الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ان يخضع للسيادة الاجنبية مهما طال أمدها عليه، وامتدت عروقها بوطنه، وكثرت سكاكين حضارتها لتقليم أظفار بدويته، وفيما سقناه من أحاديث الثورات البربريه ما يغني عن الاسهاب في بيان هذه الحقائق.
د- واما نفور البربر الكسبي فقد رأيت ما كان للرومان عليهم من التفوق والاستعباد. الامر الذي كان يلقح دائما نفورهم الطبيعي. ولا أزيدك في انارة هذه الحقيقة عما تقدم غير كلمة واحدة أنقلها عن بيروني، وهي لا تخرج في معناها عما سبق. قال هذا البحاثة:"والاماكن التي كان للرومان بها سلطة حقيقية وقدم راسخة لا يعامل البربري فيها الا للاتتفاع منه".
هذه أصول علل سقوط حكومة الرومان بالجزائر. وقد أكثر المؤرخون في هذا الموضوع من الابحاث والاستنتاجات. وقد لخصنا لك في هذا الفصل زبدة أقوالهم الصحيحة، وأعرضنا عن تتبع ما كان لهم من أقوال ساقطة وأفكار سقيمة خشية الاطالة من غير كبير فائدة. والمطلع على كلامهم يرى فيه غرضين واضحين: أحدهما حمل القارئ على الاعتقاد بعظمة الرومان الى درجة أن يدهش من سقوط استعمارهم، وثانيهما تحذير قومهم من الفرنسيين من الوقوع فيما وقع فيه الرومان. وكلا هذين خارج عن غرضنا من تاريخ الجزائر.
23 - الحضارة الرومانية والبربر
كانت لبعض الاباطرة عناية بغرس الحضارة الرومانية بالجزائر. وأشدهم عناية بذلك ادريانس وسبتموس سويرس وقسطنطين. ويقول بعض المؤرخين: ان الرومان أكملوا حضارتهم بالجزائر حتى أصبحت لا فرق بينها وبين حضارة رومة. ويستدل لذلك بانه زمن طريانس
صار من يحكم عليه بالنفي من رومة يمنع من افريقية لما بين الوطنيين من المشابهة في الحياة والرفاهية.
ونحن لا ننازع في وجود حضارة رومانية بالجزائر شبيهة بحضارة رومة. وانما نبحث عن هذه الحضارة هل كانت خاصة بالرومان أم أن البربر أقبلوا عليها؟
اختلفت أقوال الباحثين من المؤرخين ازاء هذه النقطة وانقسموا ثلاث فرق:
1 -
فرقة تقول: كل ما كان بافريقية الشمالية من بناءات وفلاحة وسائر وجوه العمران انما كان من البربر، أخذوا الاساليب عن الرومان وعمروا لانفسهم. وزعيم هذه الفرقة هو لويس بيرتران. ومما قاله بيرتران: ان البربر أقبلوا على الحضارة الرومانية أكثر مما أرادت منهم رومة: وان افريقية اللطينية لم تزل قائمة الى يومنا هذا، لم ينسخ ظلها نور الاسلام اذ أنه أنما أتاها بدين ولم يأتها بحضارة، وانه لم تقع معارضة بين البربر والرومان مع كون السيادة للرومان لا سياسيا ولا دينيا ولا اقتصاديا.
وهذه أقوال سخيفة. وقد تعرض يبروني لردها. أما أنا فلا أطيل الفصل بنقض أمثال هذه الاقوال، وكونها صادرة عن فكر لويس بيرتران كاف لسقوطها. وإذا كنت تجهل هذا الرجل- رغم كونه رئيس المجمع العلمي الفرنسي- فهو الذي قال فيه أحد الكتاب الفرنسيين وأجاد:، إذا أردت الحقيقة في كلام بيرتران تجدها في نقيض ما يقول".
2 -
وفرقة تقول: ان الحضارة الرومانية بالجزائر مركبة من أيدي واذهان الرومان والبربر، وان العنصرين كانا مشتركين في الاحساسات الدينية والسياسية والفوائد الاقتصادية، وان رومة تداخلت في أخلاق البربر فغيرتها تغييرا معتبرا.
والتاريخ الصادق يشهد لخلاف هذا الرأي أيضا: فان البربر- وان عملوا في تكوين الحضارة الرومانية بوطنهم - انما كانوا بصفة عملة مجبورين. والذين لم تستطع يد الرومان ان تنالهم بالقهر لم يعملوا شيئا في هذه الحضارة. وقد رأيت أن البربر كانوا دائما خلاف الرومان في الدين وثائرين على سياستهم، وانهم كانوا محرومين من الفوائد الاقتصادية، وان اخلاقهم لم تزل بحالها فان أكثر القائمين بالثورات كانوا ممن عرفوا الحضارة الرومانية واخذوا منها ما لا يضر بقوميتهم.
3 -
وفرقة- منها مرسيي وفرنال- تقول: ان البربر لم يقبلوا على الحضارة الرومانية، وانها ذهبت بذهاب سلطانهم. وهاك أهم حجج هذه الفرقة:
1 -
مدة وجود الرومان بافريقية- على طولها- لم تنقطع الثورات، ولم يفتأ البربر فيها مدافعين عن ديارهم وعوائدهم، ولم توجد أية قوة تنزع من قلوبهم حب التمتع بالاستقلال.
2 -
لم يوجد من البربر من أعان الرومان، وما كان من مسيزال فانما كان انتقاما من أخيه الذي قتل له ولدين لا حبا في الرومان. ويوضح لك ذلك انه كان حارب الرومان مع أخيه فرموس، وانهم لم يجازوه على أعانته لهم على جلدون جزاء المعين المخلص.
3 -
عدم انتشار اللغة اللطينية بين البربر حتى آخر عصر الدور الروماني اذ كان عصر القديس أغسطين الولاة الاداريون والرؤساء الدينيون يحتاجون الى ترجمان بينهم وبين البربر.
4 -
لم يبق من مدنية رومة غير الخرابات والاحجار المنقوشة، ولو أثرت رومة في البربر حقيقة لبقي من حضارتها أشياء أخر غير الخرابات.
وهذه الفرقة هي ذات القول الصحيح والحجة القويمة، هي التي صدقت التاريخ ولم تتأثر بدعاية ممجدي الرومان ومكبري شأنهم.
قال بيروني: ويمكن اسناد سقوط الحضارة الرومانية بأفريقية الى ثلاثة أسباب:
1 -
فساد الاخلاق الرومانية، وذلك لكثرة الملاهي والمنتزهات.
2 -
نقص الرومان الذين بيدهم تسيير الحضارة، وذلك ان كثرة الملاهي تضعف اليد العاملة فيقل الفلاحون والنوتيون وغيرهم.
3 -
وجود الديانة المسيحية، وذلك بما حدث فيها من الاحزاب المتباغضة.
قال بيروني: "والسبب الحقيقي لسقوط الحضارة اللطينية من افريقية هو عدم استقلالها استقلالا يحفظ بقاءها بعد سقوط رومة" وفي هذا الكلام شيء من الابهام. فان أراد من الاستقلال استقلال الرومان العاملين على نشرها سياسيا واداريا فهذا لا يكفي لحفظها من السقوط لان الجنس الاصلي بهذا الوطن غير مقبل عليها اقبالا يحفظها بعد الرومان. فان قال: ان الرومان لو استقلوا بأفريقية لبقيت لهم سلطتهم وحضارتهم، ولم يضرهم ما يصيب الامبراطورية برومة قلنا ان سلوكهم مع الجنس الاصلي لا يضمن بقاء سلطتهم. بل لو استقلوا عن رومة لتعجل سقوطها. وهذا بونيفاس لما أراد الاستقلال احتاج الى الاستعانة بالوندال. على ان للدول مثل الاشخاص أعمارا تنتهي بانتهاء آجالها طالت أو قصرت.
وان أراد من استقلال الحضارة اللطينية بأفريقية الشمالية ان تكون بيد الجنس البربري فصحيح ان تبقى بعد سقوط رومة كما بقيت حضارة قرطاجنة بعد سقوطها. ولكن الرومان ليس غرضهم من
الاستيلاء على الشمال الأفريقي نشر حضارتهم به حتى يتخذوا الوسائل اللازمة لقبول البربر اياها. وانما كان غرضهم توسيع دائرة نفوذ رومة، وتوزيع ابنائها على المستعمرات لكسب الثروة التي عزت عليهم بوطنهم، وجلب نتائج تلك المستعمرات الى ايطاليا القاحلة.
واذن نقول: ان السبب الحقيقي لسقوط الحضارة اللطينية بالجزائر هو عدم اقبال البربر عليها، وليس عدم اقبالهم عليها لآفة في طباعهم. فانهم أقبلوا على حضارة قرطاجنة قبلها. وبقوا محافظين عليها حتى جاءهم العرب بحضارة سامية حديثة جرت ذيل النسيان على حضارة سامية قديمة. وعدم اقبالهم على حضارة رومة يرجع الى الاسباب الآتية:
1 -
ترفع الرومان عن مخالطتهم. قال بيروني: "وكان الرومان لا يخرجون عن وظيفتهم السياسية والادارية، ويترفعون عن مخالطة البربر. ومن البربر من كانوا يتجنسون بالجنسية الرومانية، ولكنهم يجدون- بعد تجنسهم- الرومان متمسكين بترفعهم عن مخالطتهم".
2 -
سياسة الضغط التي سلكها الرومان مع البربر، وذلك بانتزاع اراضيهم وسلب حقوقهم وجبرهم على العمل في أرضهم لفائدة غيرهم. فالبربر الذين تحت الاستعباد الروماني ذهبت مواهبهم في خدمة الرومان، والذين سلموا من ذلك الاستعباد نفروا من كل شيء روماني.
3 -
اهمال الرومان للبربر، فلم يعتنوا ببث الاخلاق الفاضلة بينهم وتحويل عوائدهم. اذ كان غرضهم من الاستيلاء الفوز بنتائج الوطن وخيراته.
ومن ههنا نعلم ان البربر لم يمتزجوا بالرومان ويندمجوا فيهم. ولكن لا ننكر وجود شواذ وقذتهم الحضارة الرومانية وتأثروا بساداتهم