الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبهذا تعلم ان الدولة الرومانية لم تكن تتداخل في ادارة شؤون الجزائر الداخلية، ولا مكثرة من المتوظفين الذين لا فائدة فيهم غير اثقال كاهل الميزانية. بل انها تركت الدوائر البلدية وشأنها تدير أمورها بنفسها، ولم تتخذ من الموظفين الا العدد القليل للقيام بالشؤون الهامة. وكان الوالي لا يتداخل- بصفة قانونية- في شؤون المدن الرومانية الا في الخصومات المدنية الهامة والجرائم، فهو الحكم في ذلك، وله مراقبة المالية.
11 - جمهورية المدن الخمس
كانت قرطة عاصمة الملوك النوميديين منذ القرن الثالث قبل الميلاد. وقد اعتنى بها بعض أولئك الملوك فرقوها ترقية عالية.
ميلوم (ميلة) وروسقاد (سكيكدة) وشولو (القل) وكويكلوم (جميلة)، هذه المدن يقول عنها المؤرخ بلين: انها كانت أولا قلاعا حربية، وأخذ عمرانها يتسع حتى أصبحت في عهد طرياناس امبراطور رومة (98 - 117م) شبيهة بقرطة.
وكانت هذه المدن تحت الملك النوميدي. وبعد واقعة طبسوس انفصلت تلك المدن الخمس عن بقية نوميديا حيث ان يوليوس قيصر منحها لستيوس يستعمرها بجيشه المتركب من الاسبان والايطاليان. واشترط عليه أن يقطنها الرومان. وفي أوليتهم من نصره في حرب أفريقيه من الجنود. ومن ههنا سماها بعض مؤرخي الرومان "مستعمرة ستيوس".
انفصل من عهد ستيوس هذا القسم الواسع الخصب من نوميديا فلم يصر مرتبطا بها في السياسة والادارة حتى أن يوبا لما ولي على نوميديا لم يعرف له نفوذ بهذا الشمال النوميدي.
وقد كانت قرطة هي العاصمة لهذا الشمال، وتلك المدن الاربع تابعة لها وجزء منها.
ومن القرى التي كانت تابعة لقرطة في النظام والحكم: ثيدي (الخنق)، ارسقال (عين الكرمة)، مستار (عين بني زياد)، وزيلي (وجل)، صدار (عين الباي)، سيلة (سيقوس). وعلى القرى رؤساء منخرطون في سلك متوظفي قرطة، وقد استقل بعضها على عهد سبتمس سويرس وخصوصا على عهد قراقلا.
وبعد استعمار الرومان لهذا الشمال النوميدي بقليل ظهرت تلك المدن الاربع بفضل انتشار العمران، وأصبحت تضاهي قرطة. وأخذت نظاما داخليا مستقلا مع بقائها متعلقة بقرطة.
وكانت جميلة دون بقية المدن الاربع. بل قليلا ما تضاف اليهن. وسبب امتياز هذا الوطن عن بقية نوميديا واختصاصه بنظام صار به كمملكة مستقلة انه كان تحت رئاسة ستيوس ناصر قيصر ومغلبه على اعدائه الاقوياء الكثيرين.
وسبب اتحاد قرطة وميلوم وروسقاد وشولو انه حدث خلاف بين سكان هذه المدن الاربع على بعض الاراضي أيام أغسطس قيصر. وكان القرطيون قد أعانوه على عدوه ومنافسه انطونيوس، فكانت لهم بذلك عليه يد. فلما رفعت صورة الخلاف اليه لم يشأ أن ينصف أهالي المدن الثلاث من أهالي قرطة، ولكنه أصلح بينهم وعقد لهم محالفة رباعية، وجعل لكل مدينة ادارة شؤونها الداخلية على أن يكون لقرطة فضل الاشراف على الجميع. فكل مدينة تضرب الضرائب وتجبي الغرامات وتصرفها في مصالحها، ولكن رئيس قرطة هو
المراقب لاعمال سائر المدن، ويساعده في بعضها مجلس بلدي، وفي بعضها مجلس من المتوظفين حيث لم يكن لها حق الانتخاب.
وتدار هذه المدن المتحالفة على ايدي رجال تنقسم وظائفهم اربعة أقسام:
1 -
الرجال الثلاثة (تريومفير). لهم من النفوذ ما لقناصل رومة وينتخبون لمدة سنة فاتحتها يوليه. والمترشح يعلن قبل الانتخاب مباديه، ويرأس جلسة الانتخاب من الرجال الثلاثة المنتخبين سابقا أكبرهم سنا. وهذا الرئيس ينظر في المترشحين واستيفائهم للشروط. ويعلن بقبول اجراء انتخاب المستوفي لها. ومن انتخب لا يقبل تسليمه.
والرجال الثلاثة يتولون قيادة الجيوش وفصل النوازل بأنفسهم أو بمن يقيمونه نائبا عنهم، وبيدهم نظام الادارة بأسره، وكونهم ثلاثة هو الغالب. وقد يبلغ عددهم أحيانا خمسة أو سبعة أو عشرة أو خمسة عشر أو عشرين. وهم اما من أعيان الرومان أو ممن كان قنصلا برومة.
2 -
رجال الشرطة (الايديل). وظيفتهم الخاصة بهم مراقبة البناءات العمومية والحمامات الدولية ودخلها والمحافظة على نظافة الشوارع وجلب الحبوب الى المدينة وتشكيل الحفلات ومراقبة الامن بالاسواق والموازين والمكاييل وتأديب المعتدين بالجلد أو بالتغريم.
ويرأس هذه الوظيفة رجلان يضع كل منهما خمسة آلاف ضمانا.
3 -
وزير المالية. يقوم باستخلاص المغارم، ويقدم لرجال الشرطة المال عند عروض داع اليه. وهو الرئيس الاعلى لادارة المالية. ولا يوجد ما يدل على انه كان ملزما بوضع ضمان عند توليته.
4 -
العمال. كانت وظيفتهم في بلدان الجمهورية ما عدا قرطة. وهم بمثابة الرجال الثلاثة في قرطة. والظاهر ان يكون منهم لكل مدينة واحد. وينتقل العمال في المدن الثلاث من واحدة لاخرى.
وهناك متوظف غير من سبق يلقب "كورتور"(CURATUR) يسميه الامبراطور. وقوة نفوذه تابعة لقوة نفوذ الامبراطور في البلد الذي سماه فيه. ولم يكن للامبراطور قوة في هذه الجمهورية الا بعد انحلالها ومجيء البيزنطيين. فصارت وظيفته اخيرا قبض الخراج والقيام بجل الوظائف البلدية.
وكما كان لسياسة هذه الجمهورية رجال كان لديانتها أيضا رجال، وهم أقسام:
1 -
القائمون على الهيكل بذبح قرابينه وتقديمه لناره. واقدارهم مختلفة باختلاف عظمة الهيكل القائمين عليه. ولا يكون القائم على الهيكل الا من بيت شريف. ويعتبر هو وذريته وماله وقفا على خدمة ذلك الهيكل.
2 -
المراقبون للاعمال الدينية أينما كانت ما عدا القرابين التي هي أهم تلك الاعمال.
3 -
العرافون. يتولون افراخ الدجاخ لزجرها ومعرفة الحوادث الغيبية منها. ويتفرسون أيضا في الضحايا، نظير ما يوجد اليوم في بعض الافراد من خصوصية معرفة الحوادث بالنظر في عظام أكتاف الحيوانات. فهي من بقايا الوثنية.
4 -
المرشدون. يقومون بارشاد العامة الى رجوه عبادتها. وكل كبير أسرة يعتبر مرشدا لاسرته. وهذا في نفسه حسن، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"فالرجل راع على أهله وهو مسؤول عنهم".
ولعنايتهم بالسياسة عنايتهم بالدين كانت دار الامارة حيث هيكل الاله العظيم "جوبتير". ومكانها بموضع القصبة اليوم. وهي بذلك الموضع من لدن الملوك النوميديين.
قال بارس: "وهي معمورة بالذخائر. وقد وجدت قطع رخامية تشتمل على حصر تلك الذخائر، عثر عليها عندما أراد الأتراك بناء قشلتهم (1). وقيمة هذه الذخائر مناسبة لما كانت عليه قرطة من الثروة والرفاهية". ثم أخذ في تعدادها. ولكثرتها اكتفينا بالاشارة اليها محيلين محب الاطلاع على أشخاصها على كتاب قرطة (CIRTA)
وقد كان السكان في هذه الجمهورية على طبقتين: أهل الحقوق وغيرهم. الاولون هم من كانت لهم حقوق أصالة أو وراثة أو منحتهم بلديتهم ذلك تشريفا لهم أو تبناهم أهل الحقوق أصالة. والاخيرون هم الاجانب الذين استقروا بوجه نهائي بمدينة من المدن. وهناك طبقة لا حقوق لها أصلا وهم الاجانب الذين يحلون بالمدينة حلولا مؤقتا من تجار وطلبة علم وعابري سبيل.
وفي كل خمس سنوات يعاد تقييد أهل الحقوق وضبط أملاكهم وتجديد النظر في المغارم.
وكانت الطبقتان كلتاهما تتحملان الواجبات البلدية على السواء. وتختص الطبقة الاولى بأن عليها واجبات:
1 -
القيام بالبريد والطرق
2 -
استخلاص الغرامات واداؤها.
3 -
نفقات الوفود التي توجه الى رومة.
4 -
ترميم المعابد البلدية.
(1) القشلة سكن الجنود. وليست عربية.
5 -
التبرع على المشاريع البلدية، مثل التمثيل. القائمون بهذه الواجبات متمتعون بالحقوق السياسية تماما. وينتخب منهم في كل عمارة عشرة. ثم يجتمع هؤلاء المنتخبون في مجلس أعلى يكون هو الممثل للامة، فيتولى جميع شؤونها من تسمية وعزل. وأصحاب هذا المجلس أنفسهم على طبقات مرتبة حسبما يلي:
1 -
طبقة الديكريون. يختارهم الحكام (الرجال الثلاثة) من أماثل المنتخبين.
2 -
طبقة العظماء. وهم من كان عضوا بمجلس الشيوخ أو قائد جيش بلغ درجة تسمح له بالركوب.
3 -
لجنة الاعضاء الخمسة. وهم من كان له مرتبة أهل الطبقة الثانية غير انه لم يكن من العظماء السادة.
4 -
العرافون.
5 -
رجال الشرطة.
6 -
أمناء المال البلدي.
ويشترط فيمن يكون عضوا بهذا المجلس زيادة على كونه من أهل الحقوق:
1 -
أن يكون نظيف السيرة.
2 -
أن يكون ذا مال يختلف تقديره حسب القانون الاساسي.
3 -
أن يكون عمره (30) سنة ثم خفض الى (25).
وظيفة الديكريون يمنحه صاحب طول حياته ما دام حائزا على شروطها. وعددهم غالبا مائة وقد يزيد أو ينقص. ومنهم قسم يحافظون على الاعمال الدينية وعددهم اربعة عشر.
ولكون هذه الطبقة أعلى طبقة بالمجلس لا يصح شيء من أعماله الا بحضور عدد منهم. وأعمال هذا المجلس هي:
1 -
تسمية التوظفين على اختلاف طبقاتهم بعد انتخاب الامة.
2 -
منح لقب "مولى"(السيد) لمن كانت له أعمال جليدة اشتهر بها.
3 -
تهيئة أعضاء الوفود التي ترسل الى رومة للاعراب عن جور بعض الولاة.
4 -
تعيين من يرأس جمعية الديانات الاجنبية.
5 -
تجهيز الجيوش عند الاقتضاء.
6 -
تعيين مقادير التبرعات الدينية.
7 -
تحديد مقادير الضرائب البلدية.
8 -
تنظيم الحالة المالية.
9 -
محاسبة من كلف بشأن عام من طرف المجلس.
10 -
تعيين لجنة تشتغل ببيان دخل المدينة وخرجها.
11 -
النظر في البناءات هدما وتعميرا.
12 -
الامر بمطالبة من هو مدين للمدينة.
13 -
تعيين أيام المواسم.
14 -
الامر بالالعاب العمومية مع تكليف من يتولى تنظيمها.
15 -
الحكم النهائي فيما يتعلق بتحرير الارقاء وأرش التعديات.
16 -
امداد أهل الوظائف الخاصة بالنفوذ.
هذا نظام جمهورية المدن الخمس السياسي والديني، قال بارس (VARS) في كتاب قرطة:"وقد كانت قرطة قرار نظام كاد يكون منفردا في امبراطورية رومة"(1). وكانت علاقة هذه الجمهورية مع امبراطورية رومة أشبه شيء بعلاقة الحامي مع المحتمي بأشرف معنى للحماية. بل عبر عنها بعضهم بمملكة. وكان مبعوثوا الامبراطور للتجول في هذه الجمهورية واستطلاع أحوالها لا يتخذون شعارا
(1) ص4.
يميزهم. ولم يكن للامبراطور يد في نظام هذه الجمهورية الداخلي مدة اتحادها.
ولحسن هذا النظام عاش السكان تحته عيشة راضية وترقى الوطن ترقيا عظيما وارتفع شأنه في الحضارة والعمران. وتقدمت به العلوم والفنون والآداب. ونحن نثبت أبياتا قالها صائغ بقرطة لتنقش على قبره وهي باللطينية، وهاك تعريبها من غير تصرف:
"أنا المستحيل علي الكلام الآن أقص عليك حياتي في هذه الابيات:
تمتعت طويلا بالضوء النير وكنت "برسليوس" الصائغ بقرطة
صفاء طويتي يضرب به المثل وكنت دائما صادق القول
كان ما عندي للجميع ومن ذا الذي لم أشفق عليه
دائم الابتسام تمليت دواما مع أحبائي في حياة مترفة
وبعد وفاة العفيفة الصاحبة "فليريه" لم أجد مثلها
واحتفلت- بكل احترام- مائة مرة بعيد ازديادي
ولكن أتى اليوم الاخير الذي فيه تغادر الروح الجثمان البالي
وهذه الكتابة التي أنت قارئها قد هيأتها أثناء حياتي لمماتي
التي أتاحها لي الحظ. وطالما رافقتي ولم يهملني
فاقف أثري واتل سبيلي على ما كانت عليه ثم ائتني فها انا ذا منتظرك هنا".
بلغ الناس في هذه الجمهورية مبلغا عظيما من البذخ والرفاهية حتى حدثت قرى صغرى وطلبت نوعا من الاستقلال. فاعانها على
ذلك قياصرة رومة تفريقا للكلمة وحبا في النفوذ والاستبداد بالحكم وكان رجال الوظائف بعكس العامة ذهبت ثروتهم بسبب ما كان يثقل كاهلهم من النفقات البلدية.
فوجد قياصرة رومة في بذخ العامة وفقر الموظفين سبيلا للتدخل في اشقاء هذه الجمهورية. فصاروا يفرقون كلمتها بتلبية طلبات القرى الطامحة الى الاستقلال. ويضعفون نفوذ مجلس الأمة بتعيين الموظفين القيصريين مكان من عجز من أهل الوظائف البلدية عن القيام بمأموريته لفقره حتى اضمحل المجلس ووزعت أعماله على نواب القياصرة وعمالهم.
وكان انحلال الاتحاد بين المدن في القرن الثالث. فان ميلوم كانت تنازع قرطة في سيادتها وتجاريها في عظمتها حتى استقلت عنها وضمت اليها روسقاد وشولو. وآخر من تولى رئاسة هذه المدن الثلاث رجل يدعى كمودس (COMMODUS) أصله من ميلة وكان أحد الرجال الثلاثة بقرطة أيام اتحاد المدن.
فلما استقلت ميلة عن قرطة وجمعت اليها تينك المدينتين تولي هذا الرجل رئاسة المدن الثلاث بميلة.
بعد انحلال ذلك الاتحاد وتداخل اليد القيصرية ساءت الاحوال ونقص العمران وارتفع الامن. وما أصدق قوله تعالى: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وبقيت قرطة لحصانتها محافظة على عظمتها حتى أن الوندال لم يقووا على فتحها.
وكان بها كنيسة عظيمة للمسيحيين تخرج منها قسوس كثيرون منهم دنتوس الذي أحدث في المسيحية مذهبا نسب اليه وضاد به الكنيسة الكاثوليكية وفاز عليها في جميع التراب الجزائري.