الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما حنبعل فانه عاد الى قرطاجنة وهو يرجو أن يأتي يوم تقبل فيه رومة شروطا كالتي قبلتها اليوم قرطاجنة. وظهرت طلائع الفوضى بقرطاجنة. واتهم حنبعل بالتقصير في فتح رومة فحاكم عليه بالقتل. ولكنه استمال الجند وقلب النظام وأصبح هو الآمر الثاهي. وذلك سنة (195) وأخذ في رتق ما فتقته الحرب. فدرب الجنود ونشط الفلاحة. ولم يرق ذلك للرومان فبعثوا اليه بالكف عن تلك النهضة التي تعيد لقرطاجنة شبابها، وتخشى منها رومة خرابها. ولم يستمع اليهم حنبعل على كثرة الحاحهم. ولا أعياهم اعراضه عن موافقتهم عزموا على اغتياله بمساعدة أرباب الاموال التي استحوذت على قلوب أصحابها فلم تبق بها منفذا لحب الوطن. وإذ ذاك أيس حنبعل من خدمة أمته بقرطاجنة. ففر الى الشام ونزل على ملك السريان " أنطيوكيس " وأراد أن يشغل رومة ويخدم وطنه من الخارج. فطلب من ذلك الملك المدد لمحاربة رومة في المشرق. فأمده. وأخيرا أيس من أن تكون لهذه المحاولات ثمرة. فسم نفسه سنة (183).
وهكذا انتهت حياة هذا البطل العظيم والقائد الكبير الذي لم يهزمه غير الخائنين من قومه عبدة المنفعة الشخصية. فمضى ولسان حاله ينشد:
أنا لولا أن لي من أمتي
…
خاذلا ما بت أشكو النوبا
هـ - الحرب البونيقية الثالثة (149 - 146)
خرجت قرطاجنة من الحرب الثانية على تلك الصفة القاضية عليها بالموت. ولكنها أمة تجارية نشيطة فتحسنت حالها وانتعشت. وكان مصينيسا يقلقها بغاراته على حدودها. وقام بها ثلاثة أحزاب: حزب مالي غرضه السلم ومداراة رومة، وحزب وطني غرضه تأييد
سيادة قرطاجنة بالجيش والحرب، وحزب بربري غرضه الاحتماء من رومة بالخضوع لمصينيسا. ولو قدر لهذا الحزب الاخير النجاح ما رأى الجزائريون وجوه الرومان وفخفختهم.
لم يكف مصينيسا عن ازعاج قرطاجنة. فرفعت عقيرتها مرارا بالشكوى منه الى رومة التي لم يخف عليها تعدي مصينيمسا. وأخيرا خشيت رومة أن يستولي مصينيسا على قرطاجنة، ويقطع آمالها في امتلاك أفريقية. فوجهت الى أفريقية ثلاثة من الخبراء للبحث في قضية قرطاجنة مع مصينيسا وانصافها منه. فلما بلغوها ورأوا حسن حال قرطاجنة عدلوا عن انصافها خشية أن تعود الى قوتها وتحتفظ بسيادتها على وطن همهم في امتلاكه. حتى أن أحد الخبراء المدعو قاطون CATON لما عاد الى رومة حمل معه تينات طرية من شجرتها ودخل بها مجلس الشيوخ قائلا:"ان الارض التي تنبت هذه الثمرة ليس بينها وبين رومة الا مسير ثلاثة أيام، ومن كلامه أيضا: " ان رأيي ان نهدم قرطاجنة" ولم يزل يكرر هذا المعنى في خطبه. وبعد قليل أصبحت رومة تلفق أسبابا واهية لتبرير حرب قرطاجنة.
أدركت قرطاجنة جور أولئك الخبراء وعرفت أنه لا ينصفها غير قوتها. فكانت للحزب الوطني فرصة لم يضيعها. إذ قام من رجاله جسقون ونظم جيشا جعله تحت امارة أريو برزان حفيد صيفاقس عدو مصينيسا. واخرج حزب مصينيسا من قرطاجنة سنة (152) فاحتج مصينيسا على ذلك أمام قرطاجنة ورومة. وأخيرا هجم على الحدود فخرج اليه صدر بعل في جيش كثير. وانتهت المعركة بفوز مصينيسا. وذلك سنة (150).
بلغ خبر هذه الحرب الى رومة فاعتمدتها سببا لحرب قرطاجنة بدعوى أنها نقضت الفصل السادس من مواد الصلح السابق. وشرعت
في تجهيز جيوشها للدخول في الحرب البونيقية الثالثة. وما أجدرها أن تسمى حرب التين!
في سنة (149) وجهت رومة جيشا الى أفريقية. ولما نزل بصقلية جاءته رسل قرطاجنة معترفين بالجناية على الصلح مع أنهم كانوا مدافعين لا هاجمين. وقدم أولئك الرسل لضباط الجيش (300) من أعيان قومهم رهنا. ولكن الجيش سار لطيته وكان عدده ثمانين ألفا. ولما نزل بتراب قرطاجنة طلب منها- تكفيرا عن جناية نقض الصلح! - تسليم جميع المواد الحربية وآلات الصناعة. فلبت الطلب! وكان مما استلمه الجيش الروماني مائتا ألف درع، وثلاثة آلاف مقلاع، عدا المراكب وغيرها. وبعد استلام ما طلبه الجيش الروماني أولا طلب ثانيا منها أن تتخلى له عن خمسة عشر ميلا من ترابها. فطلبت تأجيل الجواب عن ذلك الى شهر. ووافقها الجيش على هذا الطلب لاعتقاده أنها عاجزة عن أي مقاومة.
أثار هذا السلوك الممقوت والخداع الخبيث حمية القرطاجنيين. فهاجموا وثاروا في وجوه الذين مكنوا الرومان من قوتهم. وجمعوا عشرين ألف جندي تحت قيادة صدر بعل. وتهيأ السكان أجمعون للدفاع عن المدينة. وكان عددهم سبعمائة ألف. وخرج صدر بعل بجيشه من المدينة ليتمكن من تموينها. واستعد الباقون للحصار تحت رئاسة حفيد مصينيسا المسمي صدر بعل. ونهضوا أثناء ذلك الشهر للعمل بنشاط غريب حتى أنهم هدموا الديار ليأخذوا أخشابها ويصنعوا منها السفن وآلاتها وحلقت النساء شعورهن ليفتل منها الحبال.
وعندما تم الامد جاء الجيش الروماني ليدخل المدينة فوجدها على غاية الحصانة. وتحرج موقفه. ثم فشا فيه المرض والعصيان. وكان القرطاجنيون بخلاف ذلك تزداد حرارتهم الوطنية بطول الحصار.
ولم يجد الرومان مساعدة من مصينيسا الذي لزم انحياد رجاء أن يستفيد من ضعف الدولتن كلتيهما.
مكث القرطاجنيون في انحصار عامين. واشتد عليهم تحت رئاسة سبيون الأميلي اذ حفر خندقا أحاط بالمدينة، وأقام سدا بينها وبين المرسى، وطارد الجيش القرطاجني المقيم خارج المدينة. وبذلك انقطعت عن المحصورين مادة التموين. وذلك سنه (147). وحاول المحصورون النفوذ الى المرسى باتخاذ نفق تحت الجبل. فشعر بهم المحاصرون وردوهم إلى الحصار فاستمروا فيه متزودين بالصبر.
لما حكم سبيون حصار قرطاجنة وقطع عنها المؤنة برا وبحرا عزم على فتحها. فقصد مكانا ليدخل منه على غرة من أهلها. ففطن به صدر بعل حفيد مصينيسا وصده بايقاد النيران في وجهه. وأخيرا دخل سبيون المدينة من ناحية المرسى. فشد عليه السكان شدة عنيفة. وأرسلوا عليه كل ما لديهم من مهلكات ومحرقات. ولكنه صبر لها وفتك بمن ساقه القدر اليه من شيوخ ونساء وصبية وأحرق كل ما مر به. ودامت الحال على شدتها ستة أيام بلياليها. والتجأ الممحصورون الى هضبة برسة. وهم مع ذلك لا يسلمون قدما إلا بحقها. وكثرت الأموات حتى صاروا يرمونها من طريقهم بالمذاري.
وكان المحصورون بجبل برسة (1) ثلاثين ألفا. فلما أيسوا من النجاة ونفذ ما لديهم من وسائل الدفاع ومعدات الحصار أسلموا أنفسهم- ومعهم صدر بعل- لسبيون على أن يحفظ لهم أرواحهم. وكانت زوج صدر بعل أقوى منه جأشا فربأت بنفسها عن أن تحتمل
(1) جبل برسة هضبة بمدينة قرطاجنة. شاد بها الفرنسيون اليوم كنيسة ومتحفا وضريحا للقديس لويس التاسع ملك فرنسا الذي هلك في حربه ضد المستنصر بالله الحفصي بالوباء سنة 669هـ - 1270م.
منة سبيون. فأوقدت النار بمعبدهم وألقت نفسها فيها. وفعل فعلها ألف قرطاجني. وذلك سنة (146).
وانتهت الحروب البونيقية بفتح قرطاجنة التي خلد البونيقيون بدفاعهم عنها لانفسهم كل الفخر والشرف وللرومان الغادرين كل خزي وعار. وانه لفتح فتح على الجزائريين كل النوائب والمصائب وسد عليهم طريق الاحسان السامي فلم يروه إلا بعد ثمانية قرون عندما جاءهم العرب اخوان الفينيقيين يحملون لهم دينا فطريا وأحكاما عادلة وحضارة طاهرة.
عندما تم فضح قرطاجنة احتفلت رومة بآلهتها وقربت لها القرابين. ثم وجهت عشرة من أعيانها لينظروا مع سبيون في مصير قرطاجنة. فحملتهم الكراهية والبغضاء لمؤسسيها رجال العمران على اختيار هدمها وتخريبها ففعلوا وبئس ما صنعوا. ولعنوا مكانها. وأخذوا من تراب حكومة قرطاجنة قطعة ضيقة أضافوها الى مستعمراتهم وأطلقوا عليها اسم " مملكة الومان في أفريقية " وجعلوا لها واليا مقره عوتيقة.