الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السراج (1) الوراق
هو سراج الدين عمر بن محمد بن حسن رفيق الجزار وصديقه، ولد مثله بالفسطاط سنة 615 وتوفى سنة 695 وفيه يقول ابن تغرى بردى:«كان إماما فاضلا أديبا مكثرا متصرفا فى فنون البلاغة، وهو شاعر مصر (الفسطاط) فى زمانه بلا مدافعة» ويقول صاحب فوات الوفيات:
«كان حسن التخيل، جيد المقاصد، صحيح المعانى، عذب التراكيب عارفا بالبديع وأنواعه» . ولم يكثر أحد من الشعر إكثاره إذ كان ديوانه سبعة أجزاء كبار، وأكثره مقطوعات قصيرة. ويمتاز شعره-مثل الجزار-بالسهولة المفرطة، لسبب طبيعى، وهو أنه نشأ فى أسرة شعبية متواضعة، ومازال الشعر يصعد به حتى عيّن كاتبا للدرج عند بعض الأمراء، ويبدو أنه لم يظل فى ذلك طويلا وأنه احترف الوراقة، وفى شعره مدائح لبعض السلاطين والأمراء كقوله فى الظاهر بيبرس أثناء الاحتفال بافتتاح مدرسته الظاهرية:
وشيّدها للعلم مدرسة غدا
…
عراق إليها شيّق وشآم
ولا تذكرن يوما نظاميّة لها
…
فليس يضاهى ذا النظام نظام
وهو يجعلها فوق نظامية بغداد المشهورة التى بناها بها نظام الملك الوزير السلجوقى المشهور، وقد عرضنا لها فى حديثنا عن العراق بالجزء السابق من هذه السلسلة ومدى إنفاقه عليها وعلى العلماء والطلاب بها، وما حبس عليها من أوقاف دارّة، وكان لها شأن بعيد فى النهضة العلمية ببغداد. ومر بنا حديث عن المدرسة الظاهرية فى فصل الثقافة. وللوراق مرثية بديعة فى المعز أيبك حين قتل، يقول فيها:
نقيم عليه مأتما بعد مأتم
…
ونسفح دمعا دون سفح المقطم
وله شعر غزل كثير مثل الجزار ولا نحس عنده بحرقة ولا بلوعة، مثله فى ذلك مثل صاحبه، ومن قوله فى بعض غزله:
(1) انظر فى
السراج الوراق
وترجمته وأشعاره فوات الوفيات لابن شاكر 2/ 213 والنجوم الزاهرة 8/ 83 وشذرات الذهب 5/ 431 وخزانة الأدب للحموى ص 300 وما بعدها ومطالع البدور 1/ 90 وخطط المقريزى 3/ 341. ومن ديوانه مخطوطة بدار الكتب المصرية ومصورة بخط الصفدى فى مكتبة الجامعة فى 180 ورقة.
فى خدّها ضلّ علم الناس واختلفوا
…
أللشقائق أم للورد نسبته
فذاك بالخال يقضى للشقيق وذا
…
دليله أن ماء الورد ريّقه
وإذا غضضنا النظر عن حشره لعلم الناس واختلافهم فى خدّ صاحبته، فإن الصورة تبدو بعد ذلك بديعة ومعروف أن الشقيق قاتم الحمرة، وقد أبدع فعلا إذ جعل دليل نسبة الخد إلى الورد رى صاحبته الشبيه بمائه. ومن غزله أيضا:
لا تحجب الطيف إنى عنه محجوب
…
لم يبق منى لفرط السّقم مطلوب
ولا تثق بأنينى إن موعده
…
بأن أعيش للقيا الطّيف مكذوب
هذا وخدّك مخضوب يشاكله
…
دمع يفيض على خدّىّ مخضوب
تأوّد الغصن مهتزّا فأنبأنا
…
أن الذى فيك خلق فيه مكسوب
وإنه ليتمنى رؤية خيال المحبوبة قبل موته وهيهات، ويقول إنه يبكى دما قانيا كخد صاحبته فى حمرته. ويزعم أن ميلان الغصن واهتزازه إنما هو خلق فيه اكتسبه من تقليد صاحبته. وهو يستعير صورة الكسب فى البيت من رأى المعتزلة فى أن الإنسان يكسب عمله بفعله لا بقدر مقدور عليه.
وأهمية السراج الوراق فى تاريخ الشعر المصرى كأهمية الجزار، إنما ترجع إلى جانب الفكاهة والدعابة عنده، وقد خطا بفن التورية خطوة أوسع من خطوة صديقه الجزار، مستغلا فيها إلى أبعد حد لقبه: السراج الوراق كما استغل الجزار لقبه فى كثير من تورياته. ومن المؤكد أن السراج أربى عليه فى هذا الباب حتى قال له بعض معاصريه: «لولا لقبك وصناعتك لذهب نصف شعرك» ومن تورياته فى لقبه السراج قوله مادحا:
كم قطع الجود من لسان
…
قلّد من نظمه النّحورا
فها أنا شاعر سراج
…
فاقطع لسانى أزدك نورا
وهو يشير إلى السراج الحقيقى حين يقول «اقطع لسانى» وهو إنما يريد النوال الذى يقطع لسانه ويزيده مدحا وتنويها وإشادة. ومن تورياته فى لقبه الوراق:
واخجلتى وصحائفى قد سوّدت
…
وصحائف الأبرار فى إشراق
وفضيحتى لمعنّف لى قائل
…
أكذا تكون صحائف الورّاق
فهو خجل من لقاء ربه بصحائفه السود، ويقول له لائمه: أكذا تكون صحائف الوراق سوداء، بينما ينبغى أن تكون مشرقة بيضاء كصحائف زملائه من الوراقين. ومن تورياته فى غير لقبه «السراج» وصناعته «الوراق»:
أصون أديم وجهى عن أناس
…
لقاء الموت عندهم الأديب
وربّ الشّعر عندهم بغيض
…
ولو وافى به لهم حبيب
ولكلمة حبيب معنيان: معنى قريب من الحب، ومعنى بعيد هو أبو تمام إذ اسمه حبيب، وهو المعنى المراد. ومن تورياته البديعة قوله:
دع الهوينى وانتصب واكتسب
…
واكدح فنفس المرء كدّاحه
وكن عن الراحة فى عزلة
…
فالّصفع موجود مع الرّاحه
ولكلمة الراحة معنيان: معنى أول هو الراحة من الاستراحة، ومعنى ثان هو الكف أو اليد، ومن تورياته فى بقلة معروفة فى مصر باسم «الرجلة» وقد أضافه بعض أصدقائه، فداعبه قائلا:
وأحمق أضافنا ببقله
…
لنسبة بينهما ووصله
إذ مدّ فى وجه الضيوف رجله
وهو لا يريد مد الرجل الحقيقية، وإنما يريد مد طعام الرجلة على المائدة، مما يدل بوضوح على حضور بديهة الوراق. ومن تورياته.
فسّر لى عابر مناما
…
فصّل فى قوله وأجمل
وقال: لا بد من طلوع
…
فكان ذاك الطلوع دمّل
والطلوع: الصعود والرقى، واستغل الوراق تسمية العامة للدمل طلوعا، وصنع هذه التورية البارعة. وفى كتاب خزانة الأدب للحموى توريات كثيرة للسراج الوراق اقتظفنا منها ما أنشدناه.
ووراءها توريات لا تقل عنها لطفا وبراعة.