)
فتح تفتّحت السموات العلا
…
من أجله بالنّصر واللّطف الحفى
ولا نعود نسمع عن انتصارات حربية مجيدة أيام المماليك، ويصبح المديح مديح مناسبات للسلاطين فى توليهم مقاليد الأمور وفى الأعياد.
ويظلّ مصر عهد العثمانيين وفيه يقدم الشعراء مدائحهم للولاة ونوابهم وكبار الموظفين فى زمنهم ويكتظ تاريخ الجبرتى وغيره بأشعارهم على نحو ما يلقانا فى مديح الوالى العثمانى رضوان كتخدا المتوفى سنة 1168 وكان قد بنى لنفسه عدة قصور وعاش للهو، وقصدته الشعراء ومدحوه بالقصائد والأراجيز والموشحات والمقامات وأعطاهم الجوائز السنية. واتخذ له جلساء وندماء منهم عبد الله الإدكاوى، وقد صنف فى مدائحه كتابا سماه «الفوائح الجنانية فى المدائح الرضوانية» ومن كبار مداحه مصطفى اللقيمى الدمياطى، وله مقامة طويلة ضمنها أشعارا كثيرة فى مديحه، وله فيه مزدوجة فريدة، يقول فيها (3):
مليك سعد قد سما فى عصره
…
مؤيّد معظّم فى مصره
معزّز كيوسف فى قصره
…
عليه منشور لواء نصره
ومن مداح رضوان قاسم (4) بن عطاء الله، وله فيه مزدوجة بديعة ومدائح كثيرة، وله أيضا فيه توشيح عارض به الموشح المشهور للسان الدين الخطيب، وفيه يقول:
كفّه الغيث على الناس هما
…
فأعاد الخصب بعد اليبس
أصبح الدهر به مبتسما
…
وهو فى فيه محلّ اللّعس
ويكثر مدح الشعراء لعلماء الأزهر الأجلاء، ويلقانا ابن الصلاحى (5) السيوطى كلفا بأستاذه الشمس الحفنى، وله فيه مدائح كثيرة على شاكلة قوله:
(1) النجوم الزاهرة 14/ 296.
(2)
المشرفى: نسبة إلى مشارف الشام أو اليمن، والسيوف المشرفية: سيوف حادة قاطعة.
(3)
الجبرتى 1/ 232.
(4)
الجبرتى 1/ 193 وما بعدها وانظر ترجمة قاسم فى 2/ 184.
(5)
الجبرتى 1/ 265 وما بعدها