الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقبحها المتناهى، وينادى على الخاطبة وتأتيه ويشكو منها. وينشد طيف الخيال على لسانه شكوى مرة من زوجته. ويصور ما يتعاطاه من الحشيش وما يرسم له من الخيالات والأوهام، حتى ليرى وجهه فى زير مملوء ماء فيظن به لصا إذ يراه يعبس ويضحك مثل عبسه وضحكه، فيحطمه حطما. وتموت الخاطبة وينوح عليها زوجها بمثل قوله:
ساعدونى بالنّوح والتعديد
…
بعد فقد العجوز أمّ رشيد
هلكت آخر الليالى السود
…
يا ليالى الوصال بالله عودى
والتمثيلية تزخر بالمواقف المتناقضة كما تزخر بهذه الروح الفكهة، ويتخللها الغناء والرقص ويطّرد فيها التسلسل، وشخوصها فى غاية الوضوح. وهى تصور جوانب كثيرة من الحياة الاجتماعية والسياسية وعلاقات الرجال بالنساء وعلاقات الشعب بحكامه فى تلك الحقبة. ومازال ابن دانيال يمتع أهل القاهرة بتمثيلياته الهزلية وفكاهاته التى كانت تدور فى أفواه الناس حتى وفاته سنة 710 للهجرة.
عامر (1) الأنبوطى
يقول الجبرتى فى ترجمته: «شاعر مفلق هجاء» ويقول إنه كان يقيم فى بلده ويلم بالقاهرة من حين إلى حين فيزور العلماء والأعيان، وكلما رأى قصيدة مشهورة سائرة قلبها وزنا وقافية إلى الهزل والطبيخ، فكان الشيوخ والشعراء يتحامونه ويكرمونه ويجزلون له فى العطاء، وكان فيه ظرف يجعلهم يأنسون لكلامه ويهشون لشعره الفكه. من ذلك نظمه لألفية فى الطعام على غرار ألفية ابن مالك فى النحو، استهلّها بقوله:
يقول عامر هو الأنبوطى
…
أحمد ربى لست بالقنّوطى (2)
وأستعين الله فى ألفيّه
…
مقاصد الأكل بها محويّه
فيها صنوف الأكل والمطاعم
…
لذّت لكل جائع وهائم (3)
طعامنا الضّانى لذيذ للنّهم
…
لحما وسمنا ثم خبزا فالتقم
(1) انظر فى ترجمة
عامر الأنبوطى
وشعره الجبرتى 1/ 248.
(2)
القنوطى: كلمة جلبتها القافية ولعله يريد بها اليائس
(3)
الهائم: شديد العطش.
فإنها نفيسة والأكل عمّ
…
مطاعم إلى سناها القلب أمّ (1)
والأصل فى الأخباز أن تقمّرا
…
وجوّزوا التّقديد إذ لا ضررا (2)
ولا ريب فى أن شيوخ الأزهر وطلابه حين كانوا يسمعون منه شيئا من أشعار هذه الألفية يغرقون فى الضحك إغراقا، لأنه نقل أكثر صنيع ابن مالك فى ألفيته النحوية الجادة منتهى الجد إلى هذه الألفية الجديدة المضحكة غاية الضحك. ورأى أن لامية العجم للطغرائى تستولى على إعجاب الشعراء والناس منذ زمنه فى القرن السادس لما تحمل من حكم وخبرات تنفع الناس فى حياتهم وسلوكهم، فنظم على وزنها وقافيتها لامية فى المطاعم من مثل قوله:
أناجر الضّان ترياق من العلل
…
وأصحن الرزّ فيها منتهى أملى (3)
ولا خليل بدفع الجوع يرحمنى
…
ولا كريم بلحم الضّان يسمح لى
طال التلهف للمطعوم واشتعلت
…
حشاشتى بحمام البيت حين قلى
أريد أكلا نفيسا أستعين به
…
على العبادات والمطلوب من عملى
وكانت لابن الوردى الشامى المتوفى سنة 749 قصيدة لامية جعلها جميعا حكما وأمثالا، طارت شهرتها بين معاصريه ومن خلفوهم فصاغ على وزنها لامية حكمية فى الطعام، يقول فيها:
اجتنب مطعوم عدس وبصل
…
فى عشاء فهو للعقل خبل
وعن البيصار لا تعن به
…
تمس فى صحّة جسم من علل
واحتفل بالضان إن كنت فتى
…
زاكى العقل ودع عنك الكسل
من كباب وضلوع قد زكت
…
أكلها ينفى عن القلب الوجل
وطعام العدس والبصل وكذلك البيصار من الأكلات الشعبية المصرية، وهو ينهى عن أكلها ويدعو إلى أكل لحم الخرفان الضانى وما يتخذ منه من طعام الكباب واللحم المشوى.
وكان عامر بهذه الأشعار وما يماثلها يطرف معاصريه فى القاهرة ويسرّى عن نفوسهم بهزله ويجعلهم يستغرقون فى الضحك، بما يعرض عليهم فى أشعاره الفكهة من أصناف الأطعمة وألوان
(1) أمّ: قصد.
(2)
تقمر: كلمة عامية أى تعرض على النار
(3)
أناجر: جمع أنجر ويطلق فى العامية على أوانى الطعام وطهيه الكبيرة.