المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ابن هانئ - تاريخ الأدب العربي لشوقي ضيف - جـ ٧

[شوقي ضيف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدّمة

- ‌الفصل الأوّلالسياسة والمجتمع

- ‌1 - فتح العرب لمصر والحقب الأولى

- ‌(ا) فتح العرب لمصر

- ‌(ب) زمن الولاة

- ‌(ج) الطولونيون

- ‌(د) الإخشيديون

- ‌2 - الفاطميون-الأيوبيون

- ‌(ا) الفاطميون

- ‌3 - المماليك-العثمانيون

- ‌(ا) المماليك

- ‌(ب) العثمانيون

- ‌4 - المجتمع

- ‌الفصل الثانىالثقافة

- ‌1 - الحركة العلمية

- ‌2 - علوم الأوائل-علم الجغرافيا

- ‌(ا) علوم الأوائل

- ‌(ب) علم الجغرافيا

- ‌3 - علوم اللغة والنحو والبلاغة والنقد

- ‌4 - علوم القراءات والتفسير والحديث والفقه والكلام

- ‌5 - التاريخ

- ‌الفصل الثالثنشاط الشعر والشعراء

- ‌1 - تعرب مصر

- ‌2 - كثرة الشعراء

- ‌3 - شعر دورى ورباعيات وموشحات وبديعيات

- ‌(ا) الشعر الدورى

- ‌(ب) الرباعيات

- ‌(ج) الموشحات

- ‌ العزازى

- ‌ابن الوكيل

- ‌(د) البديعيات

- ‌4 - شعراء المديح

- ‌«المهذب بن الزبير

- ‌ابن قلاقس

- ‌ ابن سناء الملك

- ‌ابن نباتة

- ‌5 - شعراء المراثى والشكوى

- ‌على بن النّضر

- ‌على بن عرّام

- ‌6 - شعراء الدعوة الإسماعيلية

- ‌ ابن هانئ

- ‌ظافر الحداد

- ‌الفصل الرّابعطوائف من الشعراء

- ‌1 - شعراء الغزل

- ‌ ابن النبيه

- ‌ البهاء زهير

- ‌ ابن مطروح

- ‌2 - شعراء الفخر والهجاء

- ‌ تميم بن المعز

- ‌ ابن الذروى

- ‌ أحمد بن عبد الدائم

- ‌ حسن البدرى الحجازى الأزهرى

- ‌3 - شعراء الطبيعة ومجالس اللهو

- ‌ الشريف العقيلى

- ‌ ابن قادوس

- ‌4 - شعراء الزهد والتصوف والمدائح النبوية

- ‌ ابن الكيزانى

- ‌ ابن الفارض

- ‌البوصيرىّ

- ‌5 - شعراء الفكاهة

- ‌ ابن مكنسة

- ‌الجزّار

- ‌ السراج الوراق

- ‌ ابن دانيال

- ‌ عامر الأنبوطى

- ‌6 - شعراء شعبيون

- ‌الغبارى

- ‌ ابن سودون

- ‌الفصل الخامسالنّثر وكتّابه

- ‌1 - الرسائل الديوانية

- ‌ ابن الصيرفى

- ‌ القاضى الفاضل

- ‌ محيى الدين بن عبد الظاهر

- ‌2 - الرسائل الشخصية

- ‌ ابن أبى الشخباء

- ‌ ابن مماتى

- ‌3 - المقامات

- ‌ ابن أبى حجلة

- ‌القلقشندى

- ‌السيوطى

- ‌ الشهاب الخفاجى

- ‌4 - المواعظ والابتهالات

- ‌أبو الحسن الشاذلى

- ‌5 - كتب النوادر والسير والقصص الشعبية

- ‌(ا) كتب النوادر

- ‌كتاب المكافأة

- ‌أخبار سيبويه المصرى

- ‌كتاب الفاشوش فى حكم قراقوش

- ‌«هز القحوف»

- ‌(ب) كتب السير والقصص الشعبية

- ‌ سيرة عنترة

- ‌ السيرة الهلالية

- ‌سيرة الظاهر بيبرس

- ‌سيرة سيف بن ذى يزن

- ‌ ألف ليلة وليلة

- ‌خاتمة

الفصل: ‌ ابن هانئ

أحيا الموتى إلى غير ذلك من مزاعم غير صحيحة. ونقف عند ثلاثة من أعلام الدعوة الإسماعيلية هم‌

‌ ابن هانئ

والمؤيد فى الدين وظافر الحداد.

ابن (1) هانى

هو محمد بن هانئ المهلبى الأندلسى، ينتمى إلى المهلب بن أبى صفرة الأزدى القائد المشهور فى زمن بنى أمية وواليهم فترة على خراسان، ويقال إنه من سلالة حفيده يزيد والى المنصور العباسى على إفريقية، وقيل: بل من سلالة أخيه روح واليها بعده. ويبدو أن أبناءهما ظلوا بعد وفاتهما بإفريقية، وكان من سلالتهما أبو الشاعر هانئ، إذ يقال أنه كان من قرية من قرى المهدية بتونس وكان شاعرا أديبا نزح إلى الأندلس داعيا-فيما يبدو-للمذهب الإسماعيلى هناك ونزل إشبيلية وفيها ولد له الشاعر سنة 320 أو سنة 321 على اختلاف الروايات، وبها نشأ وعكف على الأدب، وتفتحت موهبته الشعرية مبكرة، فاتصل بصاحب إشبيليه وحظى عنده، غير أنه كان كثير الانهماك فى اللذات، واتهم بأنه يعتنق مذهب الفلاسفة، أو لعله اتهم باعتناقه المذهب الإسماعيلى متابعا فى ذلك أباه، وكانتا تعدان تهمتين خطيرتين هناك فنصحه ممدوحه بالغيبة عن البلدة مدة فبارحها إلى إفريقية فى السابعة والعشرين من عمره ونزل بجعفر بن على الأندلسى أمير الزاب وأخيه يحيى فأكرماه ومدحهما الشاعر مدائح بديعة بمثل قوله فى جعفر:

المشرقات النيّرات ثلاثة

الشمس والقمر المنير وجعفر

وسمع به المعز فطلبه من جعفر وأخيه فلما وصل إليه بالغ فى الإنعام عليه وخاصة حين رآه يعتنق المذهب الإسماعيلى ويلجّج فى مديحه بمبادئ المذهب التى أسلفنا الكلام عنها، بل لكأنما اتخذ أشعاره أداة لتسجيلها فى صور مغالية غلوا شديدا. وكان شاعرا مبدعا فأبدع فى مدائحه، كما أبدع فى مديح قواده وخاصة فى جوهر الصقلى فاتح مصر، وله فيه حين يمّم بجيشه مصر من القيروان عينية رائعة استهلّها بقوله:

(1) انظر فى ابن هانئ وترجمته وشعره كتاب التكملة لابن الأبار ص 103 والمطمح للفتح بن خاقان ص 74 والمطرب لابن دحية (الفهرس) والجذوة للحميدى: 89 وبغية الملتمس رقم 301 ونفح الطيب (الفهرس) والإحاطة للسان الدين 2/ 212 والمغرب لابن سعيد (طبع دار المعارف) 2/ 97 ومعجم الأدباء 19/ 92 وابن خلكان 4/ 421 وعبر الذهبى 2/ 328 والشذرات 3/ 41 وديوانه طبع قديما بالهند.

ص: 243

رأيت بعينى فوق ما كنت أسمع

وقد راعنى يوم من الحشر أروع

غداة كأن الأفق سدّ بمثله

فعاد غروب الشمس من حيث تطلع

ونوّه بالجيش وعظمه ورحلة جوهر المظفرة إلى الديار المصرية، ولم يلبث جوهر أن أرسل إلى المعز يهنئه بفتح مصر سنة 358 فهتف ابن هانئ فرحا مستبشرا:

يقول بنو العباس هل فتحت مصر

فقل لبنى العباس قد قضى الأمر

ومذ جاوز الإسكندريّة جوهر

تصاحبه البشرى ويقدمه النّصر

وجمع المعز أسبابه وتوجه إلى مصر سنة 362 وشيعه ابن هانئ ورجع إلى أسرته بالمغرب لأخذها معه واللحاق به، وتجهز وتبعه، غير أنه اغتيل فى برقة لشهر رجب سنة 362 ويقال إنه لم يشّيع المعز بل كان فى صحبته إلى أن دخل مصر ثم عاد إلى المغرب لأخذ عياله، واغتيل ببرقة كما ذكرنا. ولما بلغت المعز وفاته حزن عليه وتأسف قائلا: هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدّر لنا ذلك. ولعله لم يكن يريد أن يفاخر به من حيث روعة شعره فحسب، بل كان أيضا يريد أن يفاخر به من حيث استظهاره للعقيدة الإسماعيلية ومبادئها المفرطة فى الغلو إفراطا بعيدا حتى لتنحرف عن الإسلام وجادّته.

وبمجرد أن نقرأ فى ديوان ابن هانئ نراه يردد أن إمامة الفاطميين ربانية وأنها فريضة مكتوبة على كل مسلم وأنهم يتوالون بترتيب إلهى وأنهم معصومون من كل زلل وأن طاعتهم من طاعة الله من أطاعهم استحق رضوان الله ومن عصاهم كان مآله الخسران المبين، يقول فى المعز:

إمام رأيت الدين مرتبطا به

فطاعته فوز وعصيانه خسر

وهم دائما مبرأون من الذنوب مطهرون من الآثام، بل هم نور الله ومشكاته فى العباد، يضيئون للناس حياتهم، ويكشفون عنهم ظلمات الضلال، وكأنهم يتمّون نور الله أو كأنهم يشاركون فيه، يقول فى المعز:

وما كنه هذا النور نور جبينه

ولكنّ نور الله فيه مشارك

ويكرر هذه الفكرة كثيرا فى مثل قوله مادحا للمعز:

تسعى بنور الله بين عباده

لتضئ برهانا لهم وتلوحا

وجد العيان سناك تحقيقا ولم

تحط الظنون بكنهه تصريحا

ص: 244

وقد انتقل ابن هانئ نقلة واسعة فقد جعل المعز نورا خالصا، وكأنما ليس فيه شئ من المادة ولا من الطبيعة البشرية، ويصرح بذلك إذ يقول إن العيان والحسّ إنما يشهدان سناه وضياءه فحسب، أما هو فكأنه الذات العلية لا تحيط الظنون بكنهه وحقيقته، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ويعود إلى مثل هذا الغلو الشائن فى مدحه للمعز قائلا:

أتبعته فكرى حتى إذا بلغت

غاياتها بين تصويب وتصعيد

رأيت موضوع برهان يلوح وما

رأيت موضوع تكييف وتحديد

وقد خطا ابن هانئ فى الغلو هنا خطوة أبعد من سابقتها إذ جعل المعز يخلو من كل صورة للمادة، بل كأنما جعله الخالق نفسه، إذ نفى عنه ما ينفيه المعتزلة عن الله من كل تشبيه وتجسيد، فلا حد له ولا كيف ولا هيئة بأى شكل من الأشكال. وقد بدأوا كما بدأ المسيحيون فى مسيحهم بأن فى الإنسان لا هوتا وناسوتا أو روحا وجسما. وبالغوا فخلّصوا-مثل ابن هانئ-أئمتهم من كل أثر للمادة، وجعلوهم روحا أو نورا خالصا، بل جعلوهم نفس الله بأسمائه وصفاته، حتى لنرى ابن هانئ يقول فى المعز:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهّار

ويقول فيه أيضا:

ندعوه منتقما عزيزا قادرا

غفّار موبقة الذنوب صفوحا

فالمعز الواحد القهّار المنتقم العزيز القادر الغفار. وعلى هذا النحو زين لهم دعاتهم وشياطينهم أن ينزهوا الله عن أسمائه وصفاته فى القرآن الكريم ويسبغوها على أئمتهم، ضلال ما بعده ضلال ومروق لا يدانيه مروق. ومن هذا الباب ما يزعمه ابن هانئ فى المعز من أنه مقسّم الأرزاق بين العباد:

رأيتك من ترزقه يرزق من الورى

دراكا ومن تحرم من الناس يحرم

فمن شاء رزقه ووسّع رزقه ومن شاء حرمه وضيّق عليه وجعل حياته ضنكا، وكل شئ فى الأرض بل فى الكون بمشيئته حتى ليقول ابن هانئ فيه:

أدار-كما شاء-الورى وتحيّزت

على السبعة الأفلاك أنمله العشر

ص: 245

فهو لا يهيمن على شئون الناس وأحوالهم فحسب، بل هو أيضا يهيمن ويسيطر على الأفلاك التى تصدر عنها الحركة فى الكون. وكل ذلك لما لجوّا فيه من أن الإمام ممثول العقل الفعال المسيطر على الوجود، فجعلوه نفس هذا العقل الذى آمن به الفلاسفة، وجعلوه لذلك العلة الأولى أو علة العلل التى ينبثق عنها الكون، مما جعل ابن هانئ يقول عن المعز:

هو علّة الدنيا ومن خلقت له

ولعلة ما كانت الأشياء

وماذا بقى لخالق الكون؟ وحتى الحياة والموت ملّكهما ابن هانئ للمعز يوزعهما على الناس كيف يشاء إذ يقول مخاطبا للمعز:

لك الدهر والأيام تجرى صروفها

بما شئت من حتف ورزق مقسّم

فهو الذى يحيى ويميت وهو الذى يدبّر الدنيا ويصرّفها، وهو الذى يهيمن على الكون وينسّقه، وهو الرازق ومانع الرزق وهو المنتقم العزيز الغفار وهو الواحد القادر القهار. ولا نعجب بعد ذلك كله لابن هانئ إذ يقول:

أرى مدحه كالمدح لله إنّه

قنوت وتسبيح يحطّ به الوزر

ويستضئ ابن هانئ بفكرة الدور عند الإسماعيلية مرارا وما يذهبون إليه من أن الأئمة الفاطميين خلفاء الأنبياء وأنهم ينتظمون معهم منذ آدم فى أدوار سبعية، كل دور يختم بإمام سابع نبى أو من الخلفاء الفاطميين ويسمونه الناطق وهو يمثل عندهم العقل الأول الفعال الذى تحولت إليه قدرة الله وأسماؤه وصفاته، ومن هنا كانت تطلق على ممثوله من الأئمة، وهو الإمام السابع الحامل للنور الربانى الذى يتمثل فى كل إمام سابع منذ آدم. ولما كان المعز نهاية السبعة الثانية من الأئمة الفاطميين فإنه كما يمثل فيه نور كل إمام سابع قبله من الأنبياء يمثل فيه نور نوح:

لو كنت نوحا منذرا فى قومه

ما زادهم بدعائه تضليلا

ويمثل فيه قبس موسى وشعلته وهداه:

من شعلة القبس التى عرضت على

موسى وقد حارت به الظلماء

ويمثل فيه نور المسيح الذى كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله:

أقسمت لولا أن دعيت خليفة

لدعيت من بعد المسيح مسيحا

ص: 246

ويمثل فيه نور الرسول صلى الله عليه وسلم المشاهد فى كل نور بملكوت السموات: فى الشمس والقمر والكواكب والنجوم:

وكأنما أنت النبىّ محمّد

وكأنما أنصارك الأنصار

ويبلغ به الإلحاد فى الدين أن لا يكتفى بحلول أرواح الأنبياء فى المعز، بل يجعل الله يحلّ فيه، بل لكأنه الله، جل جلاله عن أن يتعلق بذاته العلية شئ من ترهاته إذ يقول فى غير استحياء للمعز حين حلّ بقرية رقّادة بجوار القيروان:

حلّ برقّادة المسيح

حلّ بها آدم ونوح

حلّ بها الله ذو المعالى

وكلّ شئ سواه ريح

وكان ابن هانئ شاعرا فذا بارعا، وإنا لنأسى له حين سخر ملكاته الشعرية الخصبة التى منحها له ربه فى الدعوة للعقيدة الإسماعيلية الضالة. وهو فى رأينا يعدّ مسئولا إلى حد كبير عن اندفاع الشعراء بعده فى هذه الدعوة الخاطئة المنحرفة، وهو أيضا إلى حد ما يعد مسئولا عن ضلال الخليفة الحاكم الفاطمى حين قال بعد جده المعز: أنا ربّكم الأعلى، وتبعه فى ضلاله ومروقه من تبعه. وكان ابن هانئ يكثر من التشبيهات والاستعارات أحيانا فى أشعاره، ونفذ إلى صور كثيرة مبتكرة كقوله فى مطلع قصيدة مدح بها جعفر بن على الأندلسى:

فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر

وأمدّكم فلق الصباح المسفر

وجنيتم ثمر الوقائع يانعا

بالنّصر من ورق الحديد الأخضر

وهو يتصور الجلاد أو القتال ريحا عاصفا يفوح منه شذى العنبر والطيب وهو يهبّ فى الصباح المشرق الجميل. ونفذ إلى صورة بديعة إذ تخيل السيوف شجرا مورقا مثمرا وهم يجنون منه النصر المأمول، والقصيده تكتظ بأبيات رائعة.

المؤيّد (1) فى الدين الشيرازى

هو هبة الله بن أبى عمران موسى بن داود، ولد بشيراز فى العقد الأخير من القرن الرابع

(1) انظر فى المؤيد ديوانه ومقدمته بتحقيق الدكتور محمد كامل حسين وكتابه: فى أدب مصر الفاطمية ص 59 ونشره للسيرة المؤيدية وراجع مختصر المجالس المؤيدية لحاتم بن إبراهيم نشرد. محمد عبد القادر عبد الناصر، وانظر معجم الأدباء 3/ 175 وما بعدها فى ترجمة أبى العلاء.

ص: 247

الهجرى لأبيه موسى، وكان من دعاة الدولة الفاطمية الإسماعيلية، وتقدم فى الدعوة، حتى استحق لقب حجّة إقليم فارس، ونشأ ابنه على مثاله فى الإخلاص لتلك الدعوة ومازال يسعى له عند الحاكم الخليفة الفاطمى (386 - 411 هـ) حتى جعله خليفة له فى فارس، ومنحه نفس اللقب الفاطمى: الحجة، وهو لقب رفيع من ألقابهم. وكان سيوسا، فتقرب من نفوس أتباعه وأخلصوا له، وحاول أن يدخل أبا كاليجار الحاكم البويهى فى عقيدته، ويقال إنه عقد له مجلسا كان يلقى فيه كتاب دعائم الإسلام للقاضى النعمان بن محمد الكتامى داعى الدعاة لعهد المعز، وأيضا فإنه بنى مسجدا بالأهواز ونقش على محرابه بالذهب أسماء الأئمة الفاطميين، وطلب من أتباعه أن يؤذّنوا فيه بأذان الإسماعيليين:«حىّ على خير العمل» . ومن أهم أتباعه حينئذ ناصر خسرو. وتنبه له الخليفة العباسى ببغداد، فأرسل إليه من يتعقبه، وخشى على نفسه، ففرّ موليا وجهه نحو مصر والقاهرة: مركز دعوته، ووصل إليها سنة 437 لعهد الخليفة الفاطمى المستنصر، واستقر بها، وحضر مجالس الدعوة فيها، وعيّنه الوزير اليازورى رئيسا لديوان الإنشاء، وظل فى هذا العمل حتى سنة 450 وهو يتصل سرا بدعاة الدولة فى إيران والعراق، وأحسّ خطر طغرلبك السلجوقى حين تستقيم له العراق، فربما فكر فى الاستيلاء على الشام ومصر، وكانت العلاقة ساءت بين طغرلبك وأخيه إبراهيم، وكان قد ولاه على الموصل، فأعلن العصيان لأخيه ورحل إلى بلاد الجبل فتبعه بجيشه، ونشبت الحرب بين الفريقين، ورأى المؤيد فى الدين الفرصة سانحة فكاتب البساسيرى مقدم الأتراك ببغداد. وذهب إليه بنفسه محمّلا بالأموال من المستنصر، ويحدثنا فى سيرته كيف أخذ يستميل أمراء العرب فى طريقه إلى بغداد وكيف نفروا معه، يؤازرهم أهل الكوفة وواسط وحلب، وكيف وصل إلى بغداد، حيث وجد البساسيرى قد أبعد الخليفة العباسى القائم بأمر الله إلى «عانة» سنة 450 ودعا على المنأبر باسم المستنصر بالله، وظل ذلك نحو عام، حتى إذا قضى طغرلبك على عصيان أخيه وثورته قدم إلى بغداد وقضى على البساسيرى ودعوته وأعاد الخليفة العباسى إلى عرشه. وفرّ فى هذه الأثناء المؤيد إلى القاهرة، وتولى بها مرتبة داعى الدعاة جزاء لجهوده وإن كانت قد أخفقت إخفاقا ذريعا، غير أنه حقق للفاطميين حلما طالما رجوا تحقيقه وهو أن يدعى على منابر بغداد باسمهم ولو إلى حين قصير. وكتابه «السيرة المؤيدية» يصور فيه حياته من سنة 429 حتى سنة 450 وما اضطرب فيه من أحداث، وهو لذلك يعد وثيقة تاريخية مهمة.

وأخذ المؤيد فى أثناء اضطلاعه بمرتبة داعى الدعاة يلقى دروسه بالجامع الأزهر، وقد جمعها

ص: 248

فى كتابه «المجالس المؤيدية» وهى تضم ثمانمائة مجلس له، وقد اختصرها حاتم بن إبراهيم الداعى اليمنى، وعنى بنشر مختصره وتحقيقه الدكتور محمد عبد القادر عبد الناصر وهو موسوعة كبيرة فى العقيدة الفاطمية والتأويل الباطنىّ وما يتصل به من الحكمة التأويلية، ويشتمل على مناظرات مع مخالفيه وردود عليهم، لعل من أهمها ردوده على ابن الراوندى ودحض آرائه الإلحادية (1). وله رسائل متبادلة مع أبى العلاء المعرى ناظره فيها طويلا فى تحريمه على نفسه أكل الحيوان وكل ما ينتجه من اللبن والبيض وعسل النحل، وقد احتفظ بها ياقوت فى معجمه. وكان شاعرا كما كان كاتبا ناثرا، وحقق الدكتور محمد كامل حسين ديوانه ونشره بالقاهرة، وهو فى مديح المستنصر الفاطمى وآبائه والدعوة إلى العقيدة الفاطمية وكل ما يتصل بها من التأويل الباطنى الموقوف على الأئمة الفاطميين وآبائهم من البيت العلوى، فهم وحدهم الذين يعرفون أسرار التأويل فى القرآن على نحو ما خصّ الله الخضر» الرجل الصالح بأسرار لم يعرفها موسى عليه السلام، وبالمثل الأئمة يعرفون من الأسرار فى تأويل الذكر الحكيم ما لا تعرفه العامّة، وفى ذلك يقول فى أولى قصائده بديوانه محتجا بقصة الخضر على جهل العامة بسر الملكوت أو أسراره ووقفها على الأئمة:

يا قوم سرّ الملكوت هذا

يجعل أصنامكم جذاذا

سرّ له صاحب موسى الخضرا

قال معى لن تستطيع صبرا

تدبّروا القصّة ماذا يمّما

من قصّها إن لم تكونوا نوّما

وكأن كل إمام خضر زمنه، وهو وحده الذى يعرف أسرار الكون وبواطن الآيات القرآنية، وهى معرفة اختص الله بها الوصى الأول على بن أبى طالب وأبناءه الأئمة. والمؤيد فى الدين بذلك يرفع الأئمة درجات على سائر الخلق، بل هى العقيدة الفاطمية التى تجعلهم نورا خالصا. لا تعلق بهم مادة ولا ما يشبه المادة على نحو ما رأينا عند ابن هانئ، وقد مضى المؤيد وراءه يردّد تقديسه للأئمة وأنهم فوق الطبيعة البشرية، ومضى يسبغ عليهم كثيرا من الصفات الربانية، حتى ليجعلهم القائمين على الجنة والنار فيدخلون الجنة بأتباعهم ويزجّون بأعداءهم فى الجحيم، يقول:

يقسمون الجنان والنار فيهم

فلكلّ نصيبه الموجوب

كبرت كلمة بل كلمات تخرج من فمه، ويتمادى فى هذا الضلال فيجعل زيارة الإمام أداء

(1) انظر فى ذلك كتاب تاريخ الإلحاد فى الاسلام لعبد الرحمن بدوى (نشر مكتبة النهضة) ص 75 - 88.

ص: 249

لفريضة الحج يقطع إليها أصحابه الفلوات للتبرك به، فهو القبلة والغاية التى ليس بعدها غاية، يقول:

هلمّ إلى الأرض المقدّسة التى

بساحتها سكّانها أمنوا الموتا

إلى علم الإيمان والقبلة التى

عليها بلا مسك دللت ووجّهتا

وميزان ربّ العالمين الذى به

توفّى الثواب الجزل إن أنت وفّيتا

فالمستنصر وأمثاله ميزان الله فى الأرض، بطاعتهم ومقدارها يكون الثواب وبعصيانهم ومقداره يكون العذاب، وما يزال المؤيّد يردد مثل هذا الضلال والبهتان فى ديوانه.

ومما ردده المؤيد طويلا نظرية الدور التى تصور إيمان الإسماعيلية فى أئمتهم وأنهم مثل العقل الفعال الأول فى عالم الطبيعة، وهم لذلك يعدون مدبرين للكون، وأيضا فإن أسماء الله الحسنى تسبغ عليهم، وقد رتّبوا فى أدوار تشترك معهم فيها الأنبياء والرسل منذ آدم، وكل منهم يمثّل من سبقوه فى هذه الأدوار من الأئمة والرسل، وفى ذلك يقول فى المستنصر وآله:

سلام على العترة الطاهره

وأهلا بأنوارها الزّاهره

سلام بدىّ على آدم

أبى الخلق باديه والحاضره

سلام على من بطوفانه

أديرت على من بغى الدائره

سلام على من أتاه السّلام

غداة أحفّت به النائره (1)

سلام على قاهر بالعصا

عصاة فراعنة جائره

سلام على الروح عيسى الذى

بمبعثه شرفت ناصره (2)

سلام على المصطفى أحمد

ولىّ الشفاعة فى الآخره

سلام على المرتضى حيدر

وأبنائه الأنجم الزاهره

سلام عليك فمحصولهم

لديك أيا صاحب القاهره

بنفسى مستنصرا بالإله

جنود السماء له ناصره

شهدت بأنك وجه الإله

وجوه الموالى به ناضره

وواضح أن المؤيد بدأ سلامه بآل البيت، ثم تلاهم بآدم ونوح صاحب الطوفان وإبراهيم الذى ألقاه النمرود فى النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما وموسى صاحب العصا التى استحالت

(1) النائرة: نائرة الحرب: شرها

(2)

ناصرة: بلدة المسيح.

ص: 250