الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على ضناه وكأنما خصره يشكو من ثقل أردافه، وقد استعمل يشكى مثل العامية بدلا من يشكو الفصيحة، ويقول فى إحدى الجوارى.
دبّت له ذؤابة
…
كحيّة من خلفه
تحمى ضعيف خصره
…
من خارجىّ ردفه
وهو يشبه الضفيرة بحية وكأنها تحمى خصره من ثقل ردفه، وقد عبر عنه بأنه من الخوارج مبالغة، ويقول:
كلّ فعال الحبّ محمودة
…
وإن تجافى وتجنّى وتاه
فوصله قطع لداء الأسى
…
وهجره قطع لقول الوشاه
فهو يرتضى من محبوبته حتى هجرها ليقطع ألسنة الوشاة، وهو جانب فيه من التظرف والرقة ورهافة الشعور ما يمتاز به أهل القاهرة، وله قصيدة بديعة فى دولاب (ساقية) روض صوّره فيها ينوح ويئن دائما لفراقه روضه إذ كان شجرة ضخمة فى إحدى الرياض قطّع أوصالها غبى ودقّ عظمها فى ضلوعها، فهى ماتنى تبكى على عهدها بالرياض، وماتنى عيونها جارية بالدموع. وفى الحق أنه كان شاعرا بارعا، ومرّ بنا أنه يكوّن مع تلميذه يحيى الأصيلى وتلميذ يحيى الشاعر يوسف المغربى مدرسة فى الغزل زمن العثمانيين كانت تمتاز بدقة الحس ورهافة الشعور.
2 - شعراء الفخر والهجاء
الفخر والهجاء غرضان قديمان من أغراض الشعر العربى، فمنذ الجاهلية يتغنى الشعراء بمفاخرهم الذاتية ومفاخر قبائلهم وأقوامهم، وبالمثل يتغنون بأهاج فردية تتصل بفرد بعينه، وأخرى جماعية تتصل بالقبائل والأقوام ومثالبهم. ولا ريب فى أن وتر الفخر الذى شدّه الشعراء إلى قيثاراتهم كان وترا خصبا، إذ وقّع الشعراء عليه كثيرا من الألحان الخلقية الرفيعة، مما يتصل بالمروءة والكرم والوفاء والكرامة وغير ذلك من الفضائل الحميدة، كما وقعوا عليه كثيرا من الألحان الحماسية التى تصور بسالتهم الحربية وما أذاقوه أعداءهم من الهزائم الساحقة. وظلت هاتان المجموعتان من الألحان طوال الحقب التالية، وظل العرب فى كل مكان يردّدونها صحائف تربية
مثالية وأناشيد حربية حماسية. وشعراء مصر منذ نشط فيها الشعر يشاركون فى المجموعتين، يشارك فيهما الأمراء وأبناء الشعب، من ذلك قول العباس بن أحمد بن طولون مؤسس الدولة الطولونية (1):
لله درّى إذ أعدو على فرسى
…
إلى الهياج ونار الحرب تستعر
وفى يدى صارم أفرى الرءوس به
…
فى حدّه الموت لا يبقى ولا يذر
والبيتان من قصيدة حماسية ملتهبة، ومعروف أنه أخطأ فى هذه الحماسة وما اقترن بها من شجاعة، إذ وجّهها إلى أبيه ثائرا عليه. وأخفقت ثورته. وينزل مصر فى أيام كافور الإخشيدى المتنبى، وتستدير حوله ندوة كبيرة تروى شعره وتتدارسه وكلّ ما فيه من فخر مضطرم وحماسة ملتهبة. وتستقبل مصر الدولة الفاطمية ويدخلها المعز الفاطمى، ومعه ابنه الشاعر النابه تميم، وله فخر كثير، وسنفرد له ترجمة عما قليل، ونلتقى بعده بولى الدولة بن خيران صاحب ديوان الإنشاء بمصر فى عهد الظاهر والمستنصر المتوفى سنة 431 ونراه يبدئ ويعيد فى الفخر بشعره وكتاباته من مثل قوله (2):
ولقد سموت على الأنام بخاطر
…
الله أجرى منه بحرا زاخرا
فإذا نظمت نظمت روضا حاليا
…
وإذا نثرت نثرت درّا فاخرا
فهو يفتخر بخواطره الغزيره التى تنسكب من ذهن كأنه بحر زاخر، وهو يهدى منها إلى الناس والآفاق أشعارا رائعة ورسائل بديعة. ونلتقى بغير شاعر فاطمى يفخر بنفسه فخرا حماسيا ملتهبا على شاكلة قول الحسن بن زيد الأنصارى (3):
منال الثّريّا دون ما أنا طالب
…
فلا لوم إن عاصت علىّ المطالب
وإنى وإن لم يسمح الدهر بالمنى
…
فلى فى كفالات الرماح مآرب
تقرّب لى مستبعدات مطالبى
…
جيادى وعزمى والقنا والقواضب
فما يطلبه ويتمناه فوق الثريا فى أعلى عليين من السموات، وطبيعى أن لا تناله يده أحيانا، ومع ذلك هو لا ييأس أن ينال من الدهر مطالبه ومآربه بفضل رماحه وجياده وسيوفه القواضب
(1) النجوم الزاهرة 3/ 21.
(2)
معجم الأدباء 4/ 8.
(3)
الخريدة (قسم شعراء مصر) 2/ 69.
القاطعة وعزمه الذى لا يفلّ، إنه مملوء فتوة وقوة صلبة ينيلانه كل ما يتمنى. وكان يعاصره الرشيد بن الزبير أخو المهذب الذى ترجمنا له فى الفصل الماضى وقلنا هناك إنه وقعت لأخيه الرشيد محنة باليمن إذ ذهب رسولا عن الدولة الفاطمية إلى أحد دعاتها فسجنه وهمّ بقتله مما جعل المهذب يستعطفه لأخيه بقصيدة رائعة، ردّ عليها بمجرد سماعها حريته، إذ عفا عنه وأطلقه، ونرى الرشيد يعلن فى قوة أن نفسه لم تنكسر ولم يصبها أى وهن بسبب هذا الحادث، يقول (1):
جلّت لدىّ الرّزايا بل جلت هممى
…
وهل يضرّ جلاء الصارم الذّكر
لو كانت النار للياقوت محرقة
…
لكان يشتبه الياقوت بالحجر
لا تّغررنّ بأطمارى وقيمتها
…
فإنما هى أصداف على درر
ولا تظنّ خفاء النجم من صغر
…
فالذّنب فى ذاك محمول على البصر
وهو يقول إنه تحمّل الرزايا والمصائب التى نزلت به جلدا شجاعا، بل لقد جلت همته جلاء السيف الباتر، ويضرب مثلا بالياقوت فالنار مهما اضطرمت لا تحرقه، وإلا كان حجرا لا غناء فيه. وينظر إلى أطماره وثيابه البالية فيقول لصاحبه: لا تغرنك هذه الأطمار الخلقة فإنها أصداف وقشور وأغطية للآلئ ثاقبة، ويضرب مثلا بالنجم فى السماء تستصغر الأبصار رؤيته، والذنب فى الصغر للبصر لا للنجم.
ونمضى إلى زمن صلاح الدين وما حققت مصر فى أيامه من مجد حربى عظيم بسحقها الصليبيين فى ديار الشام واستخلاص بيت المقدس وغيره من أيديهم ومحقهم محقا لا يكاد يبقى منهم ولا يذر. وكان لا بد لمصر من شاعر يتغنى لها بهذا المجد البطولى الذى توّجها به صلاح الدين، وتغنّى ابن سناء الملك أكبر شعرائها حينئذ ببطولة صلاح الدين وجنده المصريين فى قصائد حماسية مضطرمة، كما مر بنا فى ترجمته، وليس ذلك فقط، فقد مضى يفخر فى أشعاره فخرا عارما، وكأن كل ما تجمّع فى صدر صلاح الدين وأبطال جيشه من أحاسيس تجمّع فى صدر ابن سناء الملك وقلبه، فإذا هو يتغنى بمثل هذا النشيد الرائع (2):
سواى يخاف الدهر أو يرهب الرّدى
…
وغيرى يهوى أن يكون مخلّدا
ولكننى لا أرهب الدهر إن سطا
…
ولا أحذر الموت الزّؤام إذا عدا (3)
(1) ابن خلكان 1/ 162.
(2)
الديوان ص 165.
(3)
الزؤام: السريع.
ولو مدّ نحوى حادث الدّهر طرفه
…
لحدّثت نفسى أن أمدّ له يدا
توقّد عزمى يترك الماء جمرة
…
وحلية حلمى تترك السيف مبردا
وأظمأ إن أبدى لى الماء منّة
…
ولو كان لى نهر المجرّة موردا
ولو كان إدراك الهدى بتذلّل
…
رأيت الهدى أن لا أميل إلى الهدى
وإنك عبدى يا زمان وإننى
…
على الكره منى أن أرى لك سيّدا
ولو علمت زهر النجوم مكانتى
…
لخرّت جميعا نحو وجهى سجّدا
وكأنه لم يعبّر فى هذه الأنشودة الفريدة عن شعور كل مصرى لزمنه حمل السلاح وسفك به دماء الصليبيين المعتدين الآثمين فحسب، بل لقد عبّر بها عن شعور كل مصرى على مر الزمن بأمجاد أمته الحربية والحضارية. وإنه ليشمخ بنفسه فى أعلى الأفلاك والسموات، فإذا هو لا يرهب الدهر ولا يرهب الموت الزؤام، ولو مد الدهر طرفه إليه لنازله بعزم صادق يشعل الماء جمرا ملتهبا ويردّ السيف كليلا صلدا لا يقطع. ويمتلئ صدره بإحساس الكرامة، حتى إنه ليظمأ إن أبدى له الماء منّة، بل إنه ليموت ظمأ حتى لو كان نهر المجرة مورده وحقق له وروده كل ما أمّله، وحتى الهدى لو كان إدراكه بشئ من الهوان لرفضه. ويبلغ من استصغاره للدهر وأحداثه أن يشعر فى قوة بسيطرته عليه حتى كأنما ذلّ له ودان، بل حتى كأنما أصبح له عبدا مسترقّا، وهو مع ذلك يشعر فى كبرياء بتعاظم شديد عليه، حتى ليقول إن النجوم الساطعة لو رأت وجهه لخرت ساجدة تقدم له التراتيل، وكأنما تجسدت فى روحه مصر الخالدة الجديرة بكل تقديس.
ومن طريف ما يلقانا من الفخر بعده فخر ابن نباتة الكثير بشعره وكان حامل لواء الشعر فى زمنه، ومن قوله:
من مبلغ العرب عن شعرى ودولته
…
أنّ ابن عبّاد باق وابن زيدونا
إذا رأيت قوافيها وطلعتها
…
فقد رأت مقلتاك البحر والنّونا
كأنّ ألفاظها فى سمع حسّدها
…
كواكب الرّجم يحرقن الشياطينا
وهو يقول إن من سمع شعره عرف أن الأندلس لم تنس، فلا تزال حية نضرة ولا يزال شعراؤها العظام من أمثال المعتمد بن عباد أمير إشبيلية وشاعره الوجدانى ابن زيدون. وقد ورّى فى البحر والنون يريد بهما بحر الشعر ونون القافية فى القصيدة لا الحوت، ويسمّى حساده باسم
الشياطين تسقط عليهم أبيات قصيدة كشهب الرّجم فيحترقون ويستحيلون رمادا تذروه الرياح.
وقلما نلتقى فى الحقبة العثمانية بفخر إلا ما يتصل بالشمائل والأخلاق الكريمة.
ومنذ سال الشعر على ألسنة المصريين سال معه هجاء كثير، وكان الشعراء يقذفون بسهامه- كما مر بنا فى غير هذا الموضع-الولاة والقضاة كلما انحرفوا عن الصراط السوىّ على نحو ما يصور ذلك كتاب الولاة والقضاة للكندى. ومعروف أن أحمد بن طولون استقل بمصر وأسس بها الدولة الطولونية، وضم إلى لوائه الشام، وله أعمال مجيدة كثيرة، ولم يكن يخلو منه ظلم وعسف وسفك للدماء كما يقول ابن تغرى بردى وفى كتاب الولاة والقضاة شاعر يسمى محمد بن أبى داود كان كثيرا ما يهجوه مزريا على ما شاده من المارستان وغير المارستان، وفيه يقول من أشعار مقذعة كثيرة حتى بعد وفاته:
وكم ضجّة للناس من خلف ستره
…
تضجّ إلى قلب عن الله مغفل
فقلبه غافل عن ذكر ربه وعن حوائج الناس وهم يضجون خلف حجابه وحرسه. ولا نشك فى أن ابن أبى داود ظلم ابن طولون، فقد كان يعنى بالرعية وبنى جامعه المشهور وعهد إلى بعض العلماء بالتدريس فيه. وأهاجى المتنبى فى كافور الإخشيدى مشهورة، وقد ظلمه بدوره ظلما بيّنا.
وكان المصريون قد احتفوا به حين نزوله فى الفسطاط وعقدوا له ندوة كبيرة ظلت طوال مقامه بين ظهرانيهم، وممن لزمه فيها وروى عنه شعره صالح بن رشدين، وعبيد الله بن أبى الجوع وله نقائض وأهاج مع صالح بن مؤنس، وله يقول صالح (1):
هاجيك فيما قاله مادح
…
فأنت فى صفقتك الرابح
يا أيها الصّعو الذى لم يزل
…
يرقص حتى دقّه الجارح (2)
وهو يسمى هجاءه له مدحا لأن فيه ذكرا له، ومثله ليس شيئا حتى يذكر، ويقول له إنك عصفور صغير لا يزال يرقص على الأغصان من غصن إلى غصن حتى يدق عنقه صقر أو نسر جارح. ونمضى إلى زمن الدولة الفاطمية وما أخذت تنشره من عقيدتها الشيعية الغالية الرافضة.
وما زعمته للأئمة من نسبة إلى عالم القدس وأنهم من جوهر روحى مصفى وأنهم يعلمون الغيب
(1) اليتيمة 1/ 389.
(2)
الصعو: العصفور الصغير.
مما عرضنا له فى غير هذا الموضع. ويروى أن الخليفة العزيز بن المعز صعد المنبر فى يوم جمعة، فرأى ورقة كتب فيها شاعر مصرى هذين البيتين (1):
بالظلم والجور قد رضينا
…
وليس بالكفر والحماقه
إن كنت أعطيت علم غيب
…
فقل لنا كاتب البطاقه
فتناولها العزيز وقرأها ولم ينبس ببنت شفة.
وظل شعراء مصر طويلا مغاضبين لهذه الدولة معرضين عنها، كما أسلفنا، وكان مما أثار حفيظتهم بالإضافة إلى نحلتها المنحرفة اتخاذها وزراء لها من اليهود ممن أعلنوا إسلامهم، وكان كثير من المصريين يشك فى صحة إسلامهم وأنهم يتخذون ذلك ذريعة للاستيلاء على الوزارة والمناصب الكبرى فى الدولة، وكان منهم صدقة بن يوسف الفلاحى وزير الخليفة المستنصر واتخذ أبا سعد التّسترىّ اليهودى مدبرا للدولة معه فصاح أحد الشعراء المصريين بالخليفة ساخرا غاضبا (2):
يهود هذا الزمان قد بلغوا
…
غاية آمالهم وقد ملكوا
العزّ فيهم والمال عندهم
…
ومنهم المستشار والملك
وهى سخرية من المستنصر قاتلة، مما اضطره إلى النزول على إرادة الشاعر والشعب، فاعتقل الوزير الفلاحى ولقى حتفه على يده. وعلى نحو ما كان المصريون يتعرضون للفاطميين بالهجاء كانوا كذلك يتعرضون لوزرائهم هاجين هجاء مرّا على نحو ما هجا الشاعر جاسوس الفلك الجرجرائىّ وزير المستنصر وكان أقطع اليدين لخيانة ظهرت عليه فى أيام الحاكم، فلما ولى الوزارة استعمل الأمانة الزائدة والاحتراز الشديد فخاطبه جاسوس الفلك قائلا (3):
يا أحمقا إسمع وقل
…
ودع الرقاعة والتحامق
أمن الأمانة والتّقى
…
قطعت يداك من المرافق
ولم يكن الوزير مصرى الأصل بل كان من جرجرايا من أرض العراق. واشتهر الناجى المصرى بمقطعاته الهجائية الكثيرة فى الأفضل بن بدر الجمالى وزير الخليفة الآمر، وفيه يقول (4):
(1) النجوم الزاهرة 4/ 116
(2)
حسن المحاضرة 2/ 201
(3)
ابن خلكان 3/ 408
(4)
الخريدة 2/ 103.
قل لابن بدر مقال من صدقه
…
لا تفرحن بالوزارة الخلقه
إن كنت قد نلتها مراغمة
…
فهى على الكلب بعدكم صدقه
وهو هجاء مقذع إقذاعا شديدا. ونرى داود بن مقدام المحلى الملقب برضى الدولة المار ذكره يهجو بعض أصحاب الدواوين وما كانوا عليه من فساد فى جمعهم للضرائب، يقول (1):
وكتّاب لهم أبدا حمات
…
تعدّ لها الرّقى مثل الصّلال (2)
بأيد تبتدرن إلى الرّشاوى
…
كأيدى الخيل أبصرت المخالى
فكأنهم يشبهون الزنابير والعقارب والأفاعى، إن لم يقدم لهم الرشاوى لسعوا من يجمعون منهم الضرائب كما يلسع الزنبور والعقرب بحمتهما أو إبرتهما وكما يلسع الصّل أو الأفعى بسمه القاتل.
ونلتقى فى أثناء ذلك بدعابات ساخرة كقول ابن قادوس يتهكم على الرشيد بن الزبير وكان شديد السواد (3):
إن قلت من نار خلق
…
ت وفقت كلّ الناس فهما
قلنا صدقت فما الذى
…
أطفاك حتى صرت فحما
وهى دعابة قد يقبلها الرشيد لما فيها من فكاهة خفيفة، ولابن قادوس أحيانا هجاء ملئ بالسموم وخاصة ممن يضيق بهم كقوله فى منافق ما يزال يتلوّن لكل شخص باللون الذى يعجبه، يقول (4):
حوله اليوم أناس
…
كلّهم يزهى برائه
وهو مثل الماء فيهم
…
لونه لون إنائه
ونمضى إلى زمن الأيوبيين، ويلقانا ابن سناء الملك ساخطا على بعض معاصريه، يكويهم بسياط هجائه وخاصة من يسمى ابن عثمان، حتى ليود أن يصفع بالنعال على حد قوله (5):
وكم له من وقعة
…
لم تبق منه باقيه
وما عليه قطّ من
…
صفع النّعال واقيه
(1) الخريدة 2/ 47.
(2)
حمات: جمع حمة وهى إبرة الزنبور والعقرب. والصلال: الأفاعى.
(3)
الخريدة 1/ 229.
(4)
الخريدة 1/ 233
(5)
الديوان ص 876.
فهو يتصوّره يصفع بالنّعال ولا مغيث له ولا مجير، وللبهاء زهير بعض مقطوعات فى الهجاء، وهو لا يقذع فيه، بل يفسح للدعابة والوخز الخفيف الذى لا يدمى، وقد لا يتعدى وصفه بالثقل كقوله (1):
ربّ ثقيل لبغض طلعته
…
أخشاه حتى كأنّه أجلى
وكلما قلت لا أشاهده
…
ألقاه حتى كأنه عملى
وكان الشعراء يتعرضون أحيانا للوزراء يهجونهم كقول ابن مطروح يهجو هبة الله بن صاعد الفائزى مستغلا اسم أبيه فى هجائه (2):
لعن الله صاعدا
…
وأباه فصاعدا
وبنيه فنازلا
…
واحدا ثم واحدا
وهو كصاحبه البهاء زهير لا يتسع فى هجائه ولا يقذع فيه ولا يفحش.
ويظل الشعراء طوال عصر المماليك يريشون سهام الهجاء، ويلقانا فى أوائله الجزار والوراق ولهما أهاج فكهة كثيرة سنعرض لها فى غير هذا الموضع، وكان يعاصرهما البوصيرى شاعر المديح النبوى الرائع، وكان يعمل موظفا فى دواوين الأقاليم، وله هجاء عنيف فى طوائف الموظفين جميعا أو كما يسميهم المستخدمين من كتّاب خراج وقضاة وغير قضاة، ومن قوله فيهم (3):
ثكلت طوائف المستخدمينا
…
فلم أر فيهم رجلا أمينا
أقاموا فى البلاد لهم جباة
…
لقبض مغلّها كالمقطعينا
تحيّلت القضاة فخان كلّ
…
أمانته وسمّوه الأمينا
وكم جعل الفقيه العدل ظلما
…
وصيّر باطلا حقّا مبينا
فهو يشكو من فساد جميع الموظفين، فعمال الخراج كأنهم من أصحاب الإقطاع وهم يجمعون ما تغله إقطاعاتهم، والقضاة يخونون الأمانة والفقهاء يجعلون بفتاواهم المضللة الظلم عدلا والباطل حقا، ويردد ذلك فى أشعار كثيرة تصور فسادهم جميعا وكيف كانوا يجمعون ثروات طائلة بطرق غير مشروعة. وسنرى لابن دانيال أهاجى فكهة كثيرة فى حديثنا عن شعراء الفكاهة. ومما يلاحظ
(1) البهاء زهير للشيخ مصطفى عبد الرزاق ص 22.
(2)
النجوم الزاهرة 7/ 58.
(3)
الديوان ص 218.
أن المصريين قلما يفحشون فى هجائهم، وكثيرا ما يتحول إلى ما يشبه عتابا رقيقا كقول ابن مكانس المتوفى سنة 794 هاجيا (1):
نعم نعم محضتهم
…
صدق الولا تطوّلا (2)
وما رعوا عهدا ولا
…
مودّة ولا ولا
وفى كلمة «ولا» الأخيرة تورية واضحة إذ يريد بها مقصور ولاء. ونراه حين يصادر أمواله وبغاله وخيله السلطان الظاهر برقوق لا يشمّ ولا يهجو بل يكتفى بقوله (3):
ربّ خذ بالعدل قوما
…
أهل ظلم متوالى
كلّفونى بيع خيلى
…
برخيص وبغالى
والتورية فى كلمة بغالى مع كلمة برخيص-وهو يريد بغاله الحقيقية-واضحة، وهو يعمد إليها فى هذا الظرف الحرج من محنته.
ونظل نلتقى بالهجاء فى أيام العثمانيين، من ذلك قول الشهاب الخفاجى من قصيدة جميعها على النمط التالى (4):
يا ضيعة الهميان من عائل
…
قبيل عيد أعوز الفطره (5)
ويا قفا المهزوم من فارس
…
أدركه فى ساحة قفره
وبهتة السّكران من هاجم
…
فى ليلة مظلمة قره (6)
ويا نعيّا جاء عن واحد
…
إلى عجوز مالها أسره
وتمضى القصيدة على هذا النحو الساخر اللاذع المصمى تكيل الذم لمهجوه كيلا وتهزأ به وتسخر منه سخرية قائلة.
وتلقانا مطارحة (7) طريفة بين الشاعر المعروف باسم شبانة المتوفى سنة 1200 للهجرة والشاعر قاسم بن عطاء الله المتوفى سنة 1204، فقد نظم شبانة-يداعب قاسما-قصيدة هجائية طويلة يقول فيها:
(1) ريحانة الألبا للخفاجى (طبعة الحلبى) ص 41.
(2)
تطولا: تفضلا.
(3)
النجوم الزاهرة 12/ 129.
(4)
نفحة الريحانة للمحبى 4/ 612.
(5)
الفطرة: النقل فى لغة المصريين العامية. الهميان: كيس النقود.
(6)
قرة: باردة.
(7)
تاريخ الجبرتى 2/ 128.