الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الاب مسناج: وقد استبشر بانتصاره للوثنية بربر أفريقية الشمالية: ولقبوه "محيي القرابين". وأظهرت مدن كثيرة استبشارها بذلك. وبعث مجلس بلدية تمغادي الى يوليانس تهانيهم في مجالس اخرى. وقد كان أكثر الولاة بنوميديا وموريطانيا وأغلب المتوظفين بالمجالس البلدية في أوائل القرن الخامس مسيحيين.
قال الاب مسناج: "ومداوروش كانت كلها وثنية. وهي العاصمة العلمية لوطن أغسطين. ووجدت آثار هياكل وثنية من القرن الخامس، تدل على عظمتها. في حين ان الكنائس اذ ذاك في غاية الفقر".
وقد تقدم ان الديانة المسيحية لم تتجاوز حدود المملكة الرومانية. وقد قسم الاب مسناج هذه المملكة الى ثلاثة أقسام:
1 -
مدن رومانية، كانت الاغلبية فيها مسيحية، ولكنها ممزوجة بالعقائد الوثنية.
2 -
بوادي رومانية لم يتمكن بها نفوذ الرومان. كانت الاغلبية فيها للوثنية.
3 -
جهات غير خاضعة للرومان. هذه لا أثر للمسيحية بها.
وقد اتضح ان الاغلبية الساحقة بالجزائر في جانب الوثنية، وان الاقلية المسيحية لم تكن خالصة، وان جلها من اتباع دونتوس الذين يرمون الى غرض سياسي.
وقد عاشت المسيحية على أقليتها وعدم خلوصها وتعدد مذاهبها الى أن جاء الاسلام فقضى على الجميع بسرعته المدهشة.
21 - ذكر بعض رجال البربر في الدور الروماني
قد رأيت ما كان البربر من رجال عظماء وملوك كبراء قبل أن يصابوا بكابوس الاحتلال الروماني. وقد ظهر منهم بعد ذلك الاحتلال
أيضا رجال في العلم وفضلاء في الدين وعظماء في السياسة ونحن نذكر لك ما وقفنا عليه من أسماء الجميع، وان كنا نأسف لفقدان تراجم حياة كثير منهم:
1 -
فمن رجال العلم الذين كانت لهم شهرة فرنطونس. كان أستاذ الامبراطور مرقس أوراليوس. وله سمعة بين جميع الطبقات في الفن الهندسي، وهو مولود بقرطة.
ومنهم أبوليوس. قال بيروني: "هو من أكمل الرجال وأعظمهم فائدة في عصره. وأحسن وصف له وأصدقه أن تقول: هو رجل مخترع مؤسس لمباد كثيرة". وكان قبل القديس أغسطين وأصله من مداوروش.
2 -
ومن رجال الدين نمفانيو، مغجيس، لسيتة، سناييس. هؤلاء من أهل القرن الثالث الذين اضطهدوا في سبيل الدين وقتلوا شهداء.
ومنهم دونتوس مؤسس المذهب المنسوب اليه. وسميه أسقف الديار السود.
وكان بقالمة ومصكولة (خنشلة) اسقفان كلاهما يدعى دونتوس. وكانا عصر تسليم الكتب المقدسة.
ومنهم أبطات أسقف ميلة. كان في عصر القديس اغسطين. وأعانه في حملته على المسيحيين المتهتكين. وترك تآليف ذات أهمية. وأهمها كتب في تاريخ مذهب دونتوس.
ومنهم القديس أغسطين. ولد اغسطين بتغاست وتعلم بمدوروش ثم انتقل إلى قرطاجنة ثم ذهب الى ميلان بايطاليا ثم عاد الى مسقط رأسه سنة (388). ونزل دار أبيه وجعلها ديرا يتعبد به. وفي سنة (391) سمي قسا بهبون، ومنح ارضا خارج المدينة ليبني بها ديرا،
ثم سمي اسقفا، واتخذ داره نفسها ديرا. وقد اشتهر هذا الدير وتخرج منه نحو عشرة أساقف. منهم البيوس بتغاست، وسفروس سمي بميلة سنة (396)، وفرتونتوس سمي بقسنطينة سنة (402)، وبوسديوس سمي بقالمة سنة (397) وهو مؤرخ حياة اغسطين وافوديوس بأزليس (وجل) في حدود سنة (400)، ونفاتوس بسطيفي قبل سنة (411).
ويقال ان أول من أحدث الاديرة بأفريقية القديس أغسطين، وكان من حزب الارثذوكس (سلفي) وانتصب للدفاع عن المسيحية. فرد على أدباء عصره الزارين عليها بكتاب سماه "مدينه الله" ومما جاء فيه في ماقام اثبات الاله قوله:"اني متحقق وجودي. ولا أخشى أن يقال اني غالط في ذلك. لان الغلط دليل الوجود"(1).
وارشد مسيحي ذلك الوقت الذين انحرفوا عن الدين وانغمسوا في الملاهي والخمور حتى كانوا يتعاطونها في المجامع الدينية. واشتد في حماسه الديني عليهم حتى عزم مسيحيو قرطاجنة على الفتك به. ومن أقواله في سبيل الارشاد: "ان الشهداء ترتجف قلوبهم من زجاجاتكم وآلات طبخكم واصطباحكم".
وناظر أصحاب دونتوس بالحجة وأغلق باب السباب الذي لا تخلو منه مناظرتهم سابقا وفتح باب النقد النزيه.
قال بيروني: "وهو أخطب خطيب لطيني وأكبر مفكري كل زمان". عاش القديس أغسطين حتى فتح الوندال. وحوصر ببونة في جملة المحصورين. وتمكن له الفرار فلم يرضه لنفسه ومنصبه. وبقي مع المحصورين إلى أن أدركه أجله سنة (430).
(1) عثرت على هذه الجملة الفلسفية في كتاب الدين الطبيعي. نقلها عنه مؤلفه جول سمون، ص7.
3 -
ومن رجال السياسة لسيوس كييتوس وأرديون. وقد ذكرا سابقا. ومنهم فرموس وجلدون. وقد أخرنا ذكرهما الى هذا الفصل لان أنصارهما كانوا من حزب دونتوس. فرأينا ان نذكرهما بعد الكلام على ذلك الحزب.
كان رجل بربري يدعى نوبال ملكا على القبائل الخمس. وتوفي في عشرة السبعين من القرن الرابع، وترك أولادا، وهم: فرموس، جلدون، مسيزال، ديوس، صلمسيس، زامة وكلهم مسيحيون.
وفي سنة (372) ثار فرموس على الرومان بجبال جرجرة. وأعانه أهل الموريطانيتين واتباع دونتوس. فجمع من الجنود نحو عشرين ألفا ذهب بها الى قيصرية فحاصرها ثم افتتحها وحرقها. وامتدت الثورة بنوميديا. وأراد والي قرطاجنة مقاومتها بالحرب فانهزم. ونادى البربر بفرموس ملكا.
بلغ خبر هذه الثورة الشاملة للوطن الجزائري مسامع الامبراطور والنتنيانس، فوجه جندا تحت رئاسة ثأودوسيوس فنزل هذا القائد جيجل وتوجه منها الى سطيف سنة (373). والتحق به جلدون ومعه جنده ليعينه على أخيه!
وكان مع فرموس أخواه مسيزال وديوس. ولكنه رأى نفسه ضعيفا عن الحرب فراسل ثأودوسيوس في الصلح فلم يقبل، وتحاربا. وبعد معركتين أعاد فرموس طلب الصلح فقبل ثأودوسيوس. وانعقد الصلح بينهما على الصفة الآتية:
1 -
اهداء مدينة الجزائر (اقسيوم) لثأودوسيوس.
2 -
تنازل فرموس عن تاجه.
3 -
أداء مال كثير لثأودوسيوس.
4 -
اعطاء رجال رهنا لتنفيذ مواد الصلح.
ذهب ثأودوسيوس بعد الصلح الى قيصرية ليجددها وأخذ أعوان فرموس بها بالقتل والجلد. وحاول فرموس تجديد الثورة فلم يفلح. ولما أيس خرج مشرقا لينجو بنفسه. فراصده الرومان، فعاد الى وطنه وأوقد نار الثورة من جديد، وجمع نحو عشرين الفا هزم بها ثأودوسيوس ففر في جناح الظلام وجمع عساكره بعيون بسام. واشتد غيظه على من لم يثبت منهم في المعركة فقتل فريقا وحرق آخرين بالنار. وجمع الباقين بسطيف ونظمهم تنظيما حسنا.
كان رجل بربري يدعى اغماسن رئيسا لقبيلة تقطن جنوب جرجرة. وكان هذا الرئيس قد أعان بقبيلته فرموس.
في سنة (375) ذهب ثأودوسيوس الى تلك القبيلة وأرشى رئيسها ليقبض له على فرموس. فلم يخف على فرموس ضعفه وعجزه فانتحر، ولم يجد اغماسن الا جثته فوجهها على بعير لثأودوسيوس.
قد يكون اغماسن خائنا لفرموس لما عرف به رؤساء البربر من التخاذل. والظاهر عندي انه غير خائن، بل هو سياسي حاذق لانه علم عجز فرموس وضعف قبيلته عن المقاومة وان الرومان سينتقمون منه ومن قبيلته، فقبل رشوة ثأودوسيوس ليكون له فضل على الرومان فيأمن على نفسه وقبيلته.
فرموس من رجال البربر المعدودين. وقد مازجه شيء من الخلق الروماني فكان محبا للرفاهية متمتعا بالملذات كأنه قيصر. ومع ذلك قاسى في سبيل الاستقلال البربري أهوال الحروب ثلاث سنين.
فرموس وتقفاريناص ويوغورطة ومصينيسا رجال متشابهون في الجلد ومقارعة الاهوال وعدم الخضوع للعدو وقوة الرجاء في النصر. ومن لم يفلح مات شهيدا في سبيل الاستقلال.
هكذا انتهت حياة فرموس أما أخوه جلدون فقد بقيت العلائق حسنة بينه وبين ثأودوسيوس، والمكاتبة سائرة بينهما. وكانت له بنت تدعى "صلفينة" ربيت مع أبناء ثأودوسيوس. وتولى هو خطبتها لبعض قرابته فزوجها أبوها، وأصبحت بالقسطنطينية. وتقوت بذلك العلاقة بين الزعيم البربري والامبراطور الروماني.
وفي سنة (387) سمي جلدون رئيسا أعظم على فيلقين رومانيين وفي سنة (395) توفي ثأودوسيوس. واقتسم مملكته ابناه ارقاديوس على الجهات الشرقية قاعدته القسطنطينية وهنوريوس على الجهات الغربية قاعدته رومة.
هنالك تبين ان جلدون لم يكن محبا للرومان رغم حظوته عند أمبراطورهم. وأعلن الحرب على هنوريوس. وقطع عن رومة ما كانت تستورده من حبوب أفريقية. وعطله بقرطاجنة.
تهيأ وزير هنوريوس الى حرب جلدون وتهيأ الدونتسيون لنصرة جلدون. وشقي الكاثوليك اذ ذاك لانهم من دعاة السادة الاجنبية.
وفي هذا الحين ذهب مسيزال الى ايطاليا ولم يعلم مراده فظنه جلدون يتجسس عليه للرومان، فقتل له ولدين، وتظاهر بخضوعه للامبراطور.
وجد وزير هنوريوس في قتل ولدي مسيزال أحسن فرصة للانتقام من جلدون. فكلف مسيزال بحربه وأعطاه خمسة آلاف جندي.
وكان لجلدون من الجنود سبعوق ألفا. وتقابل الاخوان بجيوشهما نواحي تبسة. وأعجب جلدون بكثرته فلم ينظم جيشه وخفي عليه ان النظام هو القوة. فانهزم جمعه وفر هو قاصدا