المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - المواعظ والابتهالات - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٧

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - فتح العرب لمصر والحقب الأولى

- ‌(ا) فتح العرب لمصر

- ‌(ب) زمن الولاة

- ‌(ج) الطولونيون

- ‌(د) الإخشيديون

- ‌2 - الفاطميون-الأيوبيون

- ‌(ا) الفاطميون

- ‌3 - المماليك-العثمانيون

- ‌(ا) المماليك

- ‌(ب) العثمانيون

- ‌4 - المجتمع

- ‌الفصل الثانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علم الجغرافيا

- ‌(ا) علوم الأوائل

- ‌(ب) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب مصر

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعر دورى ورباعيات وموشحات وبديعيات

- ‌(ا) الشعر الدورى

- ‌(ب) الرباعيات

- ‌(ج) الموشحات

- ‌ العزازى

- ‌ابن الوكيل

- ‌(د) البديعيات

- ‌4 - شعراء المديح

- ‌«المهذب بن الزبير

- ‌ابن قلاقس

- ‌ ابن سناء الملك

- ‌ابن نباتة

- ‌5 - شعراء المراثى والشكوى

- ‌على بن النّضر

- ‌على بن عرّام

- ‌6 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن هانئ

- ‌ظافر الحداد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن النبيه

- ‌ البهاء زهير

- ‌ ابن مطروح

- ‌2 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ تميم بن المعز

- ‌ ابن الذروى

- ‌ أحمد بن عبد الدائم

- ‌ حسن البدرى الحجازى الأزهرى

- ‌3 - شعراء الطبيعة ومجالس اللهو

- ‌ الشريف العقيلى

- ‌ ابن قادوس

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن الكيزانى

- ‌ ابن الفارض

- ‌البوصيرىّ

- ‌5 - شعراء الفكاهة

- ‌ ابن مكنسة

- ‌الجزّار

- ‌ السراج الوراق

- ‌ ابن دانيال

- ‌ عامر الأنبوطى

- ‌6 - شعراء شعبيون

- ‌الغبارى

- ‌ ابن سودون

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ ابن الصيرفى

- ‌ القاضى الفاضل

- ‌ محيى الدين بن عبد الظاهر

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌ ابن أبى الشخباء

- ‌ ابن مماتى

- ‌3 - المقامات

- ‌ ابن أبى حجلة

- ‌القلقشندى

- ‌السيوطى

- ‌ الشهاب الخفاجى

- ‌4 - المواعظ والابتهالات

- ‌أبو الحسن الشاذلى

- ‌5 - كتب النوادر والسير والقصص الشعبية

- ‌(ا) كتب النوادر

- ‌كتاب المكافأة

- ‌أخبار سيبويه المصرى

- ‌كتاب الفاشوش فى حكم قراقوش

- ‌«هز القحوف»

- ‌(ب) كتب السير والقصص الشعبية

- ‌ سيرة عنترة

- ‌ السيرة الهلالية

- ‌سيرة الظاهر بيبرس

- ‌سيرة سيف بن ذى يزن

- ‌ ألف ليلة وليلة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌4 - المواعظ والابتهالات

بينما تقبّل الأمواج الأرض بين يديه، ويصف من بها من الجوارى الحسان والفرسان الشجعان، ثم يهاجم متصوفتها وعلماءها. ولا يلبث أن يكوى المفتى دون ذكر اسمه بسياط من الهجاء المقذع من مثل قوله:

«لوقارنه السّعد الأكبر إلى أعلى علّيين، حملته بنات نعش إلى أسفل سافلين، أعمى البصيرة والبصر، عار على آدم أبى البشر، إنما خلق اعتذارا لإبليس فى ترك السجود، وأنّى يقبل له عذر وهو كفور جحود. . وما أحسنه فى زوال النعم، وأقبحه إذا قضى له الدهر بدولة وحكم» .

ويختم المقامة بمديح السلطان العثمانى حينذاك. ويذكر بعدها مقامة الغربة راويا لها عن الربيع ابن ريان عن شقيق بن النعمان، وفيها يصور فساد الأمور فى القسطنطينية، ويوجه إلى المفتى المذكور فيها قصيدة هجاء لاذعة. ويتلوها بالمقامة الساسانية، وقد استعار اسمها من الحريرى فى مقامته التاسعة والأربعين، وفيها صور الفقهاء والعلماء فى القسطنطينية كأنهم جميعا أهل كدية واستجداء يتقدمهم المفتى. ويقول قد فقد العلم لولا بقايا شرح الله بهم صدر الدين. ويدعو للدولة العثمانية بالازدهار. ويعارض بالمقامة الرابعة رسالة لرشيد الدين الوطواط المترجم له فى قسم إيران كتبها فيمن كان يزاحمه فى أداته ودواته وعمله فى ديوان الدولة الخوارزمية وفيها يزرى بصاحبه ويحط منه حطا شديدا، ونسج الشهاب الخفاجى على منواله فى صنع هذه المقامة قاصدا بها المفتى خصيمه مسميا له باسم الوزير، وفيها يضع منه ويهجوه هجاء مرا، ويصور قصته معه وأنه سمع قول الوشاة ونفاه ويمثّل به تمثيلا شديدا. والمقامة الخامسة سماها المقامة المغربية، اقترض اسمها من لدن الحريرى وتسميته لمقامته السادسة عشرة بالمقامة المغربية، والشهاب الخفاجى يكثر فى مقامته تلك من بعض الأمثال والأعلام والمقتطفات من الأشعار وبعض أقوال الحكماء والألفاظ الغربية، ولذلك أتبعها بشرح لما استظهره فى المقامة من ذلك كله.

‌4 - المواعظ والابتهالات

فرض الإسلام الوعظ فى خطب صلاة الجمعة من كل أسبوع، وفى خطب صلاة العيدين، وكان يتولاهما أئمة المساجد، وأحيانا خلفاء الأمة، واشتهر كثير من الوعاظ نسمع عنهم فى كل بلدة، غير أن المصادر قلما احتفظت بمجاميع من خطبهم إلا ما كان من خطب ابن نباتة خطيب

ص: 460

سيف الدولة الحمدانى. وطبيعى أن يشتهر بمصر غير واعظ، ويلقانا فى مفتتح هذا العصر أبو الحسن (1) على بن محمد البغدادى المتوفى سنة 338 وقد استوطن الفسطاط، وكان له بها مجلس وعظ عظيم. ويستولى المعز لدين الله الفاطمى على مصر، ويؤسس بها الدولة الفاطمية التى ظلت نحو مائتى عام، وكان خطيبا مفوها، وكان يخطب الناس يوم الجمعة بالجامع الأزهر، ولم تحتفظ كتب التاريخ بشئ من خطبه ومواعظه فى القاهرة، وقد احتفظت بخطبة (2) خطبها عقب وفاة أبيه المنصور فى بلدة المنصورة بالقرب من القيروان، بدأها بأسجاع فى بيان عظمة الله وتحميده وتمجيده. وكان ابنه العزيز يخطب مثله فى الجامع الأزهر حتى إذا بنى الحاكم جامعه أخذ هو ومن جاءوا بعده يخطبون فيه (3). ويبدو أن الخطب والمواعظ كانت تعدّ لهم-ولمن ينيبونه عنهم من الوزراء-فى ديوان الإنشاء. ويذكر الرواه لابن أبى الشخباء كاتب الدواوين فى زمن المستنصر مجموعة من المواعظ لعلها كانت خطبا أعدّها للخليفة ووزيره بدر الجمالى، وقد اشتهرت فى أيامه ببلاغتها، إذ كان-كما مر بنا فى ترجمته-كاتبا بارعا، ونقتطف قطعة من إحدى خطبه، إذ يقول (4):

«أيها الناس فكّوا أنفسكم من حلقات الآمال المتعبة، وخففوا ظهوركم من الآصار المستحقبة (5)، ولا تسيموا (6) أطماعكم فى رياض الأمانى المتشعّبة، ولا تميلوا صغوكم (7) إلى زبارج (8) الدنيا المحبّبة. . أين الجبابرة الماضية المتغلّبة، والملوك المعظّمة المرجّبة (9) أولو الحفدة (10) والحجبة، والزخارف المعجبة، والجيوش الجرّارة اللّجبة (11). . طرقت-والله- خيامهم غير منتهبة، وأصبحت أظفار المنية من مهجهم قانية (12) مختضبة، وأكلت لحومهم هوامّ الأرض السّغبة (13)، ثم إنهم مجموعون ليوم لا يقبل فيه عذر ولا معتبة، وتجازى كل نفس

(1) انظر فيه حسن المحاضرة للسيوطى 1/ 551 والعبر 2/ 247

(2)

انظر سيرة الأستاذ جوذر (طبع دار الفكر العربى) ص 76

(3)

النجوم الزاهرة 4/ 102

(4)

شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد (طبع القاهرة سنة 1929) 10/ 545

(5)

الآصار: الذنوب. المستحقبة: المرتكبة

(6)

أسام الدابة فى المرعى: خلاها ترعى فيه كما تشاء والاستعارة واضحة

(7)

الصغو: الشق والجانب

(8)

زبارج: جمع زبرج: الحلية والزينة

(9)

المرجبة: الموقرة المعظمة

(10)

الحفدة: الأعوان.

(11)

الجرارة: الكثيفة. اللجبة: ذات الجلية والصوضاء

(12)

قانية: حمراء. مختضبة: مصبوغة بالخضاب الأحمر

(13)

السغبة: الجائعة

ص: 461

بما كانت مكتسبة، فإما سعيدة مقرّبة، تجرى من تحتها الأنهار مثوّبة (1)، وإما شقيّة معذّبة، فى النار مكبكبة (2)».

وقد التزم ابن أبى الشخباء فى موعظته الباء والهاء فى روى أسجاعه، ليعطى للصوت فى أول السجعة وما وراءه من الكلمات والمقاطع الفرصة كى يعلو، ثم ينخفض فجأة آخر السجعة، وكأنما لم تعد فيه بقية من شدة التأثر. وخصائص ابن أبى الشخباء الفنية التى عرضنا لها فى حديثنا عنه واضحة أتم وضوح فى هذه القطعة من الخطبة، فهو يعنى بالتصاوير عناية شديدة، إذ يطلب إلى الناس أن يفكوا أنفسهم من سلاسل الآمال المرهقة ويحطوا عن ظهورهم ذنوبهم المقترفة، ويصرفوا أطماعهم عن رياض الأمانى المتشعبة، ولا تغرنهم زينة الحياة الدنيا. ويدعو الناس إلى العظة بالأمم الخالية والملوك السالفة وما كانوا فيه من ترف ونعيم. كل ذلك زال إلى غير مآب، وذاقوا كئوس الموت دهاقا، وأكلت هوامّ الأرض وحشراتها لحومهم. ويرفع أمام أعين الناس يوم القيامة، يوم الجزاء الأكبر، فإما إلى النعيم وإما إلى الجحيم.

ونمضى إلى زمن الأيوبيين، فيلقانا إبراهيم بن منصور المتوفى سنة 596 إمام جامع عمرو بن العاص بالفسطاط وخطيبه، وولى الخطابة بعده ابنه محمد يقول السبكى:«وله ديوان خطب مشهور (3)» . وطبيعى أن الخطابة لزمن الأيوبيين وحروبهم مع الصليبيين كانت تحض بقوة على جهاد أعداء الله والإسلام وبذل المهج والأرواح فى سبيل نصرة دينه الحنيف. ولم تكن خطب الجهاد تلقى فى أيام الجمع فحسب. بل كانت تلقى كلما أريد تجميع الشعب لحمل السيف والسلاح. ويروى المقريزى (4) أنه حينما علم الفرنج بموت الملك نجم الدين أيوب سنة 647 تقدموا من دمياط تجاه المنصورة «فورد كتاب إلى القاهرة من العسكر أوله: (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) وكان فى الكتاب مواعظ بليغة فى الحث على الجهاد، فقرئ على منبر جامع القاهرة، وقد جمع الناس لسماعه، فارتجّت القاهرة والفسطاط وضواحيهما وخرج الناس للقاء الصليبيين من المدينتين الكبيرتين ومن سائر الأعمال، فاجتمع عالم عظيم سحق الصليبيين سحقا ذريعا كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع.

(1) مثوبة: مكافأة

(2)

مكبكبة: مجمّعة.

(3)

انظر ترجمة أبيه عند السبكى 7/ 37

(4)

الخطط 1/ 413

ص: 462

ونلتقى فى زمن المماليك بابن المنير (1) الإسكندرى المتوفى سنة 683 المتولى قضاء الإسكندرية وخطابتها مرتين، ويقول صاحب فوات الوفيات:«له ديوان خطب» . وكان يعاصره أخطب الخطباء قاطبة أيام المماليك ابن دقيق (2) العيد المتوفى سنة 702 علم الأعلام وشيخ الإسلام وقاضى القضاة فى جميع ديار مصر منذ سنة 695 إلى وفاته. ويشيد مترجموه بورعه وتقواه، ويقول السبكى:«له ديوان خطب مفرد معروف» . وكان شاعرا، ويطيل مترجموه فى ذكر أشعاره، ولا يعرضون شيئا من خطبه ومواعظه إلا موعظة ذكر السيوطى أنه كتب بها إلى قاضى إخميم بالصعيد، وفيها يقول (3):

«نحمد الله الذى (يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور)، ويمهل حتى يلتبس الإمهال بالإهمال على المغرور، ونذكّره بأيام الله (وإن يوما عند ربّك كألف سنة مما تعّدون) ونحذره صفقة من باع الآخرة بالدنيا فما أحد سواه مغبون، عسى الله أن يرشده بهذا التذكار. وتأخذ هذه النصائح بحجزته عن النار، والمقتضى لإصدارها ما لمحناه من الغفلة المستحكمة على القلوب، ومن تقاعد الهمم مما يجب للرب على المربوب، . . . وو الله إن الأمر عظيم، والخطب جسيم، ولا أرى. . إلا رجلا نبذ الآخرة وراه، واتخذ إلهه هواه، وقصر همّه وهمته على حظّ نفسه ودنياه، فغاية مطلبه حب الجاه. . فاتق الله الذى يراك حين تقوم، واقصر أملك عليه فإن المحروم من فضله غير مرحوم. . واجعل أكثر همومك الاستعداد ليوم المعاد، والتأهب لجواب الملك الجواد فإنه يقول:(فو ربّك لنسألنّهم أجمعين عما كانوا يعملون).

ولعل فى هذه القطعة ما يصور وعظ ابن دقيق العيد فى خطبه وأنه كان يتدفق فيه كالنيل العذب. مما جعل معاصريه يشيدون طويلا برقائق وعظه وكلمه التى كان يخلب بها وبما يضمنها من آى الذكر الحكيم عقول مستمعيه، فيملأ نفوسهم بالإنابة إلى الله. وكان دائما يرفع أمام أعينهم أهوال يوم المحشر يوم تجزى كل نفس بما كسبت وعملت وقدمت، فاذا هم يرتجفون ويبكون بدموع غزار، وقد خشعت قلوبهم وذابت نفوسهم وهلعوا إلى دعاء الله يستغفرونه ويتوبون إليه توبة نصوحا.

(1) انظر فى ابن المنير فوات الوفيات 1/ 132 والنجوم الزاهرة 7/ 361 وحسن المحاضرة 1/ 316 وشذرات الذهب 5/ 381

(2)

راجع مصادر ترجمة ابن دقيق العبد ص 146.

(3)

حسن المحاضرة 2/ 168

ص: 463

وما يزال السيوطى فى حسن المحاضرة يسوق إلينا أسماء كبار الوعاظ وخاصة بين الصوفية، ومرّ بنا فى الفصل الأول حديث مفصل عن التصوف بمصر وكيف أخذ يزدهر بها منذ عنيت به الدولة فى عهد صلاح الدين، وإنشائه لخانقاه سعيد السعداء. واتسع بناء الخانقاهات بعده فى أيام المماليك، وكانت دورا كبيرة للنسك ودراسة العلوم الدينية على نحو ما يذكرون عن خانقاه سرياقوس التى أنشأها الناصر محمد بن قلاوون، ومرّ حديث مفصل عنها وعن غيرها من الخانقاهات المملوكية. وبنوا بجانبها للصوفية اثنى عشر رباطا. كل ذلك عمل على ازدهار التصوف بمصر منذ القرن السادس الهجرى. وكان كثير من الصوفية يتبعون الطريقتين العراقيتين:

القادرية الجيلانية والرفاعية.

ولم تشع طريقة فى العالم الإسلامى إلا كان لها فروع وأتباع فى مصر، وأخذت تؤسّس بها طرق مشهورة فى مقدمتها الطريقة الشاذلية المنسوبة إلى مؤسسها أبى الحسن الشاذلى المتوفى سنة 656 وسنخصه بترجمة قصيرة. وتلتها سريعا الطريقة البرهامية نسبة إلى إبراهيم (1) الدسوقى المتوفى سنة 672 بدسوق بالقرب من رشيد، وهو من ذرية على بن أبى طالب، والطريقة الأحمدية نسبة إلى أحمد (2) البدوى المتوفى سنة 675 بطنطا وهو أيضا سليل على بن أبى طالب.

وكان لكل طريقة ورد خاص تردده، كله ابتهالات إلى الله ومناجيات وأدعية، وكثرت على ألسنة المتصوفة هذه الأدعية والمناجيات والابتهالات والأوراد، وسنعرض لهذا الحانب عند أبى الحسن الشاذلى فى ترجمته. ونسوق قطعة من ورد أو حزب إبراهيم الدسوقى، يقول مناجيا ربه:

«بأسمائك يا رب العالمين. بالسموات القائمات، فهن بالقدرة واقفات، بالسّبع المتطابقات، بالحجب المترادفات، بمواقف الأملاك (الملائكة) فى مجارى الأفلاك. بالكرسى البسيط، بالعرش المحيط. . اللهم احرسنى من كيد الفاسق، ومن سطوة المارق، ومن لدغة المنافق» .

وكان يعاصر الدسوقى والبدوى أبو العباس (3) المرسى المتوفى سنة 686 تلميذ أبى الحسن

(1) انظر الدسوقى فى الطبقات الكبرى للشعرانى (طبع القاهرة سنة 1286 هـ) 1/ 183 وخطط على مبارك 11/ 7

(2)

راجع ترجمة البدوى فى الشعرانى 1/ 202 والنجوم الزاهرة 7/ 253 وحسن المحاضرة 1/ 521 وشذرات الذهب 5/ 346

(3)

انظر فى ترجمة أبى العباس كتاب لطائف المنن فى مناقب أبى العباس المرسى وشيخه أبى الحسن وراجع الشعرانى 2/ 14 والنجوم الزاهرة 7/ 371 وحسن المحاضرة 1/ 523 والوافى 7/ 264 وشذرات الذهب 5/ 273.

ص: 464

الشاذلى، وهو أندلسى من مرسية، ولد بها سنة 616 للهجرة، وفى الرابعة والعشرين من سنّه خرج إلى الحج، وفى طريقه توقف بتونس، وفيها تعرف على الصوفى الكبير أبى الحسن الشاذلى، وأصبح أقرب أتباعه ومريديه إليه، حتى إذا رحل إلى الاسكندرية سنة 642 رحل معه. وكان لا يبرح مجلسه، وزوّجه ابنته، وأعلن إلى أتباعه فى جامع العطارين بالإسكندرية أنه خليفته، وكان يتقن العلوم الشرعية، ويدرّسها هى وبعض كتب الصوفية، وأقبل على دروسه الطلاب.

واستأذن شيخه فى السفر إلى القاهرة للتدريس بمساجدها ونشر طريقته بها، فأذن له، وكان يلقى دروسه فى الجامع العتيق: جامع عمرو بن العاص وجامع المقس ويسمى الآن جامع أولاد عنان بالقرب من محطة باب الحديد. وكانت حلقته فى الجامعين تزدحم بالطلاب والعلماء. وتوفى أستاذه سنة 656 فخلفه على الطريقة، وكان أكثر مقامه بالإسكندرية، ومن حين إلى حين ينزل القاهرة، ناشرا هنا وهناك الطريقة الشاذلية، ولتلميذه ابن عطاء الله كتاب قصره عليه وعلى أستاذه الشاذلى سماه «لطائف المنن فى مناقب أبى العباس المرسى وشيخه أبى الحسن» ويعد جامعه اليوم أكبر جوامع الإسكندرية، ويورد ابن عطاء الله كثيرا من أقواله، كما يورد له وردا أو حزبا نقتطف من ابتهالاته وأدعيته قوله (1):

«اللهم إنا نسألك الخوف منك والرجاء فيك، والمحبة لك، والشوق إليك، والأنس بك، والرضا منك، والطاعة لأمرك، على بساط مشاهدتك، ناظرين منك إليك، وناطقين بك عنك. . اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيننا وبين الصدق والنية والإخلاص والخشوع والهيبة والحياء والمراقبة ونور اليقين والعلم والمعرفة والحفظ والعصمة والنشاط والقوة والستر والمغفرة والفصاحة والبيان والفهم فى القرآن وخصّنا منك بالمحبة. . وآتنا العلم اللدنىّ والعمل الصالح والرزق الهنىّ على بساط علم التوحيد والشرع. . وسخّر لى الرزق واعصمنى من تعلق الهمة به ومن الذل للخلق بسببه. . وهب لى لسانا لا يفترعن ذكرك وقلبا يسمع بالحق منك. . وبغّض لنا الدنيا وحبّب لنا الآخرة. . اللهم لا تعذبنا بإراداتنا وحب شهواتنا فنشتغل أو نحجب أو نفرح بوجود مرادنا أو نحزن أو نسخط. . وأنت أعلم بقلوبنا فارحمنا بالنعيم الأكبر والمزيد الأفضل والنور الأكمل» .

(1) لطائف المنن لابن عطاء الله على هامش كتاب لطائف المنن والأخلاق للشعرانى (طبع المطبعة الميمنية بمصر) 2/ 37

ص: 465

والورد طويل ويتخلله كثير من الآيات القرآنية، وهو مناجاة روحية صافية للذات العلية.

ويتضح فيه كيف تجمع الطريقة الشاذلية بين علم الشريعة وعلم الحقيقة الصوفية، ولعل ذلك ما جعلها تشدّد على أتباعها فى أن لا يلبسوا المرقّعات وأن لا يسألوا الناس شيئا مما فى أيديهم من مال أو غذاء مع الاعتماد على النفس فى كسب القوت عن طريق التجارة والزراعة وغيرهما. وبذلك وصلت بين أتباعها والحياة والشريعة، وسنخص ابن عطاء الله تلميذ أبى العباس المرسى بترجمة قصيرة. ومن متصوفة مصر المعاصرين لأبى العباس عبد العزيز (1) الدّميرىّ الدّيرينىّ، ولد بقرية دميرة بالقرب من دمياط سنة 612 وتوفى بديرين فى الصعيد سنة 694 وكان يتجول فى ريف مصر شمالا وجنوبا، وكان فقيها شافعيا، ونظم كتاب التنبيه لأبى إسحاق الشيرازى، ونظم سيرة نبويّة، وكان له تفسير فى مجلدين. وكان متقشّفا مخشوشنا، وله فى التصوف كتاب «طهارة القلوب فى ذكر علام الغيوب» وهو يمتلئ بمناجيات إلهية بديعة من مثل قوله:

«إلهى، عرّفتنا بربوبيّتك، وغرّقتنا فى بحار نعمتك، ودعوتنا إلى دار قدسك، ونعّمتنا بذكرك وأنسك.

إلهى، إن ظلمة ظلمنا لأنفسنا قد عمّت، وبحار الغفلة على قلوبنا قد طمّت، فالعجز شامل، والحصر (2) حاصل، والتسليم أسلم، وأنت بالحال أعلم.

إلهى، ما عصيناك جهلا بعقابك، ولا تعرّضا لعذابك، ولكن سوّلت (3) لنا نفوسنا، وأعانتنا شقوتنا، وغرّنا سترك علينا، وأطمعنا فى عفوك برّك بنا، فالآن من عذابك من يستقذنا؟ وبحبل من نعتصم إن قطعت حبلك عنا؟ واخجلتنا من الوقوف غدا بين يديك، وافضيحتنا إذا عرضت أعمالنا القبيحة عليك.

اللهم اغفر ما علمت، ولا تهتك ما سترت.

إلهى، إن كنا عصيناك بجهل فقد دعوناك بعقل، حيث علمنا أن لنا ربّا يغفر الذنوب ولا يبالى».

وهى مناجاة لله بديعة صافية كل الصفاء نقية كل النقاء، مناجاة تنبئ عن قصور العبد وتعلقه

(1) انظره فى طبقات الشافعية للسبكى 8/ 199 وحسن المحاضرة 1/ 421 والشعرانى 1/ 224 ومناجاته المذكورة فى السبكى

(2)

الحصر: العى.

(3)

سوّلت: أغرت، وتقال فى الشرور والسوء.

ص: 466

بربه وطمعه فى غفرانه وعفوه إذ يرى كل صلاته ونسكه وعبادته وكل ما قدم يقصر عن حق إلهه.

ويروى السبكى مناجاة لصوفى شاذلى من صوفية القرن الثامن هو شمس (1) الدين بن اللبان محمد ابن أحمد المتوفى سنة 749 وقد أخذ الطريقة الشاذلية عن ختنه (والد زوجته) ياقوت العرشى تلميذ أبى العباس المرسى، ويقول السبكى إنه نقل مناجاته عن كتابه «المتشابه فى الربانيات» وهى تطرد على هذا النمط.

«الهى! جلّت عظمتك أن يعصيك عاص، أو ينساك ناس، ولكن أوحيت روح أوامرك فى أسرار الكائنات، فذكرك الناسى بنسيانه، وأطاعك العاصى بعصيانه، وإن من شئ إلا يسبّح بحمدك، إن عصى داعى إيمانه فقد أطاع داعى سلطانك، ولكن قامت عليه حجّتك، ولله الحجّة البالغة:(لا يسال عما يفعل وهم يسألون).

ويبدو أن كتاب المتشابه فى الربانيات كان شطحات كثيرة على نحو ما نرى الآن من قوله: إن العاصى يطيع الله بعصيانه وإنه إن عصى داعى إيمانه فقد أطاع داعى سلطانه، فكيف يعد العاصى لله مطيعا له؟ وإذن لا يكون فى الدنيا عاص ومطيع. ولذلك يقول السبكى إن هذه المناجاة مما أخذ عليه. ويقول ابن حجر: ضبطت عليه كلمات على طريق الاتحادية القائلين بالحلول، كما يقول إن له كتابا على لسان الصوفية، فيه من إشارات الصوفية القائلين بالوحدة، وهو فى غاية الحلاوة لفظا وفى المعنى سم قاتل.

وكان يعاصره يوسف (2) بن عبد الله العجمى الكردىّ المصرى الدار المتوفى سنة 768 وقد دفن بزاويته بقرافة مصر. ويقول ابن حجر: «له زوايا فى عدة بلاد» . ويصفه ابن تغرى بردى بقوله: «الإمام العالم المسلّك الصوفى العارف بالله تعالى المعتقد. . وقبره يقصد للزيارة، كان شيخا حقيقة ومقتدى طريقة، كان إمام المسلّكين (آخذى العهود على المريدين) فى عصره وله رسالة فى التصوف سماها «ريحان القلوب والتوصل إلى المحبوب» . ومن هذه الرسالة مخطوطتان بدار الكتب المصرية وقد ذكر فيها شرائط التوبة ولبس الخرقة أو المرقعة الصوفية وتلقين الذكر. . ويقول ابن تغرى بردى: انتفع بصحبته جماعة من العلماء والصلحاء والفقهاء، وكان

(1) انظر ابن اللبان فى الدرر الكامنة 3/ 420 والسبكى 9/ 94 وحسن المحاضرة 1/ 428 والوافى بالوفيات للصفدى 2/ 168 ومرآة الحنان 4/ 333 وشذرات الذهب 6/ 163

(2)

انظر فى يوسف العجمى النجوم الزاهرة 11/ 94 والدرر الكامنة لابن حجر 5/ 238 والشعرانى 2/ 71 وحسن المحاضرة 1/ 426

ص: 467

على قدم هائل، كان غالب علماء عصره يقتدون به، وكان له أوراد وأذكار هائلة» وهذه الأذكار والأوراد سقطت من يد الزمن. وهو وأوراده رمز لمن جاء بعده من المتصوفة فى أيام المماليك وما كان لهم من أوراد وأحزاب سقطت من يد الزمن.

ونمضى إلى أيام العثمانيين ونلتقى فى مطلعها بأبى السعود (1) الجارحى المتصوف المتوفى سنة 930 ويشيد به الشعرانى، وأهم منه الشعرانى (2) نفسه المتوفى سنة 973 وقد ألممنا به فى حديثنا عن الزهد والتصوف فى الفصل الأول، وفى كتابه «لطائف المنن والأخلاق» بيان بالمؤلفات التى قرأها وبأساتذته ومراحل حياته الصوفية والأخلاق التى التزمها فى حياته. ومع أنه صوفى سنى نراه يدافع عن أستاذه الروحى: ابن عربى، محاولا تأويل عباراته على نحو ما يصور ذلك فى كتابه «الكبريت الأحمر فى علوم الشيخ الأكبر» . وتظل الطرق التى عرضنا لها فى غير هذا الموضع ناشطة بمصر. ويعلو شأن الطريقة الخلوتية المنسوبة الى الشيخ محمد الخلوتى منذ نزل القاهرة الشيخ مصطفى (3) بن كمال الدين البكرى الناشئ ببيت المقدس، وقد طوّف فى بلدان الشام والعراق وتركيا وحج مرارا وسكن بأخرة القاهرة وتوفى بها سنة 1162 ويعرّف به الجبرتى قائلا: شيخ الطريقة والحقيقة، قدوة السالكين، ومربى المريدين الإمام المسلّك، تآليفه تقارب المائتين، وأوراده أكثر من ستين وردا. وأجلها ورد السحر، ونقتطف من مناجياته لربه فيه وابتهالاته قوله (4):

«إلهى، أنت المدعوّ بكل لسان، والمقصود فى كل آن.

إلهى، أنت قلت:(ادعونى أستجب لكم) فها نحن متجهون إليك بكليتنا فلا تردّنا، واستجب لنا كما وعدتنا.

إلهى، اين المفر منك وأنت المحيط بالأكوان؟ وكيف البراح عنك وأنت الذى قيّدتنا بلطائف الإحسان.

(1) راجع فيه الطبقات الكبرى للشعرانى 2/ 143

(2)

انظر فى ترجمة الشعرانى كتابه «لطائف المنن والأخلاق فى بيان وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق، والكواكب السائرة 2/ 259 وطبقات المناوى الكبرى 2/ 495 والخطط التوفيقية 14/ 109 وكتاب الشعرانى والتصوف الإسلامى لطه عبد الباقى سرور، والشعرانى إمام التصوف فى عصره لتوفيق الطويل.

(3)

انظر فى ترجمة مصطفى البكرى الصديقى الخلوتى تاريخ الجبرتى 1/ 165 وسلك الدرر 4/ 190 ودائرة المعارف الإسلامية فى البكرى.

(4)

انظر فى ورد السحر للبكرى مجموع الأوراد الكبير (طبع مكتبة النصر) ص 78 - 118

ص: 468