الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - المقامات
معروف أن المقامة حديث قصصى قصير يصور كيف يحتال أديب متسوّل على سامعيه بسجعه وأساليبه الرشيقة، فيستخرج الدراهم والدنانير من جيوبهم، وهو جوّاب آفاق يظهر فى بلدان كثيرة أديبا متسولا يخلب الجماهير ببيانه وبلاغته، وبديع الزمان الهمذانى هو أول من ابتكر هذه الأحاديث القصصية، على نحو ما هو معروف عن مقاماته، ونسج على منواله الحريرى فى مقاماته المشهورة.
وأكبّ الناس على مقاماتهما إكبابا شديدا مما دفع كثيرين من الأدباء فى الأقطار العربية المختلفة إلى محا كاتهما ف هذا الفن البديع، تارة يبنونه على الشحاذة الأدبية مثلهما، وتارة يستقلون عنهما مكتفين فيه بضرب من الحديث القصصى الفكه. وقد يتركون القصص جانبا، ويبنون المقامة على الوعظ أو على عرض مسائل علمية، أو على وصف الحيوانات، أو وصف البساتين والحوار بين الأزهار، وغير ذلك من موضوعات شتى. ولظافر الحداد الذى ترجمنا له بين الشعراء والذى توفّى بعد الحريرى بنحو عشر سنوات مقامة (1)، صوّر فيها نفسه وقد أصبح ذات يوم تاثقا إلى لقاء بعض الأدباء، ومطرته الح، لم يلبث أن جاءته منهم رفقة، فتلقاهم بالبشر والسرور وأخذ فى الحديث معهم، حتى دن وقت الغداء فأسرّ إليه غلام أن ليس عندهم للإنفاق إلا الإملاق، وبينما هو يفكر فى وسيلة لإنقاذ الموقف إذا الباب يقرع وإذا رسول شّواء كان قد خلصه من حبس الشرطة يرسل إليه بإناء كبير ملئ بأرز ولحم وسكر. وبعد حوار مع غلامه هل يرجعه للشواء أو يقبله، يقنعه بقبوله. ويشبع الضيفان، ولا يجد عنده شيئا من فاخر الحلوى يقدمه لهم. ويقدم قصيدة يعتذر بها عن ضيق حاله، ويستفزهم الضحك والطرب، ويعودون إلى حديثهم العذب حتى غروب الشمس، ويستهل ظافر مقامته على هذا النمط:
«أصبحت ذات يوم فى منزلى، وقد كلّ جنانى وبنانى ولسانى وإنسانى (2)، من الدّأب فى الطلب، والإكباب على الكتب، ومتابعة المراجعة، فى النسخ والمطالعة، بين معنى أحكمه، أو
(1) انظر ديوان ظافر ص 349
(2)
إنسانى: يريد إنسان عينه
خطّ أرقمه (1)، فتاقت النفس إلى الإحماض بمفاكهة أديب، والارتياض بمذاكرة لبيب، وإذا الغلام قد دخل وأسرع، وقال: الباب يقرع. فقلت له: ما الشان؟ فقال جماعة من الإخوان، منهم فلان، فذكر لى كل صديق صدوق، ورفيق رفيق، فقلت: ويحك عجّل بفتح الباب، وأذن للأحباب، فهم نزهة النفس، وثمرة الأنس».
وتمضى المقامة بهذا السجع الخفيف، الذى يكاد يطير عن الأفواه طيرانا بعذوبته وقصره، وحسن الاختيار للفظه. ويلقانا بأخرة من أيام الدولة الفاطمية الرشيد (2) بن الزبير المتوفى سنة 562 وهو أخو المهذب الذى ترجمنا له بين الشعراء وكان شاعرا مثله، ويقول ابن خلكان له ديوان شعر، وكان من أهل الفضل والنباهة والرياسة صنّف كتاب جنان الجنان ورياض الأذهان فى شعراء عصره، وكان تكملة لكتاب اليتيمة للثعالبى وسقط من يد الزمن، وقال العماد الأصبهانى عنه:«أوحد عصره فى علم الهندسة والرياضيات والعلوم الشرعيات والآداب» ويقول ياقوت عنه: «كان كاتبا شاعرا، فقيها نحويا لغويا عروضيا مؤرخا منطقيا. مهندسا، عارفا بالطب والموسيقى والنجوم متفننا» . ومن كتبه كتاب منية الألمعىّ وبلغة المدعى، وهو موسوعة علمية.
وصوّر معارفه الكثيرة فى مقامة تسمى المقامة الحصيبية (3)، استعرض فيها جوانب من معارفه العلمية الواسعة، وهو يدير فيها الحوار بينه وبين طائفة من العلماء بادئا بعالم نحوى موردا عليه من النحو ومسائله ما يبهره. ويصنع نفس الصنيع بعالم بلاغى، ويتوالى حواره أو حديثه مع علماء العروض والفقه وأصوله والتفسير والتأويل والفلسفة والمنطق والهندسة والحساب والرياضة وعلم الفلك والهيئة والأجرام والكواكب العلوية وعلم الطب. حتى إذا أنهى المقامة تلاها بشرح لما جاء فيها من مسائل هذه العلوم ومصطلحاتها. والمقامة تموج بالسجع، من ذلك قوله فى مطالع مقامته ناعيا على من لا يعرفون سوى علم أو علمين ويعمدون إلى التزيّى بزى الزهاد والصوفية احتيالا على الناس ليسبغوا عليهم من أموالهم، وهم لا يقدرون العلوم حق قدرها فضلا عن التغلغل إلى مسائلها ومشاكلها:
«أحسبتم يا أعلام الضلال أن كل من نظر فى علم أو علمين وحفظ مسألة أو مسألتين ثم قصّر سرباله (4)، وقصّ سباله (5)، مظهرا للنسك والزهادة، متعرضا للاستفادة فى معرض
(1) أرقمه: أكتبه
(2)
انظر فى الرشيد وترجمته الخريدة (قسم شعراء مصر) 1/ 200 وابن خلكان 1/ 160 والشذرات 4/ 197، 203
(3)
من هذه المقامة مخطوطة بدار الكتب المصرية ومخطوطتان بمكتبة الإسكندرية
(4)
سرباله: ثوبه
(5)
سباله: شاربه
الإفادة، يستوهب بذلك الطعام، ويستجلب الحطام (1)، ويجلب الحرام، ويسمى بالشيخ الإمام، قد صلح لأن يفصل بين العلوم، ويميز بين المحمود منها والمذموم».
والمقامة كسابقتها ليس فيها أديب شحاذ يروى حيله وما يحسن من الأساليب الأدبية، فقد تحولت من بعض الوجوه إلى ما يشبه الرسائل إذ تتناول موضوعا يحلّ صاحبها فيه محل أبى الفتح الإسكندرى عند بديع الزمان وأبى زيد السّروجى عند الحريرى.
ويعرض الأدفوى فى الطالع السعيد طائفة من هذه المقامات أو الرسائل على ألسنة كتابها من أدباء الصعيد، من ذلك مقامة (2) أو رسالة لمحمد بن يوسف بن نحرير المتوفى بعد سنة 665 يمدح فيها أميرا ويصف خروجه إلى الصيد، من ذلك قوله فيها:
والمقامة على هذا النحو قطع من الوصف المسجوع البارع للخيل ولكلاب الصيد.
(1) الحطام: متاع الحياة
(2)
الطالع السعيد للادفوى (طبع مطبعة الجمالية) ص 367
(3)
الأرومة: الأصل، الأكرومة: إكرام
(4)
مسوّمة: معلمة لأصالتها
(5)
جون أدهم: أسود
(6)
ريم: ظبى أبيض. والفرس الأشهب: يخالط بياضه سواد أو حمرة
(7)
الهملاج: الفرس فى سيره بخترة.
(8)
أديمه: جلده.
(9)
بهار: زهر أبيض.
(10)
الأيم: الحبة الذكر.
وتكثر المقامات فى أيام المماليك، وتأخذ طابع المناظرات والمفاخرات، وكأنما نسى أصلها عند الهمذانى والحريرى نهائيا، فلا بطل صاحب حيل، ولا قصص، وإنما حجاج وجدال وتوليد لا يكاد ينتهى للأدلة والبراهين، مع السفسطة والمغالطة وقلب المحاسن مساوى بغرض الإفحام وإظهار القدرة على القهر والغلبة، ومع المبالغات والإفراط فيها بهدف الاستعلاء. ومن طريف هذه المقامات والمفاخرات المفاخرة بين السيف والقلم لابن نباتة (1)، وفيها يستهل القلم مفاخرته بقوله تعالى:{(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ)} وهى براعة استهلال واضحة، وما يلبث أن يقول ابن نباتة عنه.
ويستمر القلم فى هذه المفاخرة، فهو الذى يأمر بالجهاد والسيف نائم فى قرابه، وهو الذى يأمر بالعدل والإحسان، مع المحاماة عن الدين وما ينزل بالأعداء من الرعب. وكأن ابن نباتة يريد ان يعلى فضله على السيف حتى فى الحرب وجهاد الأعداء. ويستغفر القلم من الشرف وخيلائه والخيلاء وكبريائه. وينبرى السيف مدافعا عن حماه مستهلا كلامه بقوله تعالى:{(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)} ويحمد الله الذى جعل الجنة تحت ظلال السيوف. ويفاخر القلم بعزمه الثاقب وفتوحه، مما جعل الناس يدخلون فى دين الله أفواجا. وينتفض القلم فى دواته ويضطرب على وجه القرطاس، وينفجر قائلا للسيف فى حدة وعنف.
«أتفاخرنى وأنا للوصل وأنت للقطع، وأنا للعطاء وأنت للمنع، وأنا للصلح وأنت للضّراب، وانا للعمارة وأنت للخراب، وأنا المعمر، وأنت المدمر. . وأنا ذو اللفظ المكين وأنت
(1) خزانة الأدب للحموى ص 130، 545
(2)
قادمة الأجنحة: ريشات أربع كبار فى مقدمة الجناح
(3)
عقاته: طلاب معروفه.
(4)
الخواطل: الحائدة عن الصواب
(5)
النقع: غبار الحرب. والوعد يكون فى الخير والإبعاد فى الشر