الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثعبانا فى مجلس فرعون فإذا هى تلقف كل ما جاء به سحرته من سحر رهيب، وعيسى الروح الأمين الذى شرفت به مدينته الناصرة، ومحمد المصطفى الشفيع المشفع فى الآخرة، وعلى أو حيدر المرتضى وأبنائه الأئمة الأنجم الزاهرة. ويقول إن المستنصر لديه محصول كل هؤلاء الرسل وكل الأئمة فهو الرسول وهو عيسى وهو موسى وهو إبراهيم الخليل وهو نوح وهو آدم وهو على والأئمة جميعا قبله إماما إماما. وهو بذلك وارث الأئمة والرسل، وارث علومهم ومعجزاتهم وخوارقهم. ولا يكتفى المؤيد بكل ذلك، إذ يقول إن الملائكة جنده الذى ينصره فى معاركه، وليس ذلك فحسب، فإنه يتقدم خطوة بل خطوات إذ لا يسبغ عليه صفات الله وحدها، بل يجعل ذاته نفس ذات الله إذ يقول إنه وجه الإله، وكأنه اتحد معه فى ذاته تعالى الله عن هذا البهتان الآثم علوا كبيرا، وهو ليس بهتانا فحسب، بل هو ضلال مبين.
ظافر (1) الحداد
هو ظافر بن القاسم الإسكندرى، من سلالة قبيلة جذام اليمنية، كان أبوه حدادا بالإسكندرية، ولد له فى النصف الثانى من القرن الخامس الهجرى، ويبدو أنه أرسله فى صباه إلى الكتّاب، ورأى من ذكائه ما جعله يدفعه إلى حلقات العلماء، وهو مع ذلك يعاونه فى حرفته. وأكبّ الصبى على حفظ الشعر وكانت له ملكة خصبة، سوّت منه شاعرا كان يلفت أقرانه، كما لفت كثيرين من شعراء الإسكندرية، وكانت بها آنذاك نهضة شعرية واسعة، جعلت شعراءها يتكاثرون، كما جعلت العماد الأصبهانى فى الخريدة يترجم لكثيرين منهم. ولعل شيئا من العجب يداخلنا إذ نجد بين الشعراء هناك شاعرا حدادا، ولكن إذا عرفنا أن الثقافة العربية الإسلامية كانت طوال الحقب السالفة ثقافة شعبية عامة إذ كانت تلقى بالمساجد، ولكل شخص الحق فى أن يجلس إلى حلقة الشيخ الذى يريد الاستماع إليه، وكانت للشعراء فى المساجد حلقات، مما أتاح لشباب العامة المشاركة فى الشعر وفى العلوم العربية والإسلامية، وتكثر هذه الظاهرة بين شعراء الدولة المملوكية، إذ نجد بينهم جزارا وحمّاميّا ووراقّا وخيّاطا وكحالا. وقد
(1) انظر فى ترجمة ظافر وشعره الخريدة (قسم شعراء مصر) 2/ 1 وما بعدها ومعجم الأدباء 12/ 27 ووفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 540 والرسالة المصرية لأبى الصلت أمية فى الجزء الأول من نوادر المخطوطات لعبد السلام هرون والنجوم الزاهرة 5/ 376 و «فى أدب مصر الفاطمية» للدكتور محمد كامل حسين ص 190 و
ظافر الحداد
لحسين نصار وديوانه بتحقيقه (نشر مكتبة مصر).
تفتحت موهبة الشعر عند ظافر مبكرة وتهيأت له فرصة أن يتألق اسمه بين شعراء مدينته، فإن ابن ظفر واليها من قبل الخليفة الفاطمى تصادف أن ورم خنصره وبه خاتم، فخشى عاقبة الأمر وطلب حدادا كى يكسر حلقته، فجاءوه بظافر، فلما كسر الحلقة أنشده بديها:
قصّر فى أوصافك العالم
…
واعترف الناثر والناظم
من يكن البحر له راحة
…
يضيق عن خنصره الخاتم
فاستحسن ذلك منه ابن ظفر ووهبه الحلقة وكانت من ذهب. وكان بين يديه غزال مستأنس قد ربض أو طوى قوائمه، وجعل رأسه فى حجره، فقال له أحد الحاضرين: إن كنت ذا خاطر سمح فأنشدنا أسرع من لمح البصر فى هذا الغزال المستأنس، فقال توّا:
عجبت لجرأة هذا الغزال
…
وأمر تخطّى له واعتمد
وأعجب به إذ بدا جاثما
…
فكيف اطمأنّ وأنت الأسد
فزاد ابن ظفر وجلساؤه فى الاستحسان. وكانت هناك شبكة مسدولة على باب المجلس تمنع الذباب من دخوله، فتأملها ظافر وقال بديها:
رأيت ببابك هذا المنيف
…
شباكا فأدركنى بعض شك
وفكّرت فيما رأى خاطرى
…
فقلت البحار مكان الشّبك
وكانت هذه الحادثة سببا فى اشتهار ظافر بمدينته، وتهاداه أعيانها وقضائها مثل ابن أبى حديد قاضيها وله فيه مدائح طريفة.
وطمح ظافر إلى لقاء الأفضل بن بدر الجمالى وزير الفاطميين، وكان قد حجر على الخليفة الآمر وأصبح له الملك والسلطان كله، فاتخذ الأسباب إلى لقائه، ولم يكد يستمع منه إلى مديحه حتى أكبره وقدّمه على أقرانه، وسكن ظافر بجواره فى الفسطاط، وأخد يدبّج فيه مدائح طنانة، وهو يغدق عليه من نواله مع راتب قدّره له، وإلى ذلك يشير قائلا:
وهذا الجناب الأفضلىّ يكنّنى
…
ذرى ظلّه إنى إذن لسعيد
وقدّر لهذه السعادة أن ينحسر ظلها عن ظافر إذ دبّر الخليفة الآمر للأفضل من قتله غيلة سنة 515 للهجرة، وولى الوزارة بعد الأفضل المأمون البطائحى، ولظافر فيه مدحتان يشكو فيهما من عوزه وضيق ذات يده، ومع ذلك يشكره على ما أولاده من نعم. ويبدو أن ما نعم به فى زمن الأفضل
من أموال انقطع بعده إلا قليلا، وكأن أبواب المأمون لم تكن مفتوحة له إلا من حين بعيد إلى حين، ولا يلبث الخليفة الآمر فى سنة 519 أن يصادر المأمون ثم يقتله. حينئذ نجد ظافرا يفكر فى تقديم مدائحه للخليفة، ولم يكن شيعيا فضلا عن أن يكون إسماعيليا طوال أيامه الماضية، فقد رأيناه حين نزل الفسطاط يقصر مدائحه على الوزير الأفضل بن بدر الجمالى، وكان سنّيّا، وكأن المأمون البطائحى من رجاله، ولعله لذلك لم يكن شيعيا أو بعبارة أدق لم يكن غاليا فى تشيعه.
على كل حال ليس فى مديح ظافر له وللأفضل ما يدل على صلته بالتشيع الإسماعيلى حتى هذا التاريخ. ولكن المأمون قتل، وكأنما دفع دفعا لكى يمدح الخليفة الآمر، فأكبّ على ديوان ابن هانئ الأندلسى يدرسه ليتمثل معانى العقيدة الإسماعيلية، ويرى نهجه فى عرضها بمديحه ليحتذيه، يقول فى إحدى مدائحه للآمر مصرحا بذلك دون أى مواربة:
أجاد ابن هانى فى المعزّ مدائحا
…
هداه إليها ذلك الفضل والمجد
وقد جاد مدحى فيك لما رأيت ما
…
رأى فاستوى المدحان والإبن والجدّ
ونراه فى نفس هذه القصيدة يردد ما ردده ابن هانئ من أن طاعة الخليفة أو الإمام الفاطمى فريضة واجبة، على كل إسماعيلى أن يعتنقها وأن يؤدى واجباتها، يقول:
فمن عاش أحياه نداه ومن يمت
…
على حبّه طوعا فمسكنه الخلد
أطاعته أسرار القلوب ديانة
…
فما لامرئ لم يعتقد حبّه رشد
فطاعته فرض وخدمته تقى
…
ونصرته دين ومرضاته جدّ
فطاعة الآمر وأمثاله من الأئمة فرض مكتوب، فمن أطاعه فاز بالرضوان ومن عصاه كانت عاقبته الخسران، وإن مرضاته لجدّ أو حظ أكبر، ولا إسلام إلا بطاعته وموالاته ومحبته. والآمر مثله مثل الأئمة قبله، يرتفع فوق حدود الطبيعة البشرية، إذ هو مثل العقل الفعال الأول الرابط بين الله والوجود، وهو بذلك النور الإلهى، نور السموات والأرض. ولن يفهم ظافر كل هذه الفلسفة الإسماعيلية المنحرفة التى تحدثنا عنها فى غير هذا الموضع، وهو لذلك سيلتقط دون تعمق من ابن هانئ فكرة النور التى يرددها فى مديحه للمعز قائلا فى الآمر:
إمام تبدّى للورى من جبينه
…
ضياء به تشفى بصائرها الرّمد
ونورك ما يهدى الصباح لناظر
…
ولولاه ضلّ الناس وامتنع القصد
وكأن ظافرا ينقل ذلك عن ابن هانئ دون أن يدرك مقصده تماما وأن ممدوحه نور السموات والأرض، وبالمثل نقل عنه نظرية الأدوار التى تزعم أن الأنبياء والأئمة الفاطميين إنما هم مظاهر دورية للعقل الفعال وحلقاته البادئة بآدم والتى ينتظم فيها نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ثم على وأبناؤه وأحفاده من الأئمة الطاهرين، ويلم ظافر بظاهر من ذلك كله قائلا فى مدحة أخرى للآمر:
أنت الذى بعث الإله لنا به
…
آباءه فتمثّلوا بمثوله
هذا ضياء الله والمعنى الذى
…
تتفاضل العلماء فى تعليله
مازال ينقله الإله مطهّرا
…
عن ظهر مثل ذبيحه وخليله
وتوارثته الأنبياء وسادة ال
…
خلفاء حتى حان وقت حلوله
فآباء الآمر من الأئمة والأنبياء قد تمثلوا فيه بميراثهم الربانى من النور الذى يعمّ أطباق السموات والأرض، ومازال الله ينقل هذا النور من نبى إلى نبى ومن إمام إلى إمام من مثل إبراهيم وإسماعيل ذبيحه ومثل على وجعفر الصادق إلى أن حلّ فى الآمر المطهر المحفوف بالعناية الإلهية والنّفحة النورانية، ومن ثمّ كان ابن هانئ يقول فى المعز إنه جوهر الملكوت وإنه العقل المدبر للكون.
ولم يكن ظافر يتغلغل فى العقيدة الإسماعيلية هذا التغلغل، بل كان يقف كما رأينا عند ظاهر من أقوال ابن هانئ فى المعز ويرددها فى الآمر. وهو معنى ما قلناه فى غير هذا الموضع من أن المصريين انصرفوا عن العقيدة الإسماعيلية ولم يحاول أحد منهم أن يكون داعية لهم على شاكلة المؤيد وابن هانئ. ولعل مما يؤكد ذلك عند ظافر أننا نجده يضيف إلى فيثارة مديحه للآمر وترين لا نجدهما عند ابن هانئ، وهما ميراث الآمر وآبائه للرسول صلى الله عليه وسلم، مما جعله يتغنى بمعجزاته الخارقة من المعراج وغير المعراج، ثم الاتساع بخياله فى بيان سحق جيوش الآمر للصليبيين، وكانوا قد استولوا فى عهده على بيت المقدس وكثير من ثغور الشام وبلدانه، والخليفة ووزيره الأفضل والمأمون يغطّون فى غفلة لا تدانيها غفلة، وكأن ظافرا يحاول إيقاظ الآمر ودفعه للذبّ عن حرمات الإسلام ودياره أمام حملة الصليب، وهو فى ذلك إنما كان لسانا للمصريين يعبر عن فزعهم للغزو الصليبى وما يأملون من القضاء على حملة الصليب قضاء مبرما. وهذا الوتر فى مدائح ظافر للآمر ووتر الميراث النبوى أتاحا لمدحته له أن لا تقف عند المبادئ الإسماعيلية فى مدح الأئمة الفاطميين إلا لماما وإلا عند هذا الظاهر السطحى منها الذى صوّرناه.
ودليل ثان على أن هذه المبادئ لم تتعمق نفس ظافر أنه حين قتل الآمر سنة 524 وتولى ابن عمه الخليفة الحافظ واتخذ أبا على بن الأفضل الجمالى السنى وزيرا له، حينئذ نجد ظافرا يمدحه مدحا يخلو خلوا تاما من هذا الغلو الإسماعيلى الذى رأيناه فى مدائح الآمر. وكان من المبادئ الإسماعيلية أن يتولى الخلافة ابن الخليفة وتصادف أن الآمر لم يترك ابنا، وقيل بل ترك طفلا رضيعا اسمه الطيب، وتعصبت له جماعة سميت الطيبية وتعصبت جماعة أخرى سريعا للحافظ عبد المجيد ابن عم الآمر، وأخذت له البيعة واستولى على مقاليد الخلافة. وظل من ذلك جمر مختف وراء الرماد، مما جعل ظافرا يدافع فى بعض مديحه للحافظ عنه وعن حقه فى الخلافة قائلا:
ورث ابن عمّ محمد من بعده
…
حقّ الخلافة منصفا فى نقلها
وورثت أنت عن ابن عمّك حقّها
…
فجرى قياس خلافة فى شكلها
فالحافظ ورث الخلافة عن الآمر كما ورثها عن الرسول صلى الله عليه وسلم ابن عمه على بن أبى طالب رأس الأئمة. ولا يلحّ ظافر فيما كان يعتقده الإسماعيليون فى أئمتهم من معان قدسية ومن رفعهم عن حدود الطبيعة البشرية المادية، فهو إنما يمدح الحافظ بميراثه للرسول مما يجعله يطيل فى بيان معجزاته. ولعلنا لا نغلو إذا قلنا إن كل ما استبقاه من العقيدة الفاطمية فى مديحه قوله.
يا حجّة الله التى أبدت لنا
…
بكمالها الآيات والبرهانا
وكأنما حدث انقلاب فى مديح ظافر للحافظ بالقياس إلى مديحه للآمر، وليس له فى الحافظ إلا قصيدتان مع أنه عاش فى مدة خلافته خمس سنوات، إذ توفى سنة 529. وأكبر الظن أن فيما قدمت ما يدل على أن ظافرا لم يكن إسماعيليا بالمعنى الدقيق، وإنما هى فترة محدودة نحو أربع سنوات اضطر فيها لمديح الآمر على طريقة القوم، مما جعله يعود إلى ديوان ابن هانئ يستظهر ما فيه أو بعضا مما فيه، ولم يعد استظهاره قشورا، ردّدها حينا فى مديح الآمر ثم كفّ عنها فى مديح الحافظ إلا ما سقط عفوا.
وبدون ريب كان ظافر شاعرا بارعا وفيه يقول العماد الأصبهانئ فى ترجمته له بكتابه الخريدة:
«ظافر، بحظه من الفضل ظافر، يدل نظمه على أن أدبه وافر، وشعره بوجه الرقة والسلاسة سافر. . حدّاد لو أنصف لسمّى جوهريّا، وكان باعتزائه إلى نظم اللآلئ حريّا، أهدى بروىّ شعره
الرّوى للقلوب الصّادية (1) ريّا، فياله ناظما فصيحا مفلقا جريّا (2)». وحقا شعره غاية فى السلاسة والعذوبة، وهى ظاهرة عامة تلاحظ دائما فى شعر المصريين، كما يلاحظ عندهم على الأقل حتى زمن ظافر أنهم لا يتصنعون للبديع ومحسناته المعقدة، قد تأتى عندهم وقد يستخدمونها أحيانا ولكن فى خفة ورشاقة. ودائما تلقانا عند ظافر العذوبة والرقة على نحو ما نرى فى مثل قوله متغزلا:
يا ساكنى مصر أما من رحمة
…
فيكم لمن ذهب الغرام بلبّه
أمن المروءة أن يزور بلادكم
…
مثلى ويرجع معدما من قلبه
وهما بيتان فى منتهى السهولة، وكان ينفذ كثيرا إلى صور طريفة مبتكرة، وقد يبعد فيها حتى لتصبح كأنها رؤى حالمة على شاكلة قوله:
لئن أنكرت مقلتاها دمه
…
فمنه على وجنتيها سمه
وها فى أناملها بعضه
…
دعته خضابا لكى توهمه
وواضح أنه كان عند ظافر حظ من الخيال المغرق فى الوهم إغراقا يروع قارئه، وسننشد له قطعة من غزله فى الفصل التالى، ونكتفى بصورة واحدة من صورة الحالمة العجيبة لندل على هذه المقدرة البارعة، وهى صورة وصف فيها الهرمين وأبا الهول وصفا لم يقع لشاعر من قبله ولا من بعده، يقول:
تأمّل بنية الهرمين وانظر
…
وبينهما أبو الهول العجيب
كعمّاريّتين على رحيل
…
لمحبوبين بينهما رقيب
وماء النّيل تحتهما دموع
…
وصوت الريح عندهما نحيب
وهى صورة مركزة لمشهد واسع كبير استحال إلى هذه الرؤيا الحالمة، فالهرمان كأنهما عماريّتان أو هودجان هرميا الشكل لمحبوبين بينهما أبو الهول وكأنه رقيب، يشهدهما ساعة الوداع، وهما يذرفان الدمع مدرارا، ويهمى تحت أقدامهما نهرا فياضا كبيرا هو نهر النيل، والريح من حولهما تنتحب وتئن أنينا لا ينقطع. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن ظافرا كان أبرع شاعر عرفته مصر زمن الدولة الفاطمية.
(1) الصادية: الظامئة.
(2)
جريا: جريئا.