الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
9 - مصينيسميا
(201 - 149)
مصينيسا بن غولة بن نارفاس. ربي بقرطاجنة. وكان سلفه حليفا لدولتها. فخاض مع القرطاجنيين حروبهم مع الرومان بالاندلس.
وقائد الرومان بالاندلس سبيون الأفريقي. وقد شاهد ما لمصينيسيا من القدرة الحربية. فصار يخاطبه في ولاء رومة. واتفق أن وقع مصيفا ابن أخي مصينيسا أسيرا بيد سبيون سنة (207) فسرحه تقربا من عمه. كل هذا ومصينيسا محافظ على ولائه لقرطاجنة.
وفي سنة (206) توفي غولة وأعقبته ثورة مزوطيل. فلم تحافط قرطاجنة على أمواله ومملكته. وذلك استخفافا بمصينيسا الذي لولا اشتغاله بخدمتها لم يقع ما وقع بمملكته. فغضب لذلك واضطر لمحالفة الرومان.
رجع مصينيسا من الاندلس ومر بموريطانيا وطلب من ملكها بوكار شرذمة من الرجال لحمايته في طريقه. فأمده مصانعة. وأغذ السير حتى دخل وطنه. فهرع إليه أنصاره.
وبدخوله وطنه دخل في حرب قريبه مزوطيل والملك الصوري لكومسيس. فكان النصر حليفه وفر ابن عمه لكومسيس الى صيفاقس فأمده وأعاد الحرب ثانية. فعادت عليه الهزيمة. وبعد أن رأى مصينيسا عجز ابن عمه عن الحرب رق له وقربه وأشركه في الحكم. فجمع بذلك شمل أسرته وأعرب عن دهائه وحكمته.
لم يكن صيفاقس ولا القرطاجنيون ليرضوا بوجود مصينيسا على رأس حكومة مصيليا. ولم يجدوا سبيلا لاخذه من ناحية التفرقة والمشاغبة عليه برجل من عشيرته. لانه سد هذا الثلم بالتساهل مع
ابن عمه. فرأوا أن يبادروا اليه قبل استفحال أمره. فجمع له صيفاقس الجموع وحاربه مرارا حتى أخرجه من مصيليا والتجأ الى السرت الاصغر.
أخرج صيفاقس مصينيسا من عاصمته كما أخرجه هو قبل ذلك بنحو ثماني سنوات. واشتغل بالسرت في طائفة من أصحابه بشن الغارات في تلك الجهات الى أن جاء سبيون الى أفريقية فانضم له وحارب معه حتى سقط صيفاقس في يده وعاد منصورا ودخل قرطة عاصمة سلفه. واعترف له الرومانا بالسيادة على مصيليا. ومنحت مصيصيليا لفرمينة. وفي سنة (158) استقل بملك مصيليا ومصيصيليا كما كان والده أستقل بهما قبل.
اتسحت من ذلك الحين مملكته وصارت تشمل ما بين طرابلس ومراكش خلا ما كان من التراب النونسي تحت قرطاجنة. وبقي على محالفته لرومة. فكان يمينها في حروبها خلف البحار بالرجال والافيال والحبوب، يرسلها مع أبنائه ليتعرفوا الى الرومان ويقفوا على طبائعهم في وطنهم وسياستهم في عاصمتهم. وكان شيوخ رومة يجازونه على اعاناته المادية بهدايا شرفية من تيجان ذهبية وقضبان عاجية وكراسي عاجية، وعلائل مطرزة بالذهب وحلل.
وكما كان يعينها تلك الاعانات كان يعترف بسيادتها ويقول: " ان رومة هي المملكة الحقيقية. وليس لي من مملكتي الا الاستغلال ".
وكل هذا منه مصانعة وخداع اقتضته السياسة. أما غايته الحقيقية فهي الاستقلال بملك أفريقية الشمالية والقضاء على القرطاجنيين وطرد المطامع الرومانية. وقد أدرك الرومان منه هذه الغاية فاستخدموه في اضعاف قرطاجنة عدوهم القوية. ولما فتحوا
مقدونيا طلب مصينيسا من شيوخ رومة الاذن في زيارة عاصمتهم ليقدم قربانا للالهة " جوبيتر "(كوكب المشتري). فلم يرضوا ذلك الطلب- أظن لأسرار سياسية- وأجابوه بأن بوطنه آلهة فليتقرب لها ان شاء.
كانت اعانة مصينيسا لرومة على ضربين: إعانات خارج أفريقية غرضه بها مخادعة رومة بابداء صداقته لها، واعانات بأفريقية غرضه بها اضعاف قرطاجنة كي يتمكن من تنفيذ برنامجه الاستقلالي. فأعانها في حرب زامة التي كانت للرومان على القرطاجنيين. ووقع بينهما ذلك الصلح الذي اشتمل على المادة السادسة لفائدة مصينيسا. ومن ذلك الحين أخذ في تنفيذ برنامجه. واستعد له بتنظيم الجيش وتنشيط الفلاحة والتجارة. وصار يتقدم نحو قرطاجنة ويختزل من أراضيها. فرفعت شكواها منه الى رومة. وكررتها مرارا. فكانت رومة تغضي عن الاجابة أحيانا، وتعد على قرطاجنة مساعدة حنبعل لامير الشام أخرى. وأخيرا وجهت ثلاثة من الخبراء لينظروا في قضية قرطاجنة ومصينيسا. فلم ينصفوها وأبقوا له ما ملك من أراضيها.
وما زال مصينيسا على غاراته في تراب قرطاجنة. وهي تكرر شكواها منه لرومة حتى استمعت لها ووجهت ثلاثة خبراء أيضا. وكانوا يريدون تأدييد قرطاجنة لانهم يخشون من استفحال سلطان مصينيسا والقضاء على مطامعهم في أفريقية اذ كانوا لا تخفى عليهم غاية. وكانوا يظنون قرطاجنة في حالة بؤس وضعف بحيث لا يخشون جانبها. فلما نزلوا بها وشاهدوا حسن حالتها خلاف ما كانوا يظنون رأوا أن انصافها يعزز قوتها. وذلك مما يدفعها في المستقبل لتجديد الحرب مع دولتهم. فعدلوا عن قصدهم وتركوا ما كان على ما كان.
إذ ذاك عزمت قرطاجنة على أن تنصف نفسها بنفسها. فسعت
في لم شعثها. وأخرجت من عاصمتها شيعة مصينيسا الذين كانوا يدعون الى حماية التراب القرطاجني من الرومان بالدخول في طاعته والاستظلال برايته.
غضب مصينيسا من طرد حزبه. وأرسل الى قرطاجنة اثنين من أولاده احتجاجا على ذلك. فقوبلا بكل ازدراء وامتهان. إذ ذاك أرسل ولده غولوسة الى رومة مخبرا لدولتها بما صنعت قرطاحنة. فأرسلت رومة اليها تهددها بالحرب ان هي نقضت اليوم ما أبرمته بالامس.
لم تحفل قرطاجنة بهذا التهديد. ولم يترقب مصينيسا ما يكون من رومة. فهجم على الحدود. وخرج اليه صدر بعل بخمسة وعشرين ألفا من المشاة وأربعة آلاف فارس. فاقتتل الفريقان. وبرق لصدر بعل بارق الانتصار أولا. ثم استحر القتال. ولم يتبين غالب من مغلوب. فاراد صدر بعل أن يخاطب- وهو قوي- عدوه في الصلح. فأجابه مصينيسا بطلب رد الاسرى. فامتنع من ذلك. وعاد الفريقان للقتال. فانجلت المعارك عن هزيمة صدر بعل. فطلب الصلح من جديد. وتم على الصفة الآتية:
1 -
رد الاسرى من غير فداء.
2 -
اعادة المنفيين من حزبه لقرطاجنة.
3 -
غرامة حربية مقدارها خمسمائة حمل من الفضة في مدة خمسين سنة.
4 -
وضع السلاح.
عاد القرطاجنيون بعد ذلك الى عاصمتهم. وبينما هم سائرون اذ هجم عليهم غولوسة. ففتك بهم فتكا ذريعا. وذلك سنة (150).
بلغ خبر هذه الحرب الى رومة. فادعت على قرطاجنة اما لم تحترم مواد الصلح الواقع بعد حرب زامة. حيث تمهدت إذ ذاك أن لا تحارب مصينيسا. ووجدت بذلك وجها لفتح حرب عليها. تلك الحرب التي انتهت بتدمير قرطاجنفوذوبان القرطاجنيين في غيرهم.
لزم مصينيسا في هذه الحرب البونيقية الاخيرة الحياد. فلم يعن الرومان. وهو الذي كان يعينهم في حروبهم خلف البحار. ذلك أنه كان يأمل أن يكون هو المالك لقرطاجنة تتميما لبرنامجه في الاستقلال بشمال أفريقية. فان لم يحصل ذلك عاجلا فجوار قرطاجنة السلمية الضعيفة خير له ولجنسه من جوار الرومان الحربيين الاقوياء.
في سنة (149) أحس مصينيسا بدنو أجله. فأرسل الى سبيون الاميلي- الذي سيكون فاتح قرطاجنة- ليوصيه على أولاده. فتوفي قبل وصوله.
كان مصينيسا ملكا عظيما ذا سياسة ودهاء وادارة ونظام وعناية بالفلاحة والتجارة، صبورا على الشدائد ثابت العزيمة، خاض غمرات الاهوال ولجج الخطوب بقوة جنان ورباطة جأش، حتى تغلب على أعدائه وأورث بنيه ملكا ثابتا ونفوذا عريضا. كان لا يفرط في حظه من الملاذ ان ابتسم له الدهر، ولكن مع يقظة وحذر، فلا يغفل عن أحوال مملكته خوفا من تدبير ثورة. وكان له أسطول وجنود منظمة وسكة مطبوعة باسمه. وتلاث آية الاستقلال. اذ لو كان تحت الرومان لكانت السكة باسمهم.
تعلم الفينيقية أيام كان بقرطاجنة في صباه. فكان ولوعا بها. واتخذها لغته الرسمية ونشرها في مملكته. ومع ذلك لم يكن
أيام ملكه ميالا إلى الفينيقيين ولا متساهلا معهم في استقلاله. بل كان يراهم شامة سوداء في أديم مملكته. فلذلك حاربهم وطمع فيما تحت تصرفهم.
وهكذا فليكن حب الجنس. فلا يستبدل الحر بجنسه جنسا تعلم لغته وآدابه. وانما عليه أن ينشر ما راق له من آداب تلك اللغة بين قومه مع المحافظة على جنسيته.
كان هذا الملك حلو الفكاهة رقيق القلب مع الصبيان مر الجد شديدا على من يمس استقلاله، متقشفا في نفسه متأنفا في مظاهر ملكه، فقد اتخذ بدار المملكة الخدم والحشم والخيل، ليبهر العامة حتى لا تطمع في خلع طاعته.
وكان قوي البنية: ولد له وهو في سن (86) وتولى رئاسة الجند والحرب وهو في سن (88) ومات بعد ما جاوز المائة. وقيل بلغ من العمر (89). وعلى رواية انه حارب صيفاقس سنة (212) وعمره آنذاك سبع عشرة سنة فتكون ولادته سنة (228) ويكون عمره (79) فقط.
واختلف في سنة ولايتة أيضا: فقيل سنة (201) وقيل سنة (207). والظاهر ان صاحب الرواية الثانية اعتمد بما كان من ولايته قبل سقوط صيفاقس. ولكن من المتفق عليه بين صاحبي الروايتين أن مصينيسا لم يرجع من الاندلس إلا سنة (206). وهي السنة التي جلس فيها على عرش قرطة حتى شرده صيفاقس.
والخلاصة أن جمهور المؤرخين اتفقوا على مدحه ووصفه بالعظمة واستحقاقه للملك. قال بيروني عن فرنال: " أن مصينيسا لم يعن الرومان إلا بقصد اسقاط قرطاجنة عدوته القريبة. ولو قدر له أن يعيش أكثر مما عاش خمسين سنة لحارب الرومان أيضا مثل ما فعل يوغووطة".