الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باسم خزانة الأدب والمقرى التلمسانى أكبر مؤرخى الأندلس، وبهاء الدين العاملى صاحب الكشكول. وعرّبت مصر بعض الولاة العثمانيين وأحالته مؤلفا أديبا مثل راغب باشا واليها سنة 1160 وموسوعة «سفينة الراغب» مشهورة. وقد ألف بالقاهرة الزبيدى اليمنى تاج العروس:
شرحه على القاموس المحيط للفيروزابادى. وبذلك ظلت مصر فى العهد العثمانى المظلم حامية للتراث العربى المتبقى بها وراعية لعلماء العالم العربى، بفضل مصابيح العلم التى كانت تضئ بها خاصة فى الجامع الأزهر. وما زالت شهرته تدوى فى العالم الإسلامى إلى اليوم، وجعل العثمانيون له رئيسا من كبار علمائه كانوا يسمونه شيخ الأزهر، ويعدّد الجبرتى شيوخه منذ سنة 1100 للهجرة إلى أن ينتهى إلى الشيخ عبد الله الشرقاوى معاصر الحملة الفرنسية.
2 - علوم الأوائل-علم الجغرافيا
(ا) علوم الأوائل
مر بنا فى أول هذا الفصل أن مصر أسهمت فى نشأة العلم بمعناه العالمى سواء العلم الهندسى أو الرياضى أو الطبى، وتشهد لها الأهرامات بما كان فيها من علم هندسى، وتشهد لعلمها الرياضى (1) برديات رياضية فرعونية مختلفة، وبالمثل تشهد للعلم الطبى برديات فرعونية تدل على أن الطب والتشريح بمعناهما العلمى العالمى نشآ فى ديارها ورقيا رقيا بعيدا (2).
وكان من الممكن أن تستمر مصر فى حركتها العلمية لولا ما دهمها من الغزو الأجنبى، واستطاعت أن تمصر البطالمة وأن تستعيد-كما أسلفنا-حركتها العلمية وإن اتخذت اليونانية لسانا لها، فنهضت بالإسكندرية عاصمتها حينئذ دراسات الهندسة والرياضة والفلك والطب، أما الهندسة فشاد صرحها إقليدس فى القرن الثالث قبل الميلاد، مكونا بالإسكندرية مدرسة هندسية كان لها شأن عظيم، وقد ظلت تدرس كتبه فى العربية وفى أوربا حتى القرن الماضى (3)، وأما الطب فشهدت الإسكندرية فيه نهضة كبيرة على يد هيروفيلوس وأضرابه، وقد اشتهر بتشريحه
(1) انظر العلم عند العرب لألدومييلى (ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار-نشر الجامعة العربية-دار القلم) ص 33 وما بعدها.
(2)
ألدومييلى ص 34 وما بعدها.
(3)
ألدومييلى ص 43 وقصة الحضارة لول ديورانت (نشر جامعة الدول العربية) 8/ 137.
العين ووصفه للشبكية وأعصاب النظر وتشريح المخ وتحديد وظيفة الشرايين وغير ذلك من مباحث طبية (1). وغزا مصر الرومان، كما أسلفنا، وظلت حركتها العلمية والفلسفية فى النمو، كما ظلت الإسكندرية زعيمة العالم الهيلينى فى العلوم. ومن أكبر علمائها حينئذ بطليموس المولود بالصعيد، غير أنه بارح مسقط رأسه مبكرا إلى الإسكندرية، حيث ظل يرصد الأجرام السماوية حتى منتصف القرن الثانى الميلادى، ولم يلبث أن سجل معلوماته الفلكية والرياضية والجغرافية فى كتابه «النظام الرياضى للنجوم» وقد سماه العرب «المجسطى» أى الأعظم بنفس اللقب الذى وضعه له اليونان. وله كتب أخرى منها موجز جغرافى، وكان لبحوث المجسطى وغيره تأثير عظيم فى علم الهيئة والفلك والرياضيات عند العرب (2). ويلقانا هيرون، وهو أرشميدس صغير كما يقال، وله رسائل فى الرياضة والطبيعة والميكانيكا ترجمت إلى العربية، وتاريخه غير معروف فمن العلماء المعاصرين من يرجع به إلى القرن الثانى قبل الميلاد، ومنهم من يجعله فى القرن الثالث بعد الميلاد (3). ونفذت مصر فى هذا القرن عند أفلوطين المتوفى سنة 270 للميلاد إلى مذهب فلسفى كان تجديدا لفلسفة أفلاطون، ولذلك يسمى الأفلاطونية الجديدة. وظل نشاط مصر فى الطب عظيما، وقد نزلها جالينوس (131 - 201 م) ولم يكتف بمقامه فيها بالإسكندرية، فقد جاس خلال ديارها حتى وصل جنوبيها والنوبة وبواديها (4)، ومما لا ريب فيه أنه انتفع أكبر انتفاع بنهضة علم الطب والتشريح فى مصر، وترك فى الإسكندرية بعده مدرسة عنيت بدراسة كتبه وتلخيصها، وقد عقد ابن أبى أصيبعة لأعلامها فصلا مستقلا (5). وظلت الإسكندرية كما كانت طوال عهد البطالمة نحو ستة قرون يهرع إليها جميع طلاب الطب من ولايات الإمبراطورية الرومانية، وكان حسب الطبيب للدلالة على براعته أن يقال إنه تعلم الطب فى الإسكندرية (6).
وممن تعلم الطب بها فى القرن السادس سر جيوس من «رأس عين» بالموصل وإيتيوس من آمد بالموصل أيضا، ومن أطبائها فى أوائل القرن السابع أهرن القس السريانى الذى أمر
(1) قصة الحضارة 8/ 156 وماكس ما يرهوف فى كتاب التراث اليونانى للدكتور عبد الرحمن بدوى ص 45.
(2)
قصة الحضارة 11/ 106 وألدومييلى ص 45 وما بعدها.
(3)
ألدومييلى ص 45، 47 وقصة الحضارة 11/ 108.
(4)
تاريخ الحكماء (مختصر الزوزنى) للقفطى (طبع ليدن) ص 132.
(5)
طبقات الأطباء لابن أبى أصيبعة (نشر دار مكتبة الحياة ببيروت) ص 151 والقفطى ص 71.
(6)
؟ ؟ ؟ ماكس ما يرهوف ص 45 وما بعدها وقصة الحضارة 11/ 110.
عمر بن عبد العزيز بنقل كتابه من السريانية إلى العربية. وظل بالإسكندرية نشاط فلسفى بعد أفلوطين يمثله فى القرن السادس للميلاد يحيى النحوى شارح أرسطو والفيلسوف المسيحى يوحنا الأبامى (1). ومما لا شك فيه أن القبطية شركت اليونانية لزمن الرومان فى الدراسات العلمية والفلسفية، وانفردت بمباحث فقهية فى الدراسات الدينية. ومرّ بنا أن السريانية-وكانت منتشرة قبل الفتح العربى بأديرة مصر-دخلتها مع بعض القساوسة والرهبان فى القرنين السادس والسابع للميلاد.
ويظلّ مصر وكل ما كان بها من تراث علمى وفلسفى لواء الإسلام، ومعروف أن الإسلام لم يحارب فى أى بلد فتحه ما به من علم وفلسفة، ومرّ بنا كذب الأسطورة القائلة بأن عمرو بن العاص أحرق مكتبة الإسكندرية، فقد أحرقها الرومان قبل نزوله مصر بنحو ستة قرون، وإنما أطلنا فى بيان هذا التراث لندل على أنه ظل طويلا، أما ما يقال من أن عمر بن عبد العزيز (99 - 101 هـ) نقل نشاط علماء الإسكندرية إلى أنطاكية وحران (2) فلعله من باب المبالغة، وكل ما يمكن أن نتصوره أنه ربما انتقل بعض أطبائها وعلمائها من الإسكندرية إلى أنطاكية ليقتربوا من بيزنطة كما يقول ما يرهوف. أما ما ذكره ابن أبى أصيبعة من انتقال التراث اليونانى ومعلميه إلى أنطاكية وحران فيعتوره الشك لسبب بسيط وهو أن المفروض أن ينقل عمر بن عبد العزيز أصحاب التراث اليونانى من الإسكندرية إلى عاصمته دمشق لا إلى أنطاكية ولعل ابن أبى أصيبعة بالغ فى هذا الرأى. ويشهد لما نقوله ما يذكره ابن النديم من أن خالد بن يزيد بن معاوية المتوفى سنة 92 هـ اهتم بعلم الكيمياء، أو كما يسميه الصنعة فأحضر إلى دمشق جماعة من فلاسفة اليونان ممن كانوا ينزلون بمصر وتفصحوا بالعربية وأمرهم بنقل الكتب فى الصنعة (الكيمياء) من اللسان اليونانى والقبطى إلى اللسان العربى (3). فكان الطبيعى أن يصنع عمر بن عبد العزيز صنيعه فينقل علماء الإسكندرية إلى عاصمته لا إلى أنطاكية وخاصة أنه اهتم فعلا بنقل كتاب أهرون القس الإسكندرى فى الطب وكلف بذلك ما سرجويه البصرى كما هو معروف، ولو أنه نقل حقا علماء الإسكندرية إلى أنطاكية كما يقول ابن أبى أصيبعة لكلف أحدهم بنقله. وربما كان أكثر من هذا التصور منطقا أن يقال إن كثيرين من علماء
(1) انظر مقالة ما يرهوف فى كتاب التراث اليونانى ص 37 وما بعدها.
(2)
راجع مقالة ما يرهوف السالفة وابن أبى أصيبعة ص 171.
(3)
الفهرست ص 352.
الإسكندرية اليونانيين بارحوها مع اقتحام عمرو بن العاص لها، ويغلب أن يكونوا قد حملوا معهم كتبا كثيرة من التراث اليونانى خاصة. ومع ذلك فقد بقى منه ومن علمائه ما أتاح لحركة الإسكندرية العلمية أن تظل مستمرة، وإن فقدت كثيرا من نشاطها. يدل على ذلك العلماء الإسكندريون المستعربون المذكورون آنفا والذين استدعاهم خالد بن يزيد بن معاوية لترجمة كتب الصنعة، كما يدل على ذلك ابن أبجر طبيب عمر بن عبد العزيز الذى كان يتولى التدريس بالإسكندرية واستدعاه ولزمه فى خلافته، ويبدو أنه تعرف عليه حين كان أبوه واليا على مصر (65 - 86 هـ) ويقال إنه أسلم على يده (1).
ومن المؤكد أن أديرة مصر ظلت منذ العهد الرومانى تحتفظ بكثير من التراث اليونانى وخاصة فى الطب والكيمياء، كما ظلت الإسكندرية تحتفظ بشهرتها بالطب أجيالا. . يدل على ذلك أن نجد هرون الرشيد (170 - 193 هـ) يستدعى منها طبيبا مشهورا لعلاج إحدى جواريه هو بليطيان (2) بطريرك الإسكندرية. وبالمثل ظلت مصر تحتفظ بشهرتها فى علم الكيمياء، ويذكر ألدومييلى كتابين فى الكيمياء ألفهما بمصر فى أوائل القرن الثالث الهجرى عالم أو علماء- كما يقول-من القبط (3)، وممن اشتهر بمعرفة الكيمياء من المصريين ذو النون المتوفّى سنة 245 واضع أسس التصوف كما مر بنا فى الفصل الماضى.
وتبدأ مصر فى زمن الخليفة المتوكل (132 - 147 هـ) باتخاذ المارستانات (4)، ومعروف أنها كانت مستشفيات من جهة ومدارس لتعليم الطب من جهة ثانية. وسرعان ما يتولى مصر أحمد بن طولون، وينشى مارستانا جديدا أنفق عليه ستين ألف دينار، وكان به قسم للمجانين وحمامان: حمام للرجال وحمام للنساء، وكان يركب لزيارته فى كل يوم جمعة وتفقّد أطبائه وخزائن الدواء فيه (5). ويذكر ابن أبى أصيبعة من الأطباء لزمنه إبراهيم بن عيسى والحسن بن زيرك وسعيد بن توفيل النصرانى وطبيب العيون خلف (6) الطولونى، وله كتاب النهاية والكفاية فى تركيب العينين وخلقتهما وعلاجهما وأدويتهما ظل يؤلفه فى نحو أربعين عاما من سنة
(1) ابن أبى أصيبعة ص 171 وقد خلط بين أبن أبجر الإسكندرى وابن أبجر آخر. انظر مقالة ما يرهوف ص 64 وما بعدها.
(2)
ابن أبى أصيبعة ص 540.
(3)
ألدومييلى ص 269.
(4)
خطط المقريزى: مارستان المغافر 3/ 386.
(5)
الخطط 3/ 386.
(6)
انظر فى خلف ومن قبله ابن أبى أصيبعة ص 541 وما بعدها.
264 إلى سنة 302. وتظل مصر تعنى بالطب بعد الطولونيين، وترعاه الدولة الإخشيدية ويلمع اسم الطبيب سعيد بن البطريق بطريرك الإسكندرية المتوفى سنة 328 وله فيه مؤلفات (1) مختلفة.
ومن الأطباء لعهد الإخشيد نسطاس (2) بن جريج، وينشى كافور الإخشيدى مارستانا يرعاه غير طبيب، ومن الأطباء لعهده عيسى بن البطريق أخو سعيد، والبالسى وكان طبيبا متميزا فى معرفة الأدوية المفردة، وله فيها كتاب ألفه لكافور (3).
وفى ذلك كله ما يدل على أن دراسة الطب ظلت ناشطة فى مصر، وبالمثل ظلت الكيمياء كما أسلفنا، وأيضا ظلت الرياضيات، ولعل خير من يصور ذلك أبو كامل شجاع بن أسلم الحاسب المصرى، عالم زمنه الرياضى، والمظنون أنه كان يعيش فى أواخر القرن الثالث الهجرى وأوائل الرابع، واشتهر بأنه نقّح علم الجبر الذى اكتشفه الخوارزمى. ويذكر ألدومييلى أن له رسالة فى المضلع ذوى الزوايا الخمس ترجمت إلى الإيطالية والألمانية وكتاب الطرائف فى الحساب وقد ترجم بدوره إلى الألمانية، ويذكر أيضا أن لكاربينسكى كتابا عن علم الجبر باسم الجبر عند أبى كامل (4). ويقول القفطى إنه صاحب مدرسة وإن له تلاميذ تخرجوا فى علمه، لعل منهم على بن أحمد العمرانى الموصلى العالم بالحساب والهندسة الذى توفى سنة 344 إذ يقول القفطى عنه إنه شرح كتاب الجبر والمقابلة لأبى كامل شجاع بن أسلم الحاسب المصرى، وله عدة كتب فى التنجيم. على كل حال تدل تصانيف أبى كامل شجاع أنه كان عالما حاذقا فى الرياضيات والهندسة. وكأن مصر ظلت طوال القرون الثلاثة الأولى للهجرة تهتم بهذا الجانب من تراثها العلمى حتى أنتجت فيه أبا كامل شجاعا.
وحقا نهضت بغداد كما مر بنا فى كتابى العصر العباسى الأول والثانى بترجمة التراث اليونانى فى العلوم والفلسفة وأضافت إليه التراث الفارسى والهندى فنقلتهما إلى العربية، وكل ذلك تحوّل سريعا إلى تراث عربى عام للأمة فى بغداد والقاهرة وغيرهما من بلدان العالم العربى الكبيرة، وقد بلغ من تمثل بغداد للرياضيات أن ابتكر الخوارزمى علم الجبر، وبلغ من تمثل القاهرة لما كان بها من مصنفات تتصل بالرياضيات أن تجرد أبو كامل شجاع بن أسلم الرياضى المصرى لتنقيح جبر الخوارزمى. واهتمت البيئات العربية بتنقيحه، فإذا على بن أحمد العمرانى الموصلى يعنى بشرحه
(1) ابن أبى أصيبعة ص 545.
(2)
ابن أبى أصيبعة ص 544.
(3)
ابن أبى أصيبعة ص 545.
(4)
انظر فى شجاع بن أسلم ألدومييلى 211، 216 وبروكلمان 4/ 193 والقفطى 211، 233.
وتفسيره لهذا التنقيح فى كتاب مستقل نوّه به وبأصله القدماء.
وظل النشاط محتدما فى الرياضيات وعلوم الفلك والتنجيم طوال زمن الفاطميين، ومن المنجمين لعهد المعز وابنه العزيز محمد (1) بن عبد الله العتقى وأبى (2) عبد الله بن القلانسى، ومن أعظم الفلكيين بمصر وعند العرب قاطبة أبو الحسن على بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس الصدفى المصرى، وقد بدأ بعمل زيج كبير أو بعبارة أخرى بعمل لوحات فلكية مفصلة لعهد العزيز وأخذ فى تنقيح زيجه لعهد الحاكم ابنه وقد أقام له مرصدا ضخما كان قسما من دار العلم ويقال إنه أتم زيجه سنة 397 وإنه كان يشغل أربع مجلدات ضخام، ويقول ابن خلكان إنه لم ير فى الأزياج على كثرتها أطول (3) منه، وقد سماه الزيج الحاكمى الكبير ولم يلبث أن توفى سنة 399.
ونزل مصر لعهد الحاكم أكبر علماء الرياضة والطبيعة العراقيين لزمنه أبو على الحسن بن الهيثم البصرى (4)، وفرح الحاكم يقدومه وخرج للقائه على باب القاهرة. ولما وقف على خبل الحاكم سكن قبّة على باب الجامع الأزهر، ويقال إنه كان يكتب المجسطى فى الفلك والهيئة لبطليموس ومصنفات إقليدس فى الهندسة ويبيعها جميعا بمائة وخمسين دينارا. ويبدو أن نبوغه الفلسفى والرياضى والفيزيقى إنما تحقق فى مصر التى اتخذها سكنا له ومقاما لأكثر من ثلاثين عاما، وبها ألف كتابه «المناظير» فى العدسات وانعكاسات الضوء، وقد ترجم قديما إلى اللاتينية، وله تأثير علمى عالمى بعيد. وعليه تتلمذ كثير من المصريين وأخذوا منه كل ما عنده فى الطبيعيات والرياضيات والفلك والطب والفلسفة. والمظنون أن دار العلم كانت تعنى فيما تعنى بدروس الرياضيات والطبيعيات والفلك والفلسفة، إذ كان الخلفاء الفاطميون يعنون بالعلماء فى كل هذه الجوانب. وظلت هذه العناية متصلة فى عهد الظاهر بن الحاكم وعهد ابنه المستنصر. ومما يدل على النشاط فى الدراسات الفلكية والهندسية والفلسفية ما يرويه ابن السّنبدى من أنه رأى (5) فى خزانة القصر الفاطمى سنة 435 لعهد المستنصر من كتب النجوم والهندسة والفلسفة خاصة ستة
(1) القفطى ص 285.
(2)
القفطى ص 410.
(3)
انظر فى على بن عبد الرحمن الصدفى ألدومييلى 213، 219 وبروكلمان 4/ 224 وابن خلكان 3/ 429 والقفطى 230 وتاريخ الفلك عند العرب لنلينو 186، 281.
(4)
تقدمت مصادر ابن الهيثم فى الجزء الخامس من تاريخ الأدب العربى، وراجع ابن أبى أصيبعة ص 550 وألدومييلى ص 206 وما بعدها.
(5)
القفطى ص 440.
آلاف وخمسمائة جزء وكرة نحاس من عمل بطليموس الجغرافى وكرة أخرى من فضة من عمل أبى الحسين الصوفى لعضد الدولة البويهى.
ويشتهر من تلاميذ ابن الهيثم رياضى متفلسف هو مبشر (1) بن فاتك، ويقول القفطى قرأ عليه فضلاء زمانه. ويتكاثر الفلكيون والمنجمون والرياضيون بأخرة من القرن الخامس الهجرى لعهد الوزير الأفضل بن بدر الجمالى (487 - 515 هـ) يقول المقريزى:«وكان منجمو الحضرة سنة 500 سهلون وابن الحلبى وابن الهيثمى وغيرهم يطلق لهم الجارى فى كل شهر والرسوم والكسوة لعمل التقويم فى كل سنة (2)» ثم يذكر أنه فكر فى عمل مرصد ضخم فنشط فى إقامته، ويذكر المقريزى أنه كان يعمل به من المهندسين أبو جعفر بن حسداى والقاضى ابن أبى العيش والخطيب أبو الحسن على بن سليمان بن أيوب والشيخ أبو النجا بن سند الساعاتى الإسكندرانى المهندس وأبو محمد عبد الكريم الصقلى المهندس إلى غيرهم من الحسّاب الرياضيين والمنجمين ويعدّد من ذكرناهم أولا ويضيف إليهم ابن دياب والقلعى وأبا نصر تلميذ سهلون. وينزل مصر لعهد الأفضل أمية بن أبى الصلت المتفلسف والأديب الأندلسى، ويكتب عن مصر وأدبائها وعلمائها رسالة مشهورة باسم الرسالة المصرية، وممن يذكرهم من الفلكيين المصريين رزق الله النحاس المصرى وعلى بن النضر، وقد ترجم لهما القفطى (3)، وذكر من المهندسين المصريين أبا على المهندس، وله أيضا ترجمة فى القفطى (4).
وتموج القاهرة بالأطباء منذ عصر المعز أول الخلفاء الفاطميين بمصر، ومن أطبائه موسى (5) بن العازار الجراح اليهودى، ومن أطبائه وأطباء ابنه العزيز أبو عبد الله التميمى المقدسى (6) وأحمد (7) بن محمد البلدى وأبو سهل كيسان (8) بن عثمان وأعين (9) بن أعين ومنصور (10) بن مقشّر. ويخلف العزيز ابنه الحاكم ويتكاثر الأطباء فى عهده من مثل إسحق (11) بن إبراهيم بن نسطاس وما سويه (12) وكان طبيبا وصيدلانيا وطبيب العيون أبى القاسم
(1) القفطى ص 269 وابن أبى أصيبعة ص 560.
(2)
خطط المقريزى فى ذكر الرصد 1/ 233 وما بعدها.
(3)
القفطى ص 186 و 237 على الترتيب.
(4)
القفطى ص 410.
(5)
ابن أبى أصيبعة ص 545.
(6)
ابن أبى أصيبعة ص 546 والقفطى ص 105 وبروكلمان.4/ 290
(7)
ابن أبى أصيبعة ص 332 وبروكلمان 4/ 291.
(8)
القفطى ص 267 وانظر ابن أبى أصيبعة ص 548.
(9)
ابن أبى أصيبعة ص 546.
(10)
ابن أبى أصيبعة ص 549.
(11)
ابن أبى أصيبعة ص 544.
(12)
ألدومييلى ص 240.
عمار (1) بن على وله المنتخب فى علاج أمراض العين. ومن أهم الأطباء حينئذ ابن (2) رضوان المتوفى سنة 453 هـ، وجعله الحاكم رئيسا على جميع الأطباء، وظل فى هذه الوظيفة نحو خمسين عاما، ودوّت شهرته فى العالم العربى مما جعل علماءه يكاتبونه ويرحل بعضهم إليه لمناظرته فى مسائل الطب، وممن رحل إليه من بغداد طبيبها ابن بطلان كما مر بنا فى حديثنا عنه فى الجزء الخامس من هذه السلسلة، ويقول ابن أبى أصيبعه موازنا بينهما:«كان ابن بطلان أعذب لفظا وأكثر ظرفا وأميز فى الأدب وما يتعلق به، وكان ابن رضوان أطبّ وأعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها» . وقد ترجم شرحه لكتاب جالينوس فى الطب إلى اللاتينية، ونشر مرارا شرحه للمقالات الأربع لبطليموس فى علم الهيئة والفلك.
وتنشط صناعة الطب فى مصر بفضل ابن رضوان وتلاميذه، وأيضا بفضل دار العلم، فقد كان الطب يدرس فيها، إذ يذكر المقريزى فى حديثه عنها أن الحاكم أحضر منها فى سنة 403 جماعة من الأطباء وكذلك من أهل المنطق للمناظرة بين يديه (3). وقد يكون فى ذلك ما يدل على أن المنطق كان يدرس بها هو وما يتصل به من الفلسفة. ومن الأطباء الذين عاصروا ابن رضوان على (4) بن سليمان، وكان فى أيام العزيز والحاكم والظاهر، وكان متقنا للطب والفلسفة والعلوم الرياضية، وله فى الفلسفة والطب كتب مختلفة. وممن خلفوا ابن رضوان تلميذه إفرائيم (5) بن الحسن اليهودى، وقد حصل من المستنصر وأبنائه على أموال كثيرة، وكان شغوفا بالكتب الطبية والفلسفية وغيرها، وكانت لديه منها خزانة كبيرة، واشتهر بأنه كان عنده دائما نسّاخ يكتبون له ما يريد من الكتب، ويذكر ابن أبى أصيبعة أن تاجرا عراقيا من تجار الكتب اشترى منه عشرة آلاف مجلد، وهمّ بحملها إلى العراق، وبلغ ذلك الأفضل بن بدر الجمالى فى أيام وزارته، فبعث إليه بالمال الذى اتفق مع العراقى عليه حتى لا تخرج هذه الكتب من مصر، ويقولون إنه حوّلها إلى مكتبته الخاصة وكانت تشتمل على خمسمائة ألف مجلد. ومن تلاميذ إفرائيم سلامة (6) بن رحمون الطبيب، ويقول ابن أبى أصيبعة إنه نصب نفسه لتدريس كتب المنطق والفلسفة الطبيعية والهيئة. ونظل نسمع عن أطباء فى العهد الفاطمى لا فى القاهرة
(1) ابن أبى أصيبعة ص 549 وألدوميلى ص 548 وبروكلمان 4/ 303.
(2)
القفطى 443 وابن أبى أصيبعة 561 وألدومييلى ص 241 و 251 وما بعدها.
(3)
خطط المقريزى 2/ 218.
(4)
ابن أبى أصيبعة ص 550.
(5)
ابن أبى أصيبعة ص 567.
(6)
ابن أبى أصيبعة ص 568 والقفطى ص 209.
فحسب، بل أيضا فى المدن مثل الحسين (1) بن منصور طبيب إسنا بالصعيد المتوفى فى أوائل المائة السادسة. ومن أهم الأطباء بالقاهرة ابن (2) العين زربى وله كتاب الكافى فى الطب بدأ فى تأليفه سنة 510 وانتهى منه سنة 547 قبل وفاته بعام واحد، ويقول ابن أبى أصيبعة:«كان له تلاميذ عدة يشتغلون عليه» وترجم منهم لطبيب يسمى بلمظفر (3) بن المعرّف. ولحقت طائفة من تلاميذه العصر الأيوبى.
ولعل فيما قدمنا ما يوضح نشاط الأطباء وأصحاب الرياضيات والطبيعيات والفلك بمصر طوال زمن الفاطميين، ولم نحاول أن نحيل فى بيان صلة المصريين حينئذ بالفلسفة على الدعوة الإسماعيلية، كما يصنع بعض الباحثين المعاصرين، لأن المصريين لم يعتنقوا هذه الدعوة، وكان دعاتها يلقّنون تلاميذهم الفلسفة فى مراحل الدعوة حتى إذا وصلوا بهم إلى المرحلة التاسعة أحالوهم-كما يقول المقريزى-على ما يقرّر فى كتب الفلاسفة من علم الطبيعيات وما بعد الطبيعة والعلم الإلهى وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية. ومن المؤكد أن المصريين لم يقبلوا على هذه الدعوة بدليل أن دعاتها كانوا دائما من المغرب أو من الشام أو من أيران. ويبدو أنه كان للمصريين نشاطهم المستقل فى دراستهم للفلسفة عن طريق دراساتهم للطب وللرياضيات والطبيعيات، ومن يرجع إلى تراجم من عرضنا لهم فى ابن أبى أصيبعة والقفطى سيجد لهم مصنفات فلسفية متنوعة كثيرة.
وإذا تقدمنا إلى العصر الأيوبى وجدنا مصر تحمل بقوة مسئوليتها فى طرد الصليبيين من ديار الشام، ومع ذلك تظل الحركة العلمية نامية بها بفضل ما أنشأ فيها صلاح الدين وخلفاؤه الأيوبيون من المدارس. وتظل العناية متصلة بعلوم الأوائل، يدل على ذلك أنه يلقانا بعض البارعين فى الدراسات الفلسفية مثل السيف الآمدى المتوفى سنة 631 وأفضل (4) الدين الخونجى المتفلسف المتوفى سنة 642 وكان يتقن العلوم الفلسفية والدراسات الإسلامية وله تصانيف فى المنطق والطبيعيات، ويقول ابن أبى أصيبعة إنه قرأ عليه بعض الكليات من كتاب القانون فى الطب لابن سينا، وقد ولاه السلطان الصالح نجم الدين أيوب قضاء مصر سنة 638 بعد عزل شيخ الإسلام وإمام الأئمة شرقا وغربا-كما يقول السيوطى-عز الدين بن عبد السلام. ولعل
(1) حسن المحاضرة 1/ 540 والطالع السعيد للإدفوى 120.
(2)
ابن أبى أصيبعة ص 570.
(3)
ابن أبى أصيبعة ص 571.
(4)
ابن أبى أصيبعة ص 586 وحسن المحاضرة 1/ 541 وطبقات الشافعية للسبكى 8/ 105.
فى ذلك ما ينقض كل ما قيل عن الأيوبيين من أنهم وقفوا الدراسات فى علوم الأوائل ولم يشجعوا عليها، فقد قدم السلطان الصالح نجم الدين أيوب أحد علمائها المتعمقين فى مباحثها على جميع فقهاء زمنه الشافعية. ويبرع فى عهد الأيوبيين مهندس رياضى كبير هو قيصر (1) بن أبى القاسم المتوفى سنة 649 وهو من أصفون بالصعيد، كان فقيها حنفيّا عالما بالقراءات وتعلق بالرياضيات والموسيقى وأنواع الحكمة، وهو الذى أقام لأمير حماة نواعير نهر العاصى البديعة التى لا تزال تنحدر المياه فيها من علو شاهق إلى اليوم، مؤلفة بذلك منظرا بالغ الروعة. وكان فلكيا مبدعا، فأنشأ كرة سماوية عظيمة لا تزال محفوظة إلى الآن فى المتحف الوطنى لمدينة نابولى بإيطاليا.
وكان الأيوبيون يهتمون بالطب والأطباء منذ صلاح الدين، وقد بدأ هذا الاهتمام باتخاذه مارستانا ضخما فى القاهرة وفيه يقول ابن جبير:«مما شاهدناه بالقاهرة من مفاخر السلطان صلاح الدين المارستان وهو قصر من القصور الرائعة حسنا واتساعا (2)» ويذكر أنه عين له قيما وضع لديه خزائن العقاقير. ويقول إنه وضعت فى مقاصر ذلك القصر أسرّة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكسوة، وبين يدى القيم خدمة يتكفّلون بتفقد أحوال المرضى بكرة وعشيا ويقدمون لهم ما يلزمهم من الأغذية والأدوية، ويذكر أن بالمارستان قسما خاصا بالمرضى من النساء ومعهنّ من الخدم من يتكفل بحاجاتهن، وقسما خاصا بالمجانين على مقاصيره شبابيك الحديد. ويقول ابن جبير إن بالفسطاط مارستانا آخر على مثال ذلك الرسم بعينه. وطبيعى أن يحتاج المارستانان إلى كثير من الأطباء. ولا بد أن نلاحظ أن المارستان فى القاهرة وبغداد جميعا كان دائما مدرسد للطب.
كما كان مستشفى، بالضبط شأن القصر العينى بالقاهرة حديثا كما أسلفنا. وأول من يلقانا منهم الشيخ السديد (3) أبو المنصور عبد الله الذى خدم الخلفاء الفاطميين ثم صلاح الدين وطالت حياته حتى سنة 592 وكان رئيسا على سائر المتطببين بمصر حتى وفاته، وعاصرته طائفة من الأطباء اليهود مثل ابن (4) جميع وكان له مجلس لمن يشتغلون عليه بصناعة الطب، ومثل الموفق بن شوعة المتوفى سنة 579 وأبى البيان بن المدور المتوفى سنة 580 وأبى الناقد الكحّال طبيب العيون المتوفى سنة 584 وموسى بن ميمون المتوفى سنة 601. وتكاثر الأطباء المصريون فى عهد صلاح الدين وبعده
(1) انظر فى قيصر حسن المحاضرة 1/ 542 والطالع السعيد ص 259 وألدومييلى ص 305.
(2)
رحلة ابن حبير ص 51.
(3)
ابن أبى أصيبعة ص 572 وحسن المحاضرة 1/ 540.
(4)
انظر فى ابن جميع ومن تلاه من أطباء اليهود ابن أبى أصيبعة ص 576 وما بعدها وألدومييلى ص 320 وما بعدها وص 566.
مثل أبى (1) البركات بن القضاعى المتوفى سنة 598 وجمال (2) الدين ابن أبى الحوافر القيسى وقد ولاه السلطان عثمان بن صلاح الدين رياسة الأطباء بعد الشيخ السديد وظل فى هذه الوظيفة حتى عهد الكامل. وكان ابنه فتح (3) الدين أحمد ماهرا فى الرمد وطب العيون، ويقول ألدومييلى إنه ألف كتابا يحتوى على 15 فصلا فى علم الرمد. وتكلم فى أحد الفصول عن عملية الكتاراكت.
وعاش إلى عصر السلطان الصالح نجم الدين أيوب، وولى أحيانا رياسة الأطباء. ومن رؤساء الأطباء لعهد الكامل نفيس (4) الدين بن الزبير المتوفى سنة 636 ويقول ابن أبى أصيبعة إن أولاده مقيمون فى القاهرة ومشهورون بصناعة الكحل ومتميزون فى علمها وعملها.
ويستمر ابن أبى أصيبعة فى ذكر الأطباء المصريين لعهد الأيوبيين. ويختم تراجمهم بترجمة لابن (5) البيطار المالقى الأندلسى المولد المتوفى سنة 646 وقد بارح موطنه فى العشرين من عمره وجاب بلاد المغرب دارسا لما فيها من نباتات، وألقى عصاه بمصر فجعله السلطان الكامل رئيسا على جميع العشّابين، وهو بحق إمام النباتيين لزمنه، وقد سافر إلى بلاد الروم والإغريق والشام دارسا لأنواع النبات، وقرأ ما كتبه ديسقوريدس وغيره من النباتيين. وهو بحق يعد أعظم الصيدلانيين قاطبة قبل العصر الحديث، وله كتابان: كتاب الجامع فى الأدوية المفردة وبه أكثر من 1400 دواء منها ثلاثمائة لم يتناولها صيدلى قبله، وله فى نفس الموضوع كتاب ثان هو المغنى فى الأدوية المفردة، وقد قدم الكتابين للسلطان الصالح نجم الدين أيوب. وإذا كانت مصر أتاحت لابن البيطار المالقى الأندلسى بجوّها العلمى الخصب أن يؤلف فيها كتابيه السالفين فى الأدوية فإنها أتاحت لأحمد بن يوسف التيفاشى المغربى المتوفى سنة 651 أن ينزل بها فى أواخر القرن السادس الهجرى، وهو لا يزال يافعا صغير السن ويتكوّن فيها علميا، ويعود إلى بلده، ولا يلبث أن يعود إلى مصر ويتولى بها القضاء، وقد بدأ مبكرا بدراسة التاريخ الطبيعى واختار علم المعادن مع عنايته بالصيدلة والطب، ويؤلف كتابه «أزهار الأفكار فى جواهر الأحجار» وفيه يتناول خمسة وعشرين حجرا فى خمسة وعشرين فصلا (6)، ويسوق فى كل حجر كالماس والياقوت
(1) ابن أبى أصيبعة ص 582.
(2)
نفس المصدر ص 584.
(3)
ابن أبى أصيبعة ص 585 وألدومييلى ص 322، 326.
(4)
ابن أبى أصيبعة ص 586.
(5)
انظر فيه ابن أبى أصيبعة ص 601 وحسن المحاضرة 1/ 542 وألدومييلى ص 414 وما بعدها.
(6)
نشر كتابه «أزهار الأفكار» فى القاهرة الدكتوران محمد يوسف ومحمود بسيونى خفاجى بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وراجع فيه مقدمتها وما بها من مراجع.
مثلا ما ذكره جالينوس أو غيره من فلاسفة الإغريق، ويتحدث عن معدنه وتكونه وخواصه ومنافعه، مما قد يدخل فى المعارف الطبية، ويتصل بهذه المعارف كتابه «المنقذ من التهلكة فى دفع مضار السمائم المهلكة» . ويلقانا فى عهد السلطان الكامل المنصور (1) بن بعرة الذهبى الكاملى وكتابه «كشف الأسرار العملية لضرب النقود المصرية» وفيه يتحدث عن إعداد المعادن وتصفيتها وطرق استعمالها فى سك النقود، ويتناول دار سكّ النقود وواجبات من بها من الموظفين.
وتظل لمصر قيادتها العلمية فى زمن المماليك، ويظل ينزلها العلماء من الشرق والغرب، وتظل تعنى بالفلسفة (2)، ويذكر السيوطى حشدا (3) من متفلسفتها وعلماء المعقولات بها مثل شمس الدين محمد بن حمود الأصبهانى المتوفى سنة 688 وتلميذه تاج الدين البارنبارى المتوفى سنة 711 وشمس الدين أبى الثناء محمود بن عبد الرحمن الأصبهانى المتوفى سنة 749 وعلاء الدين على بن أحمد المدرس بمدرسة برقوق المتوفى سنة 790 وابن جماعة عز الدين محمد بن شرف المتوفى سنة 819 والكافيجى محيى الدين محمد بن سليمان المتوفى سنة 879.
وظل كثير من المصريين يشتغلون بالطبيعيات والرياضيات، وممن اهتم بالتاريخ الطبيعى بيلك القبجقى الذى صنف حوالى سنة 680 كتابه «كنز التجار فى معرفة الأحجار» ويقول ألدومييلى:
«لهذا الكتاب أهمية خاصة إذ نجد فيه توضيحا لاستعمال البوصلة عند الملاحين وطرق استعمالها (4)» . ويظن أن معرفة المصريين والعرب بها ترجع إلى تاريخ أقدم من ذلك، ربما إلى القرن السادس الهجرى المقابل للثانى عشر الميلادى، بل ربما إلى النصف الأول من القرن الحادى عشر الميلادى المقابل للقرن الخامس الهجرى. والمهم أن مصر هى التى سجلت اكتشافها عند عالمها بيلك. وأكبر الظن أنها هى التى أعدّت لصنعها، وصنعتها بفضل اشتغالها بالملاحة فى البحرين المتوسط والأحمر من قديم. وكان ملاحوها فى عصر المماليك يغدون ويروحون فى البحرين للتجارة والغزو أحيانا على نحو ما هو معروف عن تجارتهم مع موانى إيطاليا وغزوهم لقبرص وطردهم للبرتغاليين من شواطى اليمن بأخرة من أيام المماليك. على كل حال يرمز اكتشاف
(1) انظر فيه ألدومييلى ص 308، 310.
(2)
راجع البحر المحيط لأبى حيان 5/ 148 - 150 فى تفسير سورة يونس آية 27.
(3)
انظر حسن المحاضرة للسيوطى 1/ 539 وما بعدها.
(4)
الدومييلى ص 314 وما بعدها.
مصر للبوصلة إلى نشاط المعارف العلمية فيها طبيعية ورياضية، ويلقانا بها محمد (1) بن موسى الدميرى المتوفى سنة 808 وموسوعته فى علم الحيوان التى سماها «حياة الحيوان الكبرى» معجم للحيوان مرتب أبجديا حسب أسمائه وأنواعه، ومع كل حيوان خصائصه العلمية والطبية وطرف من الحديث النبوى والأمثال والأشعار وتراجم لبعض العلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء، وهو مطبوع فى مجلدين ومترجم إلى الإنجليزية.
وارتقى حينئذ فنّ المعمار وما يتبعه من الهندسة رقيا بعيدا، لكثرة الأبنية التى شادها سلاطين المماليك منذ الظاهر بيبرس، وفى مبانيه يقول ابن تغرى بردى:«بنى فى أيامه بالديار المصرية ما لم يبن فى أيام الخلفاء المصريين (الفاطميين) ولا ملوك بنى أيوب من الأبنية والرّباع والخانات والقواسير والدور والمساجد والحمامات (2)» . وتوالى السلاطين بعده وخاصة قلاوون يكثرون من الأبنية الرائعة، وكل ذلك كان يقوم عليه مهندسون مصريون بارعون مما لا نزال نرى آثاره فى مساجدهم الباقية. وينوّه السخاوى بمهندس مصرى بارع لعهد السلطان برقوق (784 - 801 هـ) هو شمس الدين الطولونى، ويقول:«كان المعوّل عليه وعلى أبيه فى العمائر السلطانية» (3). وظل العلماء المصريون يعنون بالرياضيات والفلك، ويشهر منهم رياضى كبير هو شهاب الدين أحمد بن محمد بن الهائم (4) الفرضى من علماء القرن التاسع الهجرى، وله كتب كثيرة فى الحساب والجبر ذكر مخطوطاتها بروكلمان، منها فى الحساب مرشد الطالب إلى أسى المطالب، كان واسع الانتشار. وفى دار الكتب المصرية بعض شروح له وبعض محطوطات مختلفة من كتب ابن الهائم الرياضية.
وظل لمصر نشاطها زمن المماليك فى دراسة الطب والتأليف فيه، وكان مارستان القاهرة الذى أنشأه صلاح الدين يعدّ أكبر معهد لتدريس الطب، وقد تخرّج فيه كثيرون مثل ابن أبى أصيبعة (5) المتوفى سنة 668 صاحب كتاب طبقات الأطباء، وهو كتاب نفيس إذ يشتمل
(1) راجع فى الدميرى حسن المحاضرة 1/ 439 والضوء اللامع. . رقم 204 وشذرات الذهب 7/ 79 والبدر الطالع 2/ 272 وألدومييلى ص 507 ودائرة المعارف الإسلامية.
(2)
النجوم الزاهرة 7/ 196.
(3)
الضوء اللامع 1/ 221.
(4)
انظر ابن الهائم فى الشذرات 7/ 109 والضوء اللامع 2 رقم 449 وألدومييلى 506، 513 وبروكلمان (الطبعة الألمانية) 2/ 125.
(5)
راجع ابن أبى أصيبعة فى النجوم الزاهرة 7/ 229 والشذرات 5/ 327 وأيضا ألدومييلى (انظر الفهرس) ودائرة المعارف الإسلامية.
على ترجمة نحو أربعمائة طبيب عربى، ويمكن أن نضم إليه الأطباء الذين كانوا ملتفيّن بالظاهر بيبرس مثل شهاب (1) الدين بن فتح الدين القيسى ورشيد (2) الدين أبى حليقة النصرانى.
وما يلبث أن يلى السلطنة بعد بيبرس المنصور قلاوون (678 - 689 هـ) فينشى بيمارستانا ضخما يقول فيه ابن تغرى بردى: «وهذا البيمارستان وأوقافه وما شرطه قلاوون فيه لم يسبقه إلى ذلك أحد قديما ولا حديثا شرقا ولا غربا (3)» وقد جعله أقساما كبيرة: قسما للمرضى بالحميات، وقسما للرمد ومرضاه، وقسما للجرحى، وقسما لمن به إسهال، وجعل فيه قسما للنساء، وأمكنة للأدوية وتركيبها، وأمكنة لإعداد الطعام وأخرى للمحاصيل، وجعل فيه فراشين لخدمة الرجال وفراشات لخدمة النساء ونصب فيه الأسرّة للمرضى وأمدّها بكل ما تحتاج إليه من فرش. وأهم من ذلك كله أنه جعل فيه قاعة لرئيس أطبائه، كى يلقى فيها دروسه على طلاب الطب (4). وبذلك كان المارستان مستشفى وكلية طب معا، وقد شاهده ابن بطوطة بعد وفاة قلاوون بنحو أربعين عاما سنة 727 للهجرة فقال:«أما المارستان عند قبر قلاوون فيعجز الواصف عن محاسنه، وقد أعدّ فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر» . ويذكر أن مجباه (نفقاته) كان ألف دينار كل يوم (5)».
وتلقانا فى عهد قلاوون بجانب كلية الطب التى كانت ملحقة بمارستانه كما ذكرنا مدرسة للطب سميت المدرسة (6) المهذّبية نسبة إلى منشئها الطبيب مهذب الدين محمد بن أبى حليقة المار ذكره فى عهد بيبرس، وكان قد خدمه مع أبيه وأسلم فى أيامه وسمى محمدا، ويقول ابن أبى أصبيعة: مولده سنة 620 وإنه قرأ على أبيه الصناعة الطبية وصور أقسامها الكلية والجزئية وحصل معانيها العلمية والعملية (7)». . وبلغ من ازدهار دراسة الطب حينئذ أنه كان يدرس فى المساجد الجامعة، إذ نجد السلطان لاجين (696 - 697 هـ) يعمر جامع ابن طولون، ويرتب فيه دروسا-كما مر بنا-للفقه على المذاهب الأربعة ودرسا للحديث النبوى، وبجانب ذلك يرتّب فيه درسا للطب (8)، وممن درّسوا فيه بعد زمنه فى القرن الثامن الطبيب شمس (9) الدين محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن المصرى المتوفى سنة 776.
(1) ابن أبى أصيبعة ص 585.
(2)
ابن أبى أصيبعة ص 590.
(3)
النجوم الزاهرة 7/ 327.
(4)
راجع فى هذا المارستان خطط المقريزى 3/ 386 وما بعدها.
(5)
رحلة ابن بطوطة (طبع المطبعة الأزهرية) 1/ 20.
(6)
خطط المقريزى 3/ 371.
(7)
ابن أبى أصيبعة ص 598.
(8)
خطط المقريزى 3/ 148.
(9)
حسن المحاضرة 1/ 546.
ويكفى لبيان ازدهار دراسة الطب حينئذ أن تنتج مصر شيخ الأطباء لزمنه علاء الدين على بن أبى الحزم المعروف باسم ابن النفيس (1) العلامة فى فنه الذى لم يكن فى زمنه من يضاهيه فى الطب والعلاج والعلم، كما يقول ابن تغرى بردى، ويكفيه فخرا ما ذكره ألدومييلى وغيره من الغربيين من أنه اكتشف لأول مرة الدورة الدموية الثانية، مسجلا بذلك كشفا طبيا خطيرا لم يستطع الأطباء منذ جالينوس إلى زمنه اكتشافه. ومن كتبه «الشامل فى الطب» و «المهذب فى الكحل» وشرح القانون فى الطب لابن سينا. وقد توفى سنة 687 بعد أن أوقف داره وأملاكه وجميع ما يتعلق به على مارستان قلاوون الذى كان يعمل به رئيسا لأطبائه. وولى رياسة الأطباء بعده مهذب الدين بن أبى حليقة المار ذكره، ويسرد السيوطى فى حسن (2) المحاضرة أسماء طائفة من الأطباء فى القرن الثامن الهجرى. ومن الأطباء الذين لم يذكرهم محمد (3) بن الأكفانى المتوفى سنة 748 ويبدو أن تخصصه الأكبر كان فى طب العيون، ومن مصنفاته فى الرمد «كشف الغين فى أحوال العين» وله كتاب فى الطب المنزلى سماه «غنية اللبيب» وكتاب فى الفصد سماه «نهاية القصد» وكتاب فى الأحجار النفيسة سماه «نخب الذخائر» ومن كتبه:«إرشاد القاصد إلى أقصى المقاصد» وهو مختصر جامع لفنون شتى تبلغ ستين فنا نشره شبرنجر فى المكتبة الهندية. واشتهر بعده فى طب العيون صدقة (4) بن إبراهيم الشاذلى، ويغلب أن يكون تلميذه إذ هو من أطباء النصف الثانى من القرن الثامن الهجرى المقابل للقرن الرابع عشر الميلادى. ومما يدل على شهرة مصر لأيام المماليك فى الطب والأطباء ما يذكره ابن إياس فى كتابه بدائع الزهور من أن السلطان بايزيد العثمانى أرسل فى سنة 795 رسولا إلى السلطان برقوق يسأله أن يبعث إليه بطبيب مختص بأمراض المفاصل فأرسل إليه رئيس الأطباء ابن صغير ومعه أدوية كثيرة لعلاجه (5). ويظل هذا النشاط الطبى فى مصر حتى نهاية زمن المماليك إذ نلتقى فى زمن قانصوه الغورى (906 - 921 هـ) بالطبيب محمد القوصى، وإليه قدّم كتابه «كمال الفرحة فى دفع السموم وحفظ الصحة» ومنه مخطوطة بدار الكتب المصرية.
(1) انظر فى ابن النفيس النجوم الزاهرة 7/ 377 والسبكى 8/ 305 وحسن المحاضرة 1/ 542 والشذرات 5/ 401 وتاريخ ابن الوردى 2/ 234 وروضات الجنات 494 والدارس فى أخبار المدارس 2/ 131 والدومييلى ص 323، 326 وكتاب بول غليونجى عنه.
(2)
حسن المحاضرة 1/ 543 وما بعدها.
(3)
البدر الطالع للشوكاتى 2/ 79 وانظر ألدومييلى ص 505، 510.
(4)
ألدومييلى ص 510.
(5)
راجع بدائع الزهور فى السنة المذكورة.
ومعروف أن عناية العرب بالبيطرة ومداواة الخيل قديمة، وكان طبيعيا والطب ينشط فى مصر النشاط السالف فى أيام المماليك أن يعنى بعض أطبائها بالطب البيطرى، ومن خير ما ألّف فيه كتاب لطبيب بيطرى كان المشرف على خيل السلطان الناصر محمد بن قلاوون، هو أبو بكر (1) بن المنذر بن بدر المتوفى سنة 741 واسم الكتاب «كامل الصناعتين: الزردقة والبيطرة» والزردقة دراسة الخيل والبيطرة: علم أمراض الخيل وأدويتها وقد ترجم الكتاب إلى الفرنسية الدكتور بيرّون، وترجمه إلى الألمانية حديثا فرونر. ولأيدمر (2) الجلدكى المتوفى سنة 743 (وقيل بل سنة 763) كتب فى المعادن منها، المصباح فى علم المفتاح وهو مطبوع فى بومباى، وكتاب نتائج الفكر فى أحوال الحجر وهو مطبوع فى القاهرة.
وتكاد تتوقف هذه الحركة العلمية الدائبة فى زمن العثمانيين، ولكن تظل منها بقايا غير قليلة فى الجامع الأزهر وفى بعض المدارس. وتظل مصر ترعى العلوم الإسلامية واللغوية وبعض ما تبقى فيها من علوم الأوائل، ومن يرجع إلى كتاب الكواكب السائرة فى علماء المائة العاشرة لنجم الدين الغزى المتوفى سنة 1016 وكتاب خلاصة الأثر فى أعيان القرن الحادى عشر للمحبى المتوفى سنة 1111 سيجد فيهما كثيرين يعنون بالرياضيات والفلك مثل عبد القادر المنوفى الفلكى بالمدرسة الغورية المتوفى سنة 980 ومصطفى بن شمس الدين الدمياطى المتوفى سنة 1038 وعبد الله المقدسى الأزهرى المتوفى سنة 1070. ويسوق الجبرتى فى تاريخه تفاصيل كثيرة عن الرياضيين والفلكيين فى القرن الثانى عشر الهجرى ويذكر فى طليعتهم رضوان (3) الفلكى المتوفى سنة 1122 صاحب الزيج الرضوانى، ويقول الجبرتى إنه حرره على أصول الرصد السمرقندى وزيجه المشهور الذى صنعه أوليغ بك سنة 840 هـ/1437 م. وينوّه الجبرتى بأن أباه كان يملك نسخة من هذا الزيج النفيس، وكذلك كان يملك نسخة منه حسن (4) أفندى قطة، فكان بالقاهرة منه نسختان غير النسخة التى كان يملكها-فيما نظن-رضوان الفلكى. ويشيد الجبرتى بأبيه فى الرياضيات والفلك، وبتلميذ من تلاميذ رضوان هو جمال الدين يوسف (5) الكلارجى المتوفى سنة 1153 ويقول إنه اخترع ما لم يسبق به، ويذكر أنه ألف كتابا فى الظلال ورسم المنحرفات والبسائط والمزاول والأسطحة، وأن له فى منازل القمر كتابا أسماه «كنز الدرر فى أحوال منازل القمر» .
(1) ألدومييلى ص 505.
(2)
ألدومييلى ص 506، 513.
(3)
تاريخ الجبرتى (طبعة بولاق) 1/ 74.
(4)
الجبرتى 2/ 70.
(5)
الجبرتى 1/ 164.