الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتوجه بهم الى البروقنصلية قاصدا قرطاجنة. فقابله بروبس وتبارزا. فقتل ذلك الوالي أرديون وحفر له قبرا كبيرا عرضه مائتا قدم تفخيما له. قال مرسيي: "والظاهر أن هذه المبارزة كانت بنواحي شق بنارية". وانهزمت جموع أرديون. ولكن الثورة لم تمت بموته. وحقد البربر على بروبس حتى انه لما ارتقى امبراطورا (276 - 282) وكان له أضداد كان البربر عليه مع الاضداد.
وقد اشتدت ثورة القبائل الخمس سنة (288) على عهد الامبراطور ديوقلطيانس فجعلت رومة جائزة لاورليوس على حربهم. فتمكن من اخضاعهم ولكن خضوع هؤلاء القبائل لم يكن نهائيا. وبعد أمد قصير أعادوا الثورة وهجموا على نوميديا وانتشرت ثورتهم في الجهات الشرقية. وكان ديوقلطيانس قد قسم مملكة رومة على ولاة، منهم مكسميانس وجعله على اطاليا وأفريقيا. فلما اشتدت الثورة وتفاقم هولها قدم هذا الوالي بنفسه الى أفريقية ليتولى ادارة الحرب. أرجع هذا الوالي القبائل الخمس الى مقرها بجبال جرجرة، ثم تتبعهم في رؤوس تلك الجبال ونالوا منه أشد النكال. وأخيرا انتصر عليهم ونقل بعضهم خارج وطنهم، وذلك عام (297). وقبل هذا الحين لم يكن الرومان مستولين على وطن القبائل. ولما استولوا عليه جعلوا عاصمته بيدة (جمعة صهريج).
وبعد استيلاء الرومان على وطن القبائل لم ينقطع منه رجال الاستقلال مثل فرموس وجلدون. وسترى في فصل آخر ما لهذين الزعيمين وغيرهما من عظيم الاعمال في سبيل الاستقلال.
15 - العمران الروماني بالجزائر
علمت من الفصل الثاني عشر ان الحياة الرومانية بالوطن
الجزائري كانت راقية. وذلك يرجع الى عناية الرومان بالثروة ومظاهر العظمة. وقد حلوا أرضا خصبة وحكموا أمة عاملة حاذقة نشيطة. فلا جرم كانت آثارهم في العمران عظيمة.
وأهم موارد الثروة بالوطن البربري الفلاحة ثم التجارة. أما الصنائع فلم تكن من موارد الثروة، وان كان الوطن لا يخلو منها.
وكانت مراس معتمدة للتجارة، منها اجلجلي، صلداي، قيصرية صيغة. وصنعت الطرق داخل الوطن، وأجادوا في اتقانها وتوسيعها، الا فيما بين القرى. فقد كان بها شيء من الضيق. كانت الطرق تخترق الوطن البربري، والقوافل تقطعها للتجارة. وأكبر طريق هي التي تصل بين برقة والمحيط الأطلانطيقي. وقد كان لبعض الاباطرة يد في جعل الطرق والقناطر، منهم أدريانس والكسندر سويرس.
والوطن البربري لم يكن في العصر الروماني اخصب منه اليوم وأكثر ماء. قال غسال: "بل الظاهر ان الحالة من حيث المطر مماثلة لما هي عليه اليوم، فلم تكن البحيرات التي بوسط عمالة قسنطينة أوسع منها اليوم. يدل لذلك وجود الآثار البرية بشواطئ هذه البحيرات. ولم تكن الاودية أكثر ماء منها اليوم. وفي الكتب الاغريقية روايات عن تكرر اليبس بالجزائر حتى وقعت مجاعات". وذهب بعضهم خلاف هذا ورأى ان هذا الوطن كان على عهد الرومان أخصب تربة واغزر ماء. ونحن نرى أن دعوى المماثلة غير صحيحة، وأن الفرق لم يكن بعيدا جدا اما من حيث الري فمن المحقق ان غابات الوطن كانت اذ ذاك أكثر من اليوم. وهي من أسباب الري لانها تمسك الماء عن الجريان فتروي الارض وتؤثر في الهواء برودة ما. واما من حيث طبيعة الارض فان كثرة استغلالها تضعف من قوة ترابها. وقد ذكر غسال نفسه: " ان شمال نوميديا كان من أخصب الاراضي لكثرة
حجر الجير به." قال: "وقد تقص هذا الحجر منه تدريجا ونقص معه حجم الحبوب".
ومما يوضح لك تقارب احالة الارض في ذلك العهد وفي هذا العصر شدة العناية بجلب الماء حسبما دلت عليه آثار بأماكن متعددة. قال غسال: "وكثير من تلك الآثار وقع قبل الرومان. وانما هم حافظوا عليها وأنشاوا غيرها".
وهذه الآثار منها تفجير العيون، ومنها حفر الآبار، ومنها اتخاذ المآجل، ومنها بناء السواقي ذات الحنايا، ومنها سد الاودية. قال بيروني:"ومنها بالحضنة ثلاثة سدود بواد واحد. الكبير منها يحمل نحو (1200000) ليترا." قال غسال: "ولم يزل الى اليوم مئات من الآبار بجنوب سطيف وشمال أوراس.
ولهم قوانين دقيقة لتوزيع المياه على السكان. عثر على قانون لتوزيع المياه على سكان لمصبه (مروانة) ينص على عدد أشجار كل فلاح من زيتون وغيره، وعلى عدد ساعات السقي.
ونفقة تلك الخدمات المائية اما على البلديات أو شركات أو أفراد.
قال غسال: "والغرض من جلب المياه اما الشرب أو سقي أشجار الزيتون والبساتين. ولم يعتنوا بجلب المياه الى الاراضي الزراعية على احتياجها الى ذلك".
وكانت آلة الفلاحة بسيطة. وهي مثل ما للجزائريين اليوم. وللفلاحين معرفة بتوزيع الحبوب على الارض حسب الصلاحية.
وكان شجر الزيتون وغيره من ذوات الاثمار والفواكه كثيرا يظنه الرائي غابات. وتوجد آثار معاصر الزيت بجهات كثيرة.
ولقد تشارك الاغنياء والاباطرة في تنشيط الفلاحة. فكان المشتغلون بغراسة الزيتون والكروم يعفون من الضرائب سنين. ومن الاباطرة الذين اعتنوا بتنشيط الفلاحة قسطنطين. فقد أعفى آلات الفلاحة من الاداء على التجارة الخارجية، وأعفى العملة بأرض الفلاحين من الخدمات التي كانت تلزمهم بها الدولة عند العجز عن اداء الخراج، واشتد على الاغنياء الذين يريدون ان يبتلعوا بقروضهم صغار الفلاحين حتى صار يحكم بالقتل على كل مالي يريد ان يفتك من الفلاح الصغير عند العجز عن أداء الدين أرضه أو عبيده أو حيواناته أو آلاته. وقبله كان الامبراطور ادريانس (117 - 138) اعتنى بأفريقية وقدم اليها بنفسه سنة (122) فنشط الاستعمار. وادخل على الوطن البربري اصلاحات جمة. واقتدى به بعض البلديات في ذلك. فأنفقت قرطة من ماليتها على جعل طريق منها الى رسقاد. وأحبته العامة. ولكثرة حسناته على أفريقية دعي "مصلح أفريقية" RESTAURATEUR de l' AFRIQUE وطبع هذ اللقب على صفحات النقود.
وعلى نتائج الوطن البربري كانت رومة تعتمد في حياتها، حتى أن الوالي الذي يثور بهذا الوطن على رومة يسرع قبل كل شيء الى قطع اصدار الحبوب الى رومة.
كانت رومة تجلب من أفريقية الشمالية الحبوب والزيتون والعنب والتمر والفواكه والتوابل. وتجلب ايضا الرخام والاخشاب والخيل والغزال وبعض الحيوانات المفترسة لترويضها في الملاعب والنحاس والرصاص والحديد وسبائك الفضة والتبر والعبيد السود والصوف والجلود والبقر والغنم وشمع النحل وكل مواد الحياة والرفاهية.
مواد حياة رومة كانت تأتيها من أفريقية الشمالية لمدة ثمانية
أشهر (شتنبر- ابريل)، ومن مصر لمدة اربعة اشهر. ولما اتخذ قسطنطيين بيزنطة عاصمة لمملكته اختصت افريقية بتموين رومة، ومصر بتموين بيزنطة.
ويبلغ فب بعض السنين ما تأخذه رومة من شمال افريقية (348000) طن.
واتخذت رومة سفنا خاصة لنقل حبوب أفريقية، ومراكز لجمعها ووكلاء للقيام على اصدارها، وأعفتها من أداء التجارة الخارجية.
ومن المركزا التي كانت تجمع بها الحبوب لتصدر الى رومة: وادي مجردة، تغاست، مدورس، تفيست، لمبس، ناحية سيطيفس. قال بيروني:"يحمل من هذه المراكز كل عام ما يقرب من مليوني قنطار قمحا".
وما تأخذه رومة من افريقية بصفة خراج تبيعه هنالك لابنائها ثم صارت تقسمه مجانا على أهل الحاضرة والبادية. وكان عدد الذين تمونهم الجمهورية برومة (320000). ولما جاء يوليوس قيصر نقص من هذا العدد نصفه. وبعده جاء أغسطس فبلغ عددهم (200000) وفي سنة 64م احترقت رومة فكان نيرون الامبراطور محتاجا الى تعزيز مالية الدولة فقطع هذا المعاش عن أهله. وبعد وفاته أعاده خلفه.
وكان لتوزيع القمح قوانين خاصة مشتقة من اسمه (FRUMENTAIRE) والايطاليون اذ ذاك يستعملون القمح في معاشهم أكثر مما يستعمل اليوم. ولشدة ارتباط حياتهم بأفريقية كان عظماء رومة إذا اجتمعوا في ساحة المدينة (الفوروم) يقرن أحدهم
سلامه على صاحبه بقوله: "ما حدث بأفريقية؟ "(QUID NORD AFRICA) وإذا كنى الرومان عن رجل بسعة ماله قال: في مخازنه قمح أفريقية. وكانوا يقولون: أفريقية مخزن رومة (GRENIER de ROME).
قد يتعجب المرء من كثرة هذه النتائج على قلة أيام السلم. وقد يعجب أيضا بفضل الرومان في العمران. ونحن لا نقف ازاء هاتين النقطتين موقف الدهش بل نعطي رأينا فيهما وللقارئ حق التعقيب:
1 -
أما النقطة الاولى فنقول بازائها: حقيقة ان الاضطراب لم ينقطع مدة العصر الروماني، خصوصا بعد ظهور الديانة المسيحية، ذلك أن الفتن كانت سياسية ثم تولدت مع هذا الدين فتن دينية. غير ان الاضطراب لم يكن مستمرا بصفة تمنع أيدي العاملين في التعمير. فما وقعت فتنة شغلت رجال العمران الا أعقبها سلم يمكنهم من مباشرة أعمالهم. على أن أكثر الفتن إنما كانت بموريطانيا حيث تضيق المملكة الرومانية وتنحصر الى البحر. ونتائج الارض بهذا القسم كانت قليلة. وتلك النتائج المدهشة من زروع واشجار إنما كانت بالجهات التي تمكن منها الحكم الروماني فقلت ثوراتها. والخلاصة انه لا منافاة بين وجود الثورات وكثرة الثمرات.
2 -
واما النقطة الثانية فنقول عنها ان ذلك العمران لا يزيد في فضل الرومان بل هو عندي بعكس ذلك: يدل على جور الرومان وضعف انسانيتهم. وذلك ان تلك النتائج ان لم تكن كلها من أراض مملوكة للرومان فجلها لهم من غير شك. والاراضي الرومانية انما كان العامل فيها يد البربر اما بصفة عملة مملوكين واما بصفة فلاحين مكترين وكلاهما تحت الضغط الشديد. فأي فضل للرومان في هذا العمران؟ الارض المنتجة بربرية الاصل واليد المستنتجة بربرية