الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن (1) الفارض
هو عمر بن كمال الدين على الفارض، كان أبوه من حماة بسوريا، هاجر منها فى مطالع شبابه إلى القاهرة، وفيها رزقه الله ابنه عمر سنة 576 للهجرة، فهو مصرى المولد والمنشأ والمربى والحياة. كان أبوه من علماء الفقه والشريعة ولقّب بالفارض لكتابته الفروض على النساء والرجال. ولى نيابة الأحكام بالقاهرة والفسطاط، ويقال إنه عرضت عليه وظيفة قاضى القضاة فأباها ولزم قاعة الخطابة بالجامع الأزهر يتنسّك، وعنى بابنه فألحقه بدروس العلماء بالعلوم الشرعية واللسانية، حتى إذا شبّ دفعه إلى التقوى وعبادة الله ومعاشرة المستضعفين من المتصوفة فى الجبل الثانى من المقطم، وهناك أخذ عمر يتجرد للعبادة والنسك. وأحسّ برغبة شديدة للمقام بمكة مهبط الوحى على الرسول صلى الله عليه وسلم فرحل إليها، ومكث بها خمسة عشر عاما سائحا فى أوديتها عابدا الله ناسكا مؤملا فى أن تفيض عليه الفتوحات الإلهية، مكثرا من الصلاة والصيام، حتى فتحت له الأبواب المغلقة، وشعر كأنه فى مقام الشهود للذات العلية. وعاد إلى وطنه، غير أنه ظل يأسى لفراقه مهبط فتوحاته الإلهية بمثل قوله:
يا سميرى روّح بمكة روحى
…
شاديا إن رغبت فى إسعادى
كان فيها أنسى ومعراج قدسى
…
ومقامى المقام والفتح بادى
ولزم مناسك العبادة وخاصة وادى المستضعفين بالمقطم والجامع الأزهر، يذكر الله ويسبّحه ويعبده حق عبادته ناسكا خاشعا متضرعا، شاعرا من وقت إلى آخر أنه أصبح فى مقام الشهود لربه، فيشخص بصره ويغيب عن كل ما حوله غيبة قد تطول أياما وهو لا يسمع صوتا ولا يرى أحدا ولا يشرب ولا يطعم ولا ينام، فقد غاب عن كل حواسه وغمره نور شهوده للذات العلية، ومضى يعكف على التقوى والنسك والصلاة، وشاع أمره فى القاهرة فكان الناس يزدحمون عليه إذا سار فى الطرقات يلتمسون منه الدعاء، وهو غائب عنهم، مشغول بحبه لربه وبما ينظم فى هذا
(1) انظر فى
ابن الفارض
وترجمته وأشعاره النجوم الزاهرة 6/ 288 وابن خلكان 3/ 454 وميزان الاعتدال 3/ 214 وعبر الذهبى 5/ 129 والبداية والنهاية 13/ 143 ولسان الميزان 4/ 317 وشذرات الذهب 5/ 149 وحسن المحاضرة 1/ 518 وكتاب ابن الفارض والحب الإلهى للدكتور محمد مصطفى حلمى وكتابنا فصول فى الشعر ونقده ص 197 وما بعدها. وديوانه طبع بمصر مرارا طبعات مستقلة، وطبع مع شرح عبد الغنى النابلسى وهو شرح صوفى رمزى، ومع شرح حسن البورينى على ظاهر اللفظ دون تأويل.
الحب من أشعار لعلها أروع ما نظمه الصوفية فى حبهم الإلهى، حتى لقّب بحق سلطان العاشقين للذات الربانية. وهى أشعار تموج بوجد ملتاع لا حدود له، متخذا لذلك لغة العشاق العذريين وما يذكرونه من معاهد المحبوبة يريد معاهد مكة التى هبط عليه فيها النور الإلهى، وأيضا ما يذكرونه من نسيم الصبا المحمل بشذى المحبوبة، وهو فى أثناء ذلك يئن وينوح آملا فى الوصال وأن يشرق عليه النور الربانى، متجرعا غصص الهجر والصد والسهاد، ويصيح فيمن تحدثه نفسه بسلوك هذا الطريق المحفوف بمالا يحصى من الأشواك والصعاب:
هو الحبّ فاسلم بالحشا ما الهوى سهل
…
فما اختاره مضنى به وله عقل
وعش خاليا فالحبّ راحته عنا
…
وأوّله سقم وآخره قتل
وهو لا يريد القتل الحقيقى، بل يتخذه رمزا للحظات الفناء فى الذات العلية حين يتجرد الصوفى-مثل ابن الفارض-من حواسّه ومن كل وجوده فلا يشعر بزمان ولا بمكان، وكأنما غاب عن حياته، بل كأنما مات بسبب حبه شهيدا، وهو موت لا يتحقق تصوف بدونه، حتى ينمحى المتصوف فى الذات الربانية ونورها الإلهى، وحتى لا يرى فى الوجود سوى ربه المائل فى الكون وكائناته وكل شئ فيه، يقول:
تراه-إن غاب عنى-كلّ جارحة
…
فى كلّ معنى لطيف رائق بهج
فى نغمة العود والنّاى الرّخيم إذا
…
تألّفا بين ألحان من الهزج (1)
وفى مسارح غزلان الخمائل فى
…
برد الأصائل والإصباح فى البلج (2)
وفى مساقط أنداء الغمام على
…
بساط نور من الأزهار منتسج
وفى مساحب أذيال النّسيم إذا
…
أهدى إلىّ سحيرا، أطيب الأرج (3)
فهو يرى الله وجلاله وجماله ماثلا فى جميع أركان الكون وعناصره: فى أنغام العود والناى المرافقة لألحان الهزج، وفى مشهد غزلان الرياض وقد انتعشت قلوبها بأنفاس الأصيل والصباح، وفى الأزهار والورود مساقط أنداء الغمام وهى متناثرة هنا وهناك على أبسطة الطبيعة البهيجة، وفى النسيم يملأ الجو سحرا بشذاه وأريجه العطر. وابن الفارض لا يعبر بذلك ومثله فى أشعاره عن إيمانه
(1) الرخيم: اللين الناعم.
(2)
البلج: أول إسفار الصبح وانتشار الضوء.
(3)
الأرج: الشذى والرائحة العطرة.
بوحدة الوجود التى كان يؤمن بها غلاة الصوفية من أمثال ابن العربى معاصره، فهو إنما يريد أن يقول إن نور الله منبثّ فى الكون بجميع كائناته وعناصره، متجلّ فى كل مناظره ومشاهده، وذلك هو سر وجده وهيامه وولهه بربه، يريد أن يشرق عليه ضياء جماله. ويظل يحلم بشهوده حلما متصلا مجاهدا فى سبيل ذلك محتملا من العذاب ما يطاق وما لا يطاق، متغنيا بالجمال الربانى وما يصلّى فيه من هجر، هاتفا من فؤاده:
ته دلالا فأنت أهل لذاكا
…
وتحكّم فالحسن قد أعطاكا
وتلافى إن كان فيه ائتلافى
…
بك عجّل به جعلت فداكا
فقت أهل الجمال حسنا وحسنى
…
فبهم فاقة إلى معناكا
وهو يضيف إلى الذات العلية التحكم والدلال على طريقة أصحاب الحب العذرى، ولا يلبث أريج الحب الصوفى أن يعبق فى البيت الثانى، فهو يطلب أن يتلف فى حبه مادام فى تلفه ائتلافا بربه المحبوب، وهو لا يريد التلف الحقيقى إنما يريد الفناء المطلق فى ربه وجماله الذى يفوق كل جمال، بل إن كل جميل ليفتقر إلى جماله المتجلى فى الكون بنوره. وعلى نحو اتخاذ ابن الفارض للغزل العذرى رمزا لحبه الصوفى نراه يتخذ الخمر ونشوتها رمزا لهذا الحب، ولا خمر ولا كئوس ولا دنان ولا سقاة، وإنما هو جمال الذات الإلهية الذى شغف به حتى ليظن كأنما نهل من شراب قدسى مسكر، فهو سكران دائما منتش غائب عن وجوده. ومن قوله فى ذلك من قصيدة بديعة:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
…
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهى شمس يديرها
…
هلال وكم يبدو-إذا مزجت-نجم
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ
…
أقامت به الأفراح وارتحل الهمّ
ولو نضحوا منها ثرى قبر ميّت
…
لعادت إليه الروح وانتعش الجسم
وهو يقول إن سكره بتلك المدامة أو الخمر قديم أقدم من الوجود، وهو يشير إلى فكرة الحقيقة المحمدية التى يذهب المتصوفة إلى أنها تسبق نشأة الكون، وأن أضواء مازالت تفيض من تلك الحقيقة فى نفوس الأنبياء ونفس الرسول صلى الله عليه وسلم ونفوس المتصوفة من بعده حتى تجلت فى ابن الفارض، ومن هنا يقول إن سكره بها ونشوته يسبقان الخليقة. ويقول إنها تجلب الفرح وتطرد
الهم، وتحيى الروح لا مجازا بل حقيقة، فلو صبوها على قبر ميت لعادت إليه الروح ودبت فيه الحياة. ويمضى فيقول: إنها صفاء ولا ماء، ولطف ولا هواء، ونور ولا نار، وروح ولا جسم.
خمر ربانية لا تشوبها أى شائبة مادية، خمر ينتشى بها ابن الفارض وأمثاله فيغيبون عن وجودهم غيبة كلها متاع وكلها نعيم لا حدود له. وديوانه كله من هذا الطراز انتشاء وسكر وحب ووجد ووله والنياع، وتطول إحدى قصائده حتى تبلغ سبعمائه وستين بيتا أو تزيد، وهى تائية وتسمى التائية الكبرى لأن له بجانبها تائية صغرى، وهو فيها يصور معراجه القدسى بمكة وفتوحه التى هبطت عليه هناك وإنمحاءه حينئذ فى الحقيقتين: الإلهية والمحمدية، حتى ليتكلم فى بعض أجزاء القصيدة باسمهما، وهو يستهلها ببيان شربه من كأس المحبة الربانية ونشوته بها وما تجشمه فى معراجه من أهوال وخطوب ومحن، وكلها كما يقول منح من ربه وعطايا اجتازها فى معراجه، خالصا إلى الانمحاء والفناء فى الذات العلية حتى ليقول:
ولم تهونى ما لم تكن فىّ فانيا
…
ولم تفن ما لم تجتلب فيك صورتى
كلانا مصلّ واحد ساجد إلى
…
حقيقته بالجمع فى كلّ سجدة
وما كان لى صلّى سواى ولم تكن
…
صلاتى لغيرى فى أدا كلّ ركعة
وكأنه يشعر فى البيت الأول أنه لا يزال دون الحب الإلهى لا تصاله بل لا تصافه بالصفات البشرية. ويقول فى البيت الثانى إنها ينبغى أن تمحى فيه حتى يفنى فى الذات الربانية وتتجلّى فيه الصورة الإلهية، وما يلبث أن يقول فى البيت الثالث إن حواسه تعطلت وتعطلت فيه كل إرادة وشعور، حتى فنى فناء مطلقا فى ربه، متخطيا مرتبة الصحو إلى مرتبة الشهود أو كما يسميها الجمع، وكأنما يصلى لنفسه أو لربه متجليا فيه، يقول:
وطاح وجودى فى شهودى وبنت عن
…
وجود شهودى ماحيا غير مثبت
وفى الصّحو بعد المحو لم أك غيرها
…
وذاتى بذاتى إذ تجلّت تجلّت
فهو قد انمحى وفنى فناء كليا فى الذات العلية، وبلغ من هذا الانمحاء والفناء أعلى مراتبه، إذ لا يعتريه فى حال المحو والغيبة مع الشهود للنور الربانى، بل أيضا يعتريه فى حال الصحو، فهو دائما ممحوّ فان فى الذات الإلهية. وهو دائما يعلن أنه متمسك أشد التمسك بالكتاب وأداء الفرائض