الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهملوا الجندية وفرطوا في الاسطول. فلم ير البربر تلك القوة التي كانوا يخشونها، ولم يجدوا تلك الغنائم التي كانوا يجرونها.
وقرب نجاح تلك الثورات أن الوندال كانوا خربوا أسوار المدن خوفا من أن يتحصن بها الرومان. فلم يجد الثوار حاجزا يقف سير ثورتهم.
في عهد خلفاء جنسريق استولى البربر على أكثر تراب الموريطانيتين. ونزل بربر أوراس الى سهول نوميديا. وخربوا بها المدن الزاهرة التي كانت تحت حماية الفرقة الثالثة الاوغسطية. وهي: تفيست، باغاية، تمغادي، لمبس. وبلغوا قريبا من قسنطينة.
قال اغسال: "حقا ان البربر أنفسهم كانوا يكنسون الوندال. لولا ان الاغريق هم الذين تحملوا بهذه الخدمة"(1).
10 - انتهاء دولة الوندال
في سنة (533) قدم الروم البيزانطيون إلى افريقية لحرب جلمير. وفي شتنبر تلك السنة فتحوا قرطاجنة. وبقي جلمير خارجها يجمع الوندال والبربر ليعيد عليهم الحرب. وفي منتصف دجنبر آخر السنة عادت الحرب بين الفريقين وانتصر فيها الروم. ففر جلمير الى بعض الجبال متحصنا. وحماه البربر بمدينتهم ميدينس. فحاصرها الروم ثلاثة أشهر ولم يقووا على فتحها. واخيرا طلب جلمير الامان لنفسه من الروم. فأمنوه واستسلم لهم. وذلك سنة (534) واستسلامه انتهت دولة الوندال التي تأسست بالجزائر سنة (430) فكانت مدتها 104 ولم يضبط ابن خلدون ذلك. فقال: انها كانت نحوا من ثمانين سنة.
(1) الجزائر في القديم 131.
وبسقوط ملكهم ذهب من أفريقية كل شيء وندالي. قال مرسيي: " بعد ستة أشهر من مجيء البيزنطيين لم تبق أفريقية وندالية. الامر الذي يدل على ان استيلاءهم لم يتمكن منها. وذلك أنهم بعد ما فتحوها فتحا سريعا مدوا أعينهم الى جهات أخرى. فاشتغلوا بالفتح واطفاء الثورات. ولم يستعمروا الارض وينشروا المدنية. ولم يمتزجوا بالمعمرين من الرومان ولا اتخذوا روابط مع البربر. وبهذا ذهب أثرهم بأثر فقد ملكهم. أما رجالهم فقد ذهب أكثرهم في الحرب. وانتقل بعضهم مع جلمير الى المشرق ودخلوا تحت العلم البيزنطي. وانتقل آخرون الى جهات أخرى. وبقي منهم قليل بأفريقية. ولكن لم يكن لهذا الباقي تأثير بها. لانهم أمة حربية ذهب جندها وملكها. ولم يبق لهم بعد دولتهم الا ذكرهم السيء. وكل فتح لم يرتكز على الاستعمار يذهب أثره بذهاب دولته".
وقال بيروني: "لا يوجد دليل على ان الوندال حكموا نوميديا كلها. إنما كان سلطانهم حقيقيا على الشواطيء الساحلية. وهو أشبه شيء باستيلاء الاسبان في القرن السادس عشر" وبعد ان ذكر كلاما نظير ما قدمنا عن مرسيي قال: " ويقول بعض المؤرخين: ان الوندال أخذوا شيئا من الحضارة الرومانية. وأعانوا الفلاحة. وجلبوا المياه. واخترعوا صناعة أسلحة. وهم أمة متعصبة للغتها وآدابها لا تسمح لها نفسها بتعلم اللغات الاجنبية وآدابها. ومع ذلك فان لجنسريق ابن أخ كان متضلعا في اللغة اللطينية وعلوم رومة. وشهد كثير من المؤرخين بأن تراسمند كان أعلم أهل أفريقية، وكان يحب المحاورة باللسان اللطيني في المسائل الإلهية والفلسفية مع رجال الكنيسة. وألف باللغة اللطينية كتابا يؤيد فيه مذهب أريوس، أظهر فيه بلاغة في الانشاء ومقدرة في المنطق. والوندال- وان كانوا أقل حضارة من الرومان- استفادوا من مماستهم، ونقلوا عنهم في أمد
قليل عوائد. وهذا مما يؤيد كفاءتهم وأهليتهم للفنون والادب. وقد نظم جلمير أيام حضارة قصائد بديعة. ولم يبق شيء مما كتبه الوندال حتى أن أسلحتهم ذهبت، ولم تعش بعد القرون الوسطى (1). ولم يبق من لغتهم الا بعض كلمات وأعلام شخصية. وهذا الفناء التام هو الذي جرأ من بعدهم على لعنهم وتشويه سمعتهم. ولا يعقل أن تدوم حكومة قرنا كاملا ولا غرض لها الا الهدم. بل لا بد ان تكون لها حسنات. ويظهر أنها هدمت أكثر مما شادت".
هذا كلام بيروني نقلناه بطوله لانه اشتهر أن الأمة الوندالية أمة متوحشة هدامة للحضارات شأنها الغزو والسلب والنهب. فلكيلا يظن ان ذلك حقيقة تاريخية لا نزاع فيها نقلنا كلام المؤرخ مرسيي المؤيد لهذه النظرية ثم كلام البحاثة بيروني المناقض لها والمبين لسبب هذه السمعة السيئة.
ونحن نميل الى الرأي الثاني لاعتداله وتدعيمه بالادلة المعقولة. بخلاف أصحاب الرأي الاول فقد بالغوا في ذم الوندال. وقد بين بيروني سبب اقدامهم على هذا التحامل بكون الوندال فنوا فناء تاما. أما سبب تحاملهم فلأن هذه الأمة كانت حاربت الملكة الغربية، وأسست دولتها على حسابها. ثم حاربت المملكة الشرقية احتفاظا بسلطانها فلم تفلح. فمحاربتها لهاتين المملكتين الشقيقتين ووقوع عصرها بين دوريهما سبب قوي لذلك التحامل.
وسواء صح الرأي الاول أم الثاني فان بربر الجزائر لم يستفيدوا من الوندال لا علما ولا صناعة ولا أخلاقا ولا نظاما، لان سلطتهم
(1) يقسم المؤرخون أدوار التاريخ الى ثلاثة: القرون الاولى، من فجر التاريخ الى انقسام دولة الرومان سنة 395م، والقرون الوسطى، من ذلك الحين الى فتح القسطنطينية سنة 1453، والقرون الاخيرة، من ذلك العهد الى اليوم.
عليهم كانت على ضعفها غير شاملة لجميعهم. وقد رأيت أنهم كانوا في أيام جنسريق أيام شباب الدولة متهيئين للثورة. فلم يغب عن الوجود حتى أعلنوها.
على أن البربر ليس غرضهم من تسهيل طرق الاستيلاء للوندال أن يفيدوهم في شيئ غير طرد الرومان. وقد نالوا هذا الغرض. وبزوال الضغط الروماني استطاعوا ان يجددوا قوتم الحربية ويستعيدوا حياتهم الاستقلالية. هذا ما قصدوه من استبدال الوندال بالرومان. وهذا ما استفادوه منهم وبلغوا منه غايتهم. حتى أنه - كما سبق- لو لم يعجل الروم البيزنطيون بقدومهم الى أفريقية لاستطاع البربر وحدهم ان يقضوا على الوندال ويستقلوا بوطنهه.
ـ[صورة]ـ شكل (27) الجدار: القسم الاول عبارة عن سطح وغرفة مخصصة للعبادة.
ـ[صورة]ـ شكل (28) - الجدار: الجبل الاخضر