المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ابن سودون - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٧

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - فتح العرب لمصر والحقب الأولى

- ‌(ا) فتح العرب لمصر

- ‌(ب) زمن الولاة

- ‌(ج) الطولونيون

- ‌(د) الإخشيديون

- ‌2 - الفاطميون-الأيوبيون

- ‌(ا) الفاطميون

- ‌3 - المماليك-العثمانيون

- ‌(ا) المماليك

- ‌(ب) العثمانيون

- ‌4 - المجتمع

- ‌الفصل الثانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علم الجغرافيا

- ‌(ا) علوم الأوائل

- ‌(ب) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب مصر

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعر دورى ورباعيات وموشحات وبديعيات

- ‌(ا) الشعر الدورى

- ‌(ب) الرباعيات

- ‌(ج) الموشحات

- ‌ العزازى

- ‌ابن الوكيل

- ‌(د) البديعيات

- ‌4 - شعراء المديح

- ‌«المهذب بن الزبير

- ‌ابن قلاقس

- ‌ ابن سناء الملك

- ‌ابن نباتة

- ‌5 - شعراء المراثى والشكوى

- ‌على بن النّضر

- ‌على بن عرّام

- ‌6 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن هانئ

- ‌ظافر الحداد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن النبيه

- ‌ البهاء زهير

- ‌ ابن مطروح

- ‌2 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ تميم بن المعز

- ‌ ابن الذروى

- ‌ أحمد بن عبد الدائم

- ‌ حسن البدرى الحجازى الأزهرى

- ‌3 - شعراء الطبيعة ومجالس اللهو

- ‌ الشريف العقيلى

- ‌ ابن قادوس

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن الكيزانى

- ‌ ابن الفارض

- ‌البوصيرىّ

- ‌5 - شعراء الفكاهة

- ‌ ابن مكنسة

- ‌الجزّار

- ‌ السراج الوراق

- ‌ ابن دانيال

- ‌ عامر الأنبوطى

- ‌6 - شعراء شعبيون

- ‌الغبارى

- ‌ ابن سودون

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ ابن الصيرفى

- ‌ القاضى الفاضل

- ‌ محيى الدين بن عبد الظاهر

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌ ابن أبى الشخباء

- ‌ ابن مماتى

- ‌3 - المقامات

- ‌ ابن أبى حجلة

- ‌القلقشندى

- ‌السيوطى

- ‌ الشهاب الخفاجى

- ‌4 - المواعظ والابتهالات

- ‌أبو الحسن الشاذلى

- ‌5 - كتب النوادر والسير والقصص الشعبية

- ‌(ا) كتب النوادر

- ‌كتاب المكافأة

- ‌أخبار سيبويه المصرى

- ‌كتاب الفاشوش فى حكم قراقوش

- ‌«هز القحوف»

- ‌(ب) كتب السير والقصص الشعبية

- ‌ سيرة عنترة

- ‌ السيرة الهلالية

- ‌سيرة الظاهر بيبرس

- ‌سيرة سيف بن ذى يزن

- ‌ ألف ليلة وليلة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ابن سودون

ابن (1) سودون

هو على بن سودون أكبر شخصية شعبية فكهة فى القرن التاسع الهجرى عنى فى بواكير حياته بحفظ القرآن الكريم وتحصيل العلوم والمعارف حتى أصبح شيخا فقيها، وعيّن إماما بأحد المساجد فى القاهرة، وكان فيه ميل متأصل إلى الفكاهة والهزل وقدرة على نظم الأشعار الهازلة الفكهة، فشغف الناس به، وتنافسوا فى رواية أشعاره ودعاباته. ولم يلبث أن عنى بجمعها وأضاف إليها بعض حكايات فكهة مكونا من ذلك كتابه أو ديوانه:«نزهة النفوس ومضحك العبوس» وجعله فى خمسة أبواب: الباب الأول فى القصائد والتصاديق، ويقصد بالتصاديق مقدماتها وهى قصائد نظمت بالفصحى، والباب الثانى فى الحكايات الملافيق وواضح من اسمه أنه أقاصيص قصيرة، والباب الثالث فى الموشحات الهبالية كما يقول وهى بالعامية ومثل هذا الباب باب الزجل والمواليا التالى فهو أيضا عامى اللغة. أما الباب الخامس فجعله للطرف العجيبة والتحف الغريبة، وكأن البابين الثالث والرابع هما الخاصان بالشعر الشعبى العامى وإن كانت العامية عنده تتسرب إلى الباب الأول: باب القصائد، ومن الطريف أن عاميته شعرا ونثرا تقترب جدا من عاميتنا الحديثة، وقد يكون فى ذلك ما يشير إلى أن مصر بلد محافظ. وبدون ريب يصور‌

‌ ابن سودون

فى كتابه مزاج المصريين الفكه. وفكاهته تقوم على ضروب من المفارقة المنطقية.

تجعلك تشعر بغير قليل من فقدان التوازن على شاكلة قوله فى وصف الربيع وجمال طبيعته:

إلى الربيع أرى الأهواء تلوينى

لما بدا زهره فى حسن تلوين

قد عطّر الأرض نشر الفول حين سرت

نسيمة سحرا منه تحيّينى

كأن زهرته أمّ الخلول إذا

فلقتها فوق نعناع بصحنون

وكاد يشبه تاج القمح بامية

لولا شعور كأعراف البراذين (2)

واعجب من الماء وسط البحر كيف غدا

يمشى بلا قدم سحبا على الطّين

مسلسلا قد جرى يا صاح منطلقا

فاعجب لمن جمع الضّدّين فى حين

(1) انظر فى ابن سودون شذرات الذهب 7/ 307 ومقالين لنا فى تحليل ديوانه بمجلة الكاتب العددين رقم 10، 12 وراجع كتابنا الفكاهة فى مصر ص 67 وديوان نزهة النفوس ومضحك العبوس مطبوع فى القرن الماضى وطبع حديثا.

(2)

البراذين: جمع برذون وهو البغل.

ص: 396

ومن يراه يتحدث عن الربيع والزهر فى البيت الأول يظن أنه سيستمر فى الحديث عن الجمال الهاجع فى الطبيعة وأزهارها وورودها ورياحينها، وإذا هو يسقط به إلى النشر الفائح من نبات الفول وإلى زهره الذى يشبه صدفة أم الخلول التى يطعمها المصريون واضعين على الخلول النعناع والبهارات. أما القمح فتشبه سنابله البامية: الخضار المعروف، لولا ما يتدلّى من سنابله من شعور كأعراف البغال والخيل. ويعجب عجبا لاحد له من جريان الماء على الطين، ويسمى الماء مسلسلا إذا جرى منحدرا. ويستغل الكلمة ابن سودون إذ لها هذا المعنى ومعنى ثان من السلسلة بمعنى مقيدا بالسلاسل.

ونحن فى أثناء ذلك كله نضحك، لما أصاب توازننا المنطقى من اختلال، وكأنما الأشياء تهوى أمامنا من حالق. ومن ذلك قوله.

عجب عجب هذا عجب

بقرا تمشى ولها ذنب

ولها فى بزيّزها لبن

يبدو للناس إذا حلبوا

من أعجب ما فى مصر يرى ال

كرم يرى فيه العنب

والنّخل يرى فيه بلح

أيضا ويرى فيه رطب

والمركب مع ما قد وسقت

فى البحر بحبل تنسحب

والناقة لا منقار لها

والوزّة ليس لها قتب

وحين نقرأ قوله عجب، نظن أنه سيعرض علينا بعض العجائب فإذا هو يعرض بديهيات غاية فى البداهة، فى صورة مغرقة من التباله. ونحس كأن عدوانا أصاب منطقنا أو وقع عليه، فالبقرة تمشى ولها ذنب وضرع مملوء لبنا، وشجر الكرم يحمل العنب، وعلى النخل البلح بسرا ورطبا، والملاحون يجرّون بحبالهم المركب الموسوق، والناقة لا منقار لها وكأنه كان يظنها بجسمها الضخم من الطير. ويظن الإوزة من الإبل تمشى على أربع، ويتساءل عن قتبها أو رحلها. وكل هذه مفارقات تعتدى على منطقنا فنفقد توازننا ونستغرق فى الضحك لهذا الهزل الذى يلغى فيه المنطق السديد إلغاء.

ومن طريف هزل ابن سودون ومفارقاته المنطقية المتناهية فى الإضحاك. وصفه لحفل زواجه وقبح زوجته على هذا النمط:

حلّ السرور بهذا العقد مبتدرا

ونجم طالعه بالسّعد قد ظهرا

ص: 397

و «الفلّ» كلّل وجه الأرض فانعطفت

أغصانه بالتهانى تنثر الزّهرا

والطير من فرحها فى دوحها صدحت

بكل عود عليه لا ترى وترا

تقول فى صدحها: دام الهنا أبدا

على العرايس كى يقضوا به الوطرا

هذا وعقل عروسى كان أصغر من

عقلى ولكن حوت فى عمرها كبرا

فى السنّ قد طعنت ما ضرّ لو طعنت

بالسّنّ من رمح اوسيف إذا بترا

فى وجهها نمش فى أذنها طرش

فى عينها عمش للجفن قد سترا

يا حسن قامتها العوجا إذا خطرت

يوما وقد سبسبت فى جيدها شعرا

تظلّ تهتف بى: حسنا حظيت بها

أوّاه لو حاسها موت لها قبرا

وهو فى أوائل الأبيات يجعل السعد رفيقا له كما يجعل الطبيعة ترقص طربا لزفافه على عروسه، فالأشجار تنثر أزهارها فرحا والطير تصدح على أعوادها داعية للعروسين بدوام الهنا أبدا. ونفاجأ بعد ذلك بمفارقة منطقية شديدة، فالعروس عجوز شمطاء صمّاء فى وجهها نمش وفى عينيها عمش وقد حنى قامتها الهرم. ومع كل هذا القبح تظل تهتف به أن يحمد الله على حظوته بها، ويتمنى لوطعنت بسيف أو حازها الموت ودفنت فى التراب إلى غير مآب.

وعلى نحو هزل ابن سودون فى تصويره لحفل قرانه نراه يهزل فى رثائه لأمه هزلا، يبعث على الابتسام بل على الضحك والإغراق فيه، يقول:

لموت أمىّ أرى الأحزان تحنينى

فطالما لحستنى لحس تحنين

وطالما دلّعتنى حال تربيتى

خوفا على خاطرى كى لا تبكّينى

أقول: «مم مم» تجى بالأكل تطعمنى

أقول: «أمبو» تجى بالماء تسقينى

إن صحت فى ليلة «وأوأ» لأسهرها

تقول «هوهو» بهزّ كى تننّينى

كم كحّلتنى ولى فى جبهتى جعلت

«صوصو بنيلى» وكم كانت تحنيّنى

ومن فقيهى إن أهرب ورام أبى

مسكى وبعثى له كانت تخبيّنى

وزغردت فى طهورى فرحة وغدت

تنثّر الملح من فوقى وترقينى

وخلّفتنى يتيما ابن أربعة

وأربعين سنينا فى حسابينى

والمرثية طويلة اقتصرنا منها على هذه الأبيات وكلها على هذا النحو عدوان على ما نألف فى الرثاء عامة، إذ بدلا من أن يحمل كل بيت صرخة ألم أو دمعة حزن تتحول المرثية كلها هزلا

ص: 398

ودعابة. وكأنما ينظمها فى عيد من أعياد أمه فهو يذكّرها بأيام طفولته وكيف كان يقول لها «مم» فتأتى له بالطعام «وأمبو» فتأتى له بالماء، وكيف كان يبكى على صدرها وهى تهزه فى حنان، كما يذكّرها بأيام صباه، وكيف كانت تدلّى من شعره تعويذة على جبهته، وكيف كانت تخبئه حين يهرب من الكتّاب. ويذكّرها بيوم ختانه وزغار يدها فيه وكيف كانت تنثر فوقه الملح بركة، وترقيه من شر كل ما يؤذيه. وكل هذه مفارقة شديدة للرثاء وموقف الموت الوقور الحزين، فإذا ابن سودون يهزل فنضحك ونتمادى معه فى الضحك. وقد جاء فى المرثية ببعض كلمات الأطفال، وهو يكثر من لغتهم فى هزله كقوله:

ولما أن كبرت بحمد ربّى

وصار لمنتهى عقلى ابتداء

بقيت أقول: ننّو تتّو تاته

ودحّو كخ وأمبو ممّ آء

والكلمات كلها من لغة الأطفال قبل نطقهم بالكلام، ومعنى كلمة دح فى اللهجة المصرية العامية حسنا كلمة كخ قبيح ولا تفعل. والحق أن ابن سودون كان جعبة هزل وفكاهة، وقد بنى فكاهته على المفارقة المنطقية فنحس دائما بعدوانه على منطقنا ببلاهته، ونشعر كأنما الأشياء من حولنا تهوى من أبراج عالية، هى أبراج المنطق والعقل الواعى، فنضحك ونسترسل فى الضحك.

ص: 399